بين العمى وكورونا.. من سيجيب عن أسئلة اختبارات إنسانيتنا؟

Irak'ın Kerkük kentinde koronavirüs tedbirleri- - KIRKUK, IRAQ - FEBRUARY 25: A woman and a young girl wear medical masks as a precaution to protect themselves from coronavirus in Kirkuk, Iraq on February 25, 2020. According to the latest reports 4 people infected with Coronavirus in Kirkuk, north of Baghdad.

كأمٍّ لطفلتين صغيرتين؛ تسرب إليّ الخوف عليهما من التعرض للإصابة بالفيروس الجديد "كورونا" (كوفيد 19)، فصرت أتصرف كزميلتي في العمل المغالية في الاهتمام بالنظافة، فهي تمطرنا دومًا بإجراءاتها الصحية لخوفها من العدوى في الأيام العادية.

تحتفظ الزميلة بزجاجة كحول برشاش ومناديل مبللة، ولا تٌقَبل أحدًا كما لا تدع رذاذ عطسة أحدهم في الأجواء من دون أن تمطرها بوابل من رذاذها الجاهز دومًا بما يعقم الأرجاء..، ولكن -منذ اللحظات الأولى لانتشار "كوفيد 19"- لم تفارقني أحداث رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو.. وكأنها تحدث الآن!

يحضرني ذلك الطفل الصغير الذي أصابه مرض العمى، وكيف عاش وسط إجراءات قاسية في مكان احتُجز فيه المصابون جميعًا من دون أمه.. كوالدة أشعر بمسؤولية حماية ابنتيّ من تلك الهجمة، وبوصفي إنسانة تؤمن بالقدر أعرف أن ما هو مكتوب سيحدث.

"الخوف ليس مستشارًا حكيمًا دائمًا"! حتى الآن؛ تركتهما تذهبان إلى الدراسة بينما امتنعت أمهات كثر عن ذلك، ويوميًا تمارسان حقهما في اللعب مع صديقاتهما بعد العودة من المدرسة، ومع تقدم الأيام ووصول هذا الوباء إلى مدينتنا ضبطتني متلبسة بأفكار وأفعال أخرى، يحركها الخوف وتكشفها التجربة وتحكمها الأخلاق.

صرت أقلق من صديقة ابنتي الآسيوية كلما دعتها إلى اللعب، وأسأل ابنتي الكبرى كل يوم عن زميلتها الصينية في الفصل من أي مدينة هي، وهل ما زالت تحضر دروسها اليومية؟

طاردتني أحداث الرواية في أحلامي، وتخيلت أصدقائي تحت الحجر، وآخرين يجوبون الشوارع الخاوية بحثًا عن الطعام والأمن، وسألت نفسي بصوت عال: كيف ستتحكم مشاعرنا ومبادئنا في تصرفاتنا تاليًا إن تفاقم الوضع؟

"الصعوبة لا تكمن في معايشة الناس ولكن في فهمهم"! تحدث ساراماغو في روايته عن مرض غامض أصاب رجلا كان يقود سيارته، وفجأة صار يرى بياضًا ناصعًا أسماه اصطلاحًا "العمى الأبيض"، وفي ظل غضب الجميع منه -لتعطيله حركة مرورهم من الإشارة التي فقد بصره عندها- وبمسحة إنسانية؛ عرض عليه رجل مساعدته وتوصيله إلى بيته، لنكتشف بعدها أنه لص سرق سيارة الرجل المسكين.

ينخلع قلبي، وتتضارب مشاعر الشفقة والخوف معًا وأنا أشاهد تلك اللقطات المصورة من المدينة التي يوصد الجيران فيها مداخل بنايات سكنية بأكملها على من فيها؛ هكذا من دون أي شفقة أو فرصة لحياة ربما تكون متاحة؛ لئلا يخرجوا ويتسببوا في إصابتهم هم، وهكذا حكموا عليهم بالموت!

في الرواية نشفق على الأخير ونلعن الأول، وتتسارع الأحداث فيكون الأعمى هو السبب في انتقال المرض إلى عموم الناس في بلدته، فقط لأنه قرر الذهاب إلى الطبيب لفحص حالته الغريبة!

يصاب الجميع ولكن في أوقات متفاوتة..؛ زوجته والسارق والطبيب وكل مرتادي عيادته الطبية ومن خالطوهم، وبعدها تصاب المدينة بأكملها.. عدا امرأة واحدة لم يصبها المرض رغم مخالطتها لزوجها.

ورغم ذلك، وفي ظل فرض الدولة لما يشبه حجرًا صحيًا على المصابين؛ تصر الزوجة على أن تكون إلى جانب زوجها، فتتظاهر بالعمى لتصبح شاهدة على مكنونات البشر من حولها، تصرفاتهم واختياراتهم وضعفهم البشري وتغيراتهم في ظل خوفهم.

"إذا كنا غير قادرين على العيش مثل الكائنات البشرية، فعلى الأقل دعونا نفعل كل ما بوسعنا لئلا نعيش مثل الحيوانات"! القتل خوفًا من انتقال العدوى، واغتصاب النساء بموافقة أزواجهن، وبيع الطعام المجاني، وترك الموتى من دون دفن، وتجويع الصغار وسرقة حصصهم؛ كل هذه أفعال اقترفها مبصرون مؤقتًا ضد عميان أو عميان مع بعضهم بعضا.

مرت في ذهني كل تلك الحكايات التي سردتها الرواية عن طريقة تقديم الطعام والشراب لهؤلاء المصابين، والابتعاد قدر الإمكان عنهم، وحالة الهلع التي عمت الشوارع والأسواق العامة بحثًا عن الطعام والشراب، والخوف من الموت الذي دفع البعض لأكل حيوانات حية ودفن ما بقي من رجولتهم فقط للإبقاء على حيواتهم.. رخص الموت.. واستنفار الجزء الحيواني في بشريتنا فقط للبقاء!

