"الفيروس المتوَّج" يرسم حدود الدولة والإنسان

Coronavirus on top of US currency

الذين درسوا الطب قبل ستينيات القرن الماضي لم يشاهدوا الطفرة الجبارة التي بدأت بعد ذلك بقليل في علم الفيروسات، الذي تابع نموه وتمدده في مجالات حساسة كالمعالجة الجينية وصناعة الدواء والمحاليل التشخيصية. واليوم يقف العالم مندهشاً أمام فيروس طافر متَحدٍّ يشعل واحدة من أخطر الثورات.

إنه الفيروس الوسيم المتأنق الذي يحمل هالة جعلته يشبه ملِكاً غويّاً شريداً، لدرجة أن العلماء استلطفوا تسميته بالفيروس المتوّج. إذن الاسم هو "كرونو" باللاتينية، وهي ليست ببعيدة من "كراوند" الإنجليزية. وبأي المسالك أخذنا؛ فإن أفضل ترجمة نحصل عليها هي ‘الفيروس المتوَّج’.

وما دمنا قد استخدمنا كلمة ملِك فلا بد أن يكون في الأمر سياسة، وفي الحقيقة إن عالم الفيروسات كعالم السياسة تكثر فيه الهَبّات والانتفاضات والثورات، تظهر أخبارها أحيانًا في وسائل الإعلام، وتضيع أحياناً أخرى دون أن تترك بقية من ذكرى.

تنتفض الفيروسات عندما تجري تحويرات في بنيتها تمنحها مقدرات أو صفات جديدة، وتنتشر انتشارًا واسعًا أو محدودًا حسبما يتيسر لها من مُعِينات ومن حاملات وناقلات، فالفيروسات كأي خلق طفيلي لا يهدر وقته في العمل لتزويد نفسه بحاجاته، فيلجأ إلى السرقة أو قطع الطريق أو كسر المنازل، ليُبقي نفسه وعقبه حياً.

أما عن قدرة الفيروس على الانتشار ففيها تفاوت؛ فإذا كان الفيروس لا ينتشر إلا بوخزة بعوضة فإن انتشاره يكون محدوداً بنمط انتشار البعوض المعني في بيئته الحيوية، وفي هذه المسألة تحديدا يُظهِر صديقنا المتوَّج ولعاً غير لائق بملِك، فهو لا يستنكف من أن يركب كل وسيلة نقل متاحة في الهواء الطلق.

إنه قادر على أن يقف فوق كل سطح، وأن يمتطي كل مركوب مذلَّل وغير مذلَّل، هو في كم قميصك وفي باطن حذائك، إنه في لهاتك وأنفك وداخل خلاياك، وأنت لا تدري بوجوده أصلا، دعك من أن تسعى إلى مواجهته في مسرح مكشوف.

نحن -سكان الأرض- كلنا معتقلون في واحد من أشد مشاهد التاريخ رهبة. موسى عليه السلام فرق البحر بعصاه في مشهد توقفت لجلاله الأنفاس، لكنه مشهد رأت تفاصيلَه ثلةٌ من الخلق ثم طوته الآماد إلى أن جدد الله خبره في الإنجيل والقرآن. كذلك كان خبر نوح وهو يُعِدّ الفُلْك وينشر أشرعتها. آياتٌ خرقت الأسبابَ ثم تلاشت في ذاتها وبقيت عِبرتُها.

لكن الحدث الذي نحن في ظلاله وتحت وطأة حقيقته في هذه اللحظة حصراً لا يدع مجالا للشك أو التأويل، أو يبرر لاستدعاء الميتافيزيقيا. إنه حدث مُمْعِن في الجلال بما فيه من إحالات إلى مشاهد القيامة، حيث الحدثُ حقيقةٌ ورمزٌ في ذات الوقت، وحيث كل فرد يحمل أوزاره بنفسه، وينتظر دوره في جمهرة قلّ فيها الصديق وعزّ الرفيق.

