الدولتان الدينية والمدنية.. أيهما أقرب لمقاصد الإسلام؟

Tunisia's new parliament members take an oath in Tunis, Tunisia November 13, 2019. REUTERS/Zoubeir Souissi

هل يمكن في ظل المنظومة العقدية والفكرية والقيمية التي جاء بها الإسلام أن تكون الدولة دولة دينية ثيوقراطية؟ أم إن تلك المنظومة أقرب إلى تقرير مبدأ الدولة المدنية؟ وما هو مصدر الشرعية في نظام سياسي منسجم أكثر مع المنظومة المشار إليها: هل هو الحاكمية الإلهية والشريعة؟ أم هو الشعب؟ وهل السيادة لله أم السيادة للأمة؟

وهل هناك تعارض بين القول باستناد الدولة إلى المرجعية الإسلامية وبين تقرير مبدأ السيادة للأمة؟ وهل يمكن الجمع -في الوقت نفسه- بين القول بأن من وظائف الدولة ومهامها الأساسية في المجتمعات الإسلامية "حراسة الدين والدنيا" بلغة القدامى، وبين تقرير مدنية الدولة؟

هل الإمامة مبحث من مباحث العقيدة ومن ثَم تدخل في أصول الدين؟ أم إنها مبحث من مباحث الفروع، ومن ثَم فهي داخلة تحت النظر الفقهي المتغير، أي في نطاق النظر الاجتهادي المتواصل الذي لا يتوقف؟ وهل جاء الإسلام بنموذج دستوري للدولة؟ أم إنه أبقى أمر النظر فيه موكولا للأمة وعلمائها في نطاق المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية؟

يتعين -من أجل الإجابة على هذه الأسئلة- البدءُ أولا بإبراز حقيقة ومضمون الحكم أو الدولة الثيوقراطية، عبر التساؤل: هل يقبل الإسلام بالحكم الثيوقراطي؟ سواء من حيث مصادره وأصوله، أو من حيث ما استقر عبر التاريخ عند علماء المسلمين؛ وهل يقبل تبعا لذلك بقيام دولة دينية يكون فيها الحاكم حاكما باسم الله؟

بنظرة إلى مفهوم الحكم والدولة الثيوقراطيين لدى علماء السياسة؛ فإن الثيوقراطية نظرية سياسية تقوم على أن شرعية الحكم والحاكم تتأسس على كون من يمتلكها ويمارسها يفعل ذلك انطلاقا من حق إلهي، وأنه في تصرفه وممارسته السياسية يصدر عن تفويض من الإرادة الإلهيّة. إن الحكم الثيوقراطي تبعا لذلك هو بطبيعته حكم مطلَق

ويتعين التساؤل ثانيا: هل يقبل الإسلام -أصولا وتاريخا وثقافة وحضارة- بالفصل التام بين الدين والدولة، وبين الدين والسياسة، وبين الدين كمجال لتدبير ما هو خاص، والسياسة باعتبارها مجالا لتدبير ما هو عام، وإنكار أي إمكانية للتقاطع بين المجال الخاص والمجال العام، أي بين الدين والدولة والدين والسياسة؟

ويتعين ثالثا تعريف الدولة الحديثة وطبيعتها وأصل نشأتها، من حيث إنها دولة علمانية شاملة قامت لمواجهة الحكم الديني المطلَق، وكيف انتهت -في بعض صيغها المتطرفة- إلى إقرار علمانية شاملة، ويتعين رابعا فحص مفهوم "الدولة الإسلامية" كما يتبناه اليوم عدد من الإسلاميين الذين يتكلمون عن أولوية إقامة الدولة الإسلامية، أو الخلافة حسب تعبير بعضهم.

وبنظرة إلى مفهوم الحكم والدولة الثيوقراطيين لدى علماء السياسة؛ فإن الثيوقراطية نظرية سياسية تقوم على أن شرعية الحكم والحاكم تتأسس على كون من يمتلكها ويمارسها يفعل ذلك انطلاقا من حق إلهي، وأنه في تصرفه وممارسته السياسية يصدر عن تفويض من الإرادة الإلهيّة. إن الحكم الثيوقراطي تبعا لذلك هو بطبيعته حكم مطلَق، يجعل للسيادة مصدرا واحدا هو الحاكم بأمر الله وباسمه.