لا يختلف الحال كثيرًا الآن مع "كورونا"؛ فقد رأينا جميعًا استهداف الأصحاء للمصابين أو حتى المشكوك في إصابتهم، وهو ما اصطلح على تسميته "كورونوفوبيا"، وهو مصطلح ظهر مع حالة الهلع التي اجتاحت العالم من كل شخص يحمل ملامح آسيوية.

ينخلع قلبي، وتتضارب مشاعر الشفقة والخوف معًا وأنا أشاهد تلك اللقطات المصورة من المدينة التي يوصد الجيران فيها مداخل بنايات سكنية بأكملها على من فيها؛ هكذا من دون أي شفقة أو فرصة لحياة ربما تكون متاحة؛ لئلا يخرجوا ويتسببوا في إصابتهم هم، وهكذا حكموا عليهم بالموت!

وذلك الشاب الذي قرر الانتحار من أحد أعلى الجسور لأنه لم يجد ملاذا في مستشفى. وخارج الصين شاهدنا انتشار مقاطع مصورة عن ضرب شباب في عدة دول وترويعهم، ومطالبتهم بترك تلك البلدان فقط لأنهم يحملون ملامح آسيوية، فأصبح على كل من يحمل تلك الملامح أن يرفع شعار "لست فيروسًا"!

ولم تتوقف تلك الحالة عند الأفراد بل تخطتها إلى الدول؛ فرفض بعضها استقبال سفينة "دايموند برنسيس" بعد انتشار الوباء بين ركابها، فظلت تجول بين الدول وتزيد الحالات فيها نظرًا لمخالطة الركاب لبعضهم البعض في مكان محدود للغاية، فبعد أن كان فيها مصاب واحد انتقل المرض إلى المئات من ركابها.

ربما لم نعايش هذه الإجراءات في وطننا العربي بعد، لكن الإنترنت قرّب المسافات وجعلنا نعرف جزءا مما يدور في تلك المدن المغلقة كما هو الحال في "ووهان"؛ فأكثر من خمسين مليون إنسان محبوسون في بيوتهم هناك، تغمرهم مشاعر الخوف والقلق أكثر مما نظن.

"العمى هو أن يعيش المرء في عالم تبددت فيه كل الآمال"! كيف وصل الحال بالبشر -في القرن الحادي والعشرين الذي يتغنى فيه الجميع بحقوق الإنسان والانفتاح- بأن يقضي على حياة مجموعة لأنهم أصيبوا بالمرض!

لماذا نوجه نيراننا إلى المصابين وكأنهم مسؤولون؟ فليس من بيننا من يستطيع منع نزلة البرد أن تصيبه ولا نلوم إخوتنا أو أبناءنا لو تسببوا في ذلك؛ فلماذا نصم من يصاب ونتخذ موفقًا عدائيا من وجوده في محيطنا؟ وماذا سنتوقع لو كنا نحن المصابين بذلك خاصة في ظل أن نسبة الوفاة 2% فقط من مجمل المصابين؟

وأين كل تلك التقنيات العلمية والتقدم التكنولوجي الذي أخبرونا بأنه قادر على الخلاص من أي مرض أو حتى تخيله، في عالم بات فيه الإنسان الآلي يتحكم في بكل شيء؟ أين كل هذا الآن أمام مرض يوصف بأنه نزلة برد قوية تستهدف الجهاز التنفس؟ ويا لضعف الإنسان مهما تظاهر بالقوة!

وهنا يأتي السؤال الأهم: لماذا نوجه نيراننا إلى المصابين وكأنهم مسؤولون؟ فليس من بيننا من يستطيع منع نزلة البرد أن تصيبه ولا نلوم إخوتنا أو أبناءنا لو تسببوا في ذلك؛ فلماذا نصم من يصاب ونتخذ موفقًا عدائيا من وجوده في محيطنا؟ وماذا سنتوقع لو كنا نحن المصابين بذلك خاصة في ظل أن نسبة الوفاة 2% فقط من مجمل المصابين؟

"حتى في أسوأ المحن قد تجد خيرًا كافيًا": بصورة قاتمة صور ساراماغو ما نفقده من إنسانيتنا وقت المحن، وكيف أننا نحتاج إلى العون في أبسط الاحتياجات في حال فقدنا إنسانيتنا قبل أي حاسة أخرى كما حدث مع البصر.

اختصر ساراماغو -في تلك الرواية- معاني الجهل والخوف.. وفصّل ما يمكن أن نشعر به في حالات الاختبار القصوى.. الاقتراب من ساعة الصفر.. الضعف.. الخوف.. الثورة.. الحب.. الأمل.. الخيانة والغفران.. الاستسلام للقدر ومحاولة تغييره.

كان الخيال عاجزًا -وقت القراءة- حتى عن تجسيد معاني الألم الذي شعرت به وقتها، لم يخطر ببالي عندما أنهيت الرواية أنني سأمر بأحد اختباراتها قريبًا، في قرن آخر وبتفاصيل أخرى، لكنه نفس الخوف والرغبة في النجاة، كيف سنتصرف وبماذا سنضحي وكيف سنثق في غرباء ومن سيبقى إلى جوارنا حتى النهاية؟

وعلى قتامة ذلك العالم الذي رسمه الكاتب؛ يبدو أننا صرنا جميعًا شخصيات في رواية، وعلينا أن نجهز أنفسنا للإجابة عن تساؤلات مرت على صفحات كتب، كنا نعتقد أنها مجرد حبر على ورق نتسلى به في أوقات فراغنا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.