تنتفض الفيروسات عندما تجري تحويرات في بنيتها تمنحها مقدرات أو صفات جديدة، وتنتشر انتشارًا واسعًا أو محدودًا حسبما يتيسر لها من مُعِينات ومن حاملات وناقلات، فالفيروسات كأي خلق طفيلي لا يهدر وقته في العمل لتزويد نفسه بحاجاته، فيلجأ إلى السرقة أو قطع الطريق أو كسر المنازل، ليُبقي نفسه وعقبه حياً

ربما كان الأجدى -بدلا من الاستسلام لحالة هستيرية- أن نُجري تقديرَ موقف سريعا كما يفعل العسكريون قبل أن يخطوا خطوة أو يتخذوا إجراء هجوميا أو وقائيا. نحن -بسبب الغزو الفيروسي الشامل- أمام الحقائق التالية:

– ربما لأول مرة يتساوى البشر في تعرضهم لضربة خافضة رافعة، لا يستطيعون قياس عمقها ولا تقدير امتداداتها تحت الأرض أو في السماء، وليس بمقدور سكان الأرض، ولا بمقدور حكوماتهم، أو جيوشهم، أو مراكز أبحاثهم، أو الصالحين والصالحات من رجالهم ونسائهم، أن يجدوا حلاً للكارثة التي حلت بهم بتدبير واحد.

– الفيروس الغازي عدواني وله مؤهلات عدوى وانتشار عالية عبر الهواء، الذي هو العنصر الأوفر وجوداً على وجه الأرض.

– الفيروس انطلق من الصين التي هي أكبر تجمع سكاني على الأرض به مليار وأربعمئة مليون شخص، مما يعني ضخامة الجرعة الأولى التي قد تلقاها العالم من الصين وعبرها.

– نتيجة للعولمة المستمرة للنشاط الإنساني في مجالات التنمية والتصنيع والتجارة والتعليم والسياحة.. إلخ؛ فإن حوالي ثلاثة ملايين نسمة من سكان العالم يسافرون بالطائرات كل يوم، حسب إحصائيات الاتحاد الدولي للنقل الجوي. وهذا يعني أن ثلاثة ملايين شخص -على الأقل- تتقاطع آثار أقدامهم في مطارات العالم وفنادقه يومياً. ويمكن صياغة متواليات رياضية تخمّن المديات الزمنية التي تصل فيها أعداد المصابين إلى الملايين، أو عشرات الملايين، أو حتى مئات الملايين.

– الكارثة التي أطبقت على العالم بدأت إحداثياتها الرقمية الآن تتضح، فعند نشر هذا المقال بلغ عدد الموتى -من أثر العدوان- أكثرَ من مئة وعشرين ألفا، والعدّ يربو. ضحايا الساعة الأولى للقنبلة الهيدروجينية في ناغازاكي اليابانية بلغوا ثمانين ألفاً. ولا غرابة؛ فالفيروس يملك المبادرة الكاملة للهجوم، بينما كل أسلحة خصومه لا تأثير لها عليه.

– جيش الفيروسات الغازي لا أحد يستطيع أن يخمّن مقاصده النهائية، هو كأسراب الجراد: يسوقه وعي غريزي إلى مواطن الغذاء والتكاثر، وليست له قيادة يمكن التفاوض معها، وليست له لغة صوتية أو غير صوتية مشتركة، يستوي لديه الرؤساء والدهماء، والأقوياء والضعفاء، ولا فرق عنده بين رئيس جمهورية ميكرونيسيا والرئيس الأميركي، وليس هناك مغزى برهاني لأفعاله. البعض يقترح أنه كائن جمعي تتحكم في اختياراته سيرورة داروينية، لكن فحص هذا الافتراض الآن مطلب عسير.

تتبنى هذه المقالة الزعم بأن حدث كورونا -برغم نتائجه المأساوية الآنية- قد تتمخض عنه نتائج مختلفة على المدى البعيد، لكن هذا مشروط بتشجيع اتجاهات الجدل والتجريب بالقدر الذي يعين على تأسيس مفاهيم ونُظُم جديدة تجعل الإنسان أكثر أماناً وثقة بنفسه.

ومن بين أجندة التغيير الجدلُ الثري الذي يجدد تعريف حدود الدولة وحدود الإنسان. وبالقطع؛ ليست الحدود المذكورة هي تلك المستندة إلى الجغرافيا أو ملكية التراب، وإنما الحدود هي الغايات التي نتوخاها، والمفاهيم والمعايير التي نتواضع عليها، والأهم من ذلك القيم التي تقاس بمقتضاها أعمال الإنسان من حيث الكفاءة والعدل في الأداء والاقتضاء.

وبالنسبة للإنسان المتدين؛ فبمقدوره نقاش القضايا الخصبة التي تُحذف في العادة من أي نقاش ذي بعد ديني: من العناوين المناسب إدراجها هنا قيم العمل والإنتاج وموضعها من المثال الديني، ومثل الدور المتعاظم للعلم والفن، إضافة إلى قضايا أخرى ما تنفك تكتسب وميضاً وحيوية، مثل التاريخانية والعلمانية.