والحكم الثيوقراطي يوظِّف نظرية "الحق الإلهي" من أجل ممارسة حكم وضعي مطلق، يمنع أي نوع من أنواع المساءلة أو الرقابة، ويصادر سيادة الشعب وسلطته وحقه الأصلي في تفويض الحاكم في تدبير شؤونه، بناء على تعاقد اجتماعي محدَّد المعالم، واضح الواجبات والمسؤوليات.

والحاكم في النظرية الثيوقراطية هو فوق المساءلة والمحاسبة، إذ إنّه ليس منتخَبا، ولا يمكن عزله أو إسقاطه لسقوط شرعيته أو نقصانها بسبب إخلاله بمقتضيات العقد الاجتماعي، لأنه هو صاحب السيادة المطلقة وليس الشعب، فهو غير مسؤول أمام أي إنسان آخر ولا أي مجلس ولا أمام الشعب نفسه، وهو فوق القانون، ولا يقبل النقد والاعتراض والنصح، لأنّه يحكم بإرادة إلهيّة.

وبذلك تكون الثيوقراطية -التي تعني التصرف السياسي وفق تفويض أو حق إلهي- أكثر تعارضا مع روح الدين ومقاصده العامة من أشد العلمانيات تطرفا.

وهناك عدة أنماط من النظريات الثيوقراطية، نذكر منها: النظرية القائلة بالطبيعة الإلهيّة للحكّام، ويعود ظهورها إلى الحضارات القديمة في روما وإيران ومصر والصين واليابان. وتتلخّص النظرية في تقديس الإمبراطور أو الملِك باعتباره الإلهَ نفسَه أو مَظهراً للإلهِ أو ابنَه أو ربيبَه، ولأنه صاحب سيادة وسلطة مطلقتين.

الحاكم في النظرية الثيوقراطية هو فوق المساءلة والمحاسبة، إذ إنّه ليس منتخَبا، ولا يمكن عزله أو إسقاطه لسقوط شرعيته أو نقصانها بسبب إخلاله بمقتضيات العقد الاجتماعي، لأنه هو صاحب السيادة المطلقة وليس الشعب، فهو غير مسؤول أمام أي إنسان آخر ولا أي مجلس. وبذلك تكون الثيوقراطية -التي تعني التصرف السياسي وفق تفويض أو حق إلهي- أكثر تعارضا مع روح الدين ومقاصده العامة من أشد العلمانيات تطرفا

ثم جاءت النظرية القائلة بالحقّ الإلهي المباشر والتي ظهرت بعد المسيحية؛ فلم تعد للحاكم طبيعة إلهية، بل إنّه إنسان لكن الله اختاره واصطفاه ومنحه السيادة والسلطة على البشر. وبذلك فهو صاحب سلطة مطلقة أيضاً، لأنّه يحكم بإرادة إلهية ويستمدّ سلطته من الله مباشرة.

وقد اعتنقت الكنيسة المسيحية هذه الفكرة، واستطاعت من خلالها بسط نفوذها وسلطتها على أوروبا، وإن كان الإمبراطور والملِك أو الأمير هو الذي يحكم في الظاهر. وبهذا الشأن يقول القديس بوسيه المعاصر كما قال ملك فرنسا لويس الرابع عشر: "إن الله هو الذي يعيّن الملك ويضعه على العرش"، وبعض ملوك أوروبا: "إننا لم نتلقَّ التاج إلاّ من الله، ولنا وحدنا سلطة القوانين ولا نخضع في عملنا لأحد"(انظر: الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، لإمام عبد الفتاح إمام).

ثم هناك نظرية الحقّ الإلهي غير المباشر، وقد ظهرت في أعقاب الصراع بين الكنيسة المسيحية وملوك أوروبا، وهو ما دفع مفكّرين سياسيّين -من أبرزهم القديس توما الأكويني- إلى القول بأنّ الله تعالى يختار الحاكم بواسطة الشعب. أي أن الإرادة الإلهيّة تتدخّل لتختار الإمبراطور أو الملك، ولكن ليس بشكل مباشر، بل من خلال اختيار الشعب له بتوجيه إلهي. وهذه النظرية تتمسّك بالفكرة العامّة للثيوقراطية، ولكنّها تحاول أن تعطي لنفسها مظهراً ديمقراطيا (انظر: الأنظمة السياسية المعاصرة؛ لعبد الغني بسيوني ويحيى الجمل).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.