"صفقة القرن" والتردّي العربي.. سياقات ودلالات

epaselect epa08173197 US President Donald J. Trump (R) shakes hands with Prime Minister of Israel Benjamin Netanyahu while unveiling his Middle East peace plan in the East Room of the White House, in Washington, DC, USA, 28 January 2020. US President Donald J. Trump's Middle East peace plan is expected to be rejected by Palestinian leaders, having withdrawn from engagement with the White House after Trump recognized Jerusalem as the capital of Israel. The proposal was
ضمن المواقف العربية الأكثر اقترابًا من "إسرائيل"؛ يبدو الموقف العربي الرسمي -في عمومه ومع استثناءات يسيرة- أقرب إلى قبول خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للقضية الفلسطينية، المشهورة إعلاميًّا بـ"صفقة القرن". بيد أنّ هذا القبول يتراوح بين الشراكة المباشرة في الخطّة، والعجز الذي كشف عن نفسه إمّا بالصمت أو بالموقف الشديد الحذر والتحوّط في عبارته.

ونتيجة لخطّ التردّي الذي وسم السلوك الرسمي العربي في العقود الأخيرة تجاه القضيّة الفلسطينية، والمواقف الفجّة التي عبّرت عنها دول عربيّة بهذا الخصوص في الآونة الأخيرة، ولأنّ هذه الخطّة أخذت تتكشّف بالتدريج، وبمشاركة معلنة من دول عربيّة في بعض مراحلها؛ فإنّ الموقف الأخير القابل بخطّة ترامب لم يثر استغراب الفلسطينيين خصوصًا، والجماهير العربيّة عمومًا، رغم مضمون الخطّة الذي لا يعني إلا تصفية القضية الفلسطينية، وتصفية المعنى السياسي للوجود الفلسطيني.

 
أدوار ودوافع متفاوتة
إن مشاركة سفراء الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان في مؤتمر إعلان الخطّة لا تعني أنّ تلك الدول الثلاث على درجة واحدة من جهة الدور والتأثير، ولكنّ التفاوت في الدور والتأثير أو اختلاف الدوافع من المشاركة في مؤتمر الخطّة لا يجعل موقف أيّ من الدول الثلاث جديدًا.

ففي حين تأتي الإمارات في صدارة المشاركين في الخطّة، حتّى على مستوى التخطيط الإعداد؛ فإنّ البحرين تصدّرت -على المستوى الرسمي- في السنوات الأخيرة الدعوة للتطبيع مع "إسرائيل" والتخلّي عن القضية الفلسطينية، واستضافت "ورشة البحرين الاقتصاديّة" التي عُدّت المقدّمة الاقتصادية لخطّة ترامب، وأمّا سلطنة عُمان فقد ظلّت ممن يجاهر بالاحتفاظ بعلاقات علنيّة مع مستويات عليا في "إسرائيل"، كما تجلّى ذلك في استضافتها لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

الفرق بين هذه الدول الثلاث يكمن أساسًا في موقع دولة الإمارات، التي يُعرف دورها في الإعداد والتخطيط لا باعتبار ما يتسرّب فحسب، بل وباعتبار موقعها المكشوف في التحالف الشرق أوسطيّ الذي ترعاه إدارة ترامب، ويضمّها إلى جانب نتياهو ونظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولا تبتعد عنه السعوديّة والبحرين. وفي هذا التحالف يأتي دور البحرين الوظيفي بصفتها دوريّة استطلاع لتسويق مواقف هذا التحالف وسياساته، بينما تختطّ سلطنة عُمان لنفسها مسارًا مختلفًا، تضمن به لنفسها دورًا إقليميًّا يميّزها عن الجارة الكبرى (السعوديّة) ويحميها منها، وهو ما يمكّن من تفسير علاقاتها المتميّزّة مع إيران في الوقت نفسه. وقد لا يبعُد أن يكون العهد الجديد في السلطنة معنيّ كذلك بإظهار ثبات السياسات التي انتهجها السلطان الراحل قابوس.

الفرق بين هذه الدول الثلاث يكمن أساسًا في موقع دولة الإمارات، التي يُعرف دورها في الإعداد والتخطيط لا باعتبار ما يتسرّب فحسب، بل وباعتبار موقعها المكشوف في التحالف الشرق أوسطيّ الذي ترعاه إدارة ترامب، ويضمّها إلى جانب نتياهو ونظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولا تبتعد عنه السعوديّة والبحرين. وفي هذا التحالف يأتي دور البحرين الوظيفي بصفتها دوريّة استطلاع لتسويق مواقف هذا التحالف وسياساته، بينما تختطّ سلطنة عُمان لنفسها مسارًا مختلفًا، تضمن به لنفسها دورًا إقليميًّا

تقف السعودية في هذا الموقع الذي تقف فيه دولة الإمارات، حتى وإن لم تُشارك في مؤتمر الإعلان عن الخطّة، كما هو مُعلن على الأقل. فرغم ما تتسم به البيانات السياسية من تحوّط لأغراض الدعاية الإعلامية، ولاسيما في قضيّة بالغة الحساسية كالقضية الفلسطينية؛ فإنّ بيان وزارة الخارجية السعودية تضمن ثلاثة