العلاقة المأزومة بين الفرد والدولة -بسبب الوطأة الثقيلة للدولة من ناحية وضعف كفاءتها وأهليتها من ناحية أخرى- ستتردى أكثر في سياق المفاضلة بين الحرية والاستقرار السياسي الضروري لأي تجربة نهوض حضاري، والأغلب أن تنتصر -ولو لحين- حجة الذين يقدمون الاستقرار السياسي.

من بين أجندة التغيير العالمي جراء كارثة كورونا الجدلُ الثري الذي يجدد تعريف حدود الدولة وحدود الإنسان. وبالقطع؛ ليست الحدود المذكورة هي تلك المستندة إلى الجغرافيا أو ملكية التراب، وإنما الحدود هي الغايات التي نتوخاها، والمفاهيم والمعايير التي نتواضع عليها، والأهم من ذلك القيم التي تقاس بمقتضاها أعمال الإنسان من حيث الكفاءة والعدل في الأداء والاقتضاء

كل ذلك سيُنظر إليه على خلفية محمّلة بالغبن جرّاء الكوارث التي أحدثتها تجارب الديمقراطية المزيفة في بعض دول شرق أوروبا السابقة، والتي فرّخت تحت ريشها تنظيمات فاشية صريحة، إضافة إلى لوثة الشعبوية التي غذتها تيارات الليبرالية الجديدة. وبكلمة؛ فإن القرن القادم سيكون أقل ديمقراطية من القدر الذي نرجوه. الكابح الأهم الذي سيعمل عكس تيار الاستبداد هو التقدم العلمي والتقني وحلفه الشرس مع الوسائط الاجتماعية.

قبل وقت طويل من الحدث الراهن؛ اشتدّ جدل حول المؤسسات الدولية والإقليمية. وقد قُدمت مرافعات كثيرة في نقد الأمم المتحدة على خلفية ترهلها وقلة كفاءتها وكونها من مخلفات الحرب الباردة، ولم تُخيِّب الأمم المتحدة رأي ناقديها فكان أداؤها أقل كثيراً من المتوسط أثناء أزمة الفيروس.

وإذا أخذنا منظمة الصحة العالمية -باعتبارها الكتيبة المتقدمة التي كان من المفترض أن تتولى التنسيق لصد عدوان الفيروس- فلن نجد سوى الاتهامات والنقد. لذلك يجب إعطاء أولوية متقدمة لإصلاح المؤسسات الدولية والإقليمية، في سياق الدعوة إلى إصلاح النظام العالمي برمته.

على المستوى القُطْري؛ ستتعرض الدعوات الفدرالية -خاصة الفدرالية الثقافية- للحرب والتضييق، بينما ستنشأ وتنمو دعوات إلى أممية غير أيديولوجية تربط بين الشعوب على أساس الميول السلوكية، أو المهارات الترويحية، كالرياضة والفنون أو العمل الطوعي.

لن يُعَدّ متحاملا مَن يصف ما أوردناه بأنه مزيج من الخيال والتخمين. حسنا؛ الناس يتفاوتون في تقديراتهم لأهمية الخيال، والعبرة هنا بالمآلات المتوسطة والبعيدة التي يراها من يراقب حركة الأيام والأزمان. التاريخ يمضي طفرة طفرة، حتى إذا تراكمت أسباب انقلابه انطلق غير متمكث ولا متريث لأحد.

كل موجة داء أو بلاء، كل جدل يقود إلى حرب، كل نازلة تفرض إجراءات طوارئ دولية، كل نزاع نقابي يقود إلى إضراب عن العمل، كل صفوف انتظار للمواد الضرورية، كل تعطل لحركة الانتقال، كل جدل مستنير أو غبي، كل اختراع أو تقنية جديدة، كل علاج يفتح آفاقاً لصحة الإنسان ويبارك في عمره، كل غزوة للفضاء تفتح أقطار السموات والأرض بمشيئة الله، كل عمل ينشر المحبة في الناس أو يثير الشر والبغضاء؛ كل ذلك وأدنى منه وأعظم هو أدوات تحرك التاريخ، أفلا تكون في غزوة الفيروس المتوَّج ذكرى لكل مطالب بالتغيير، فإن "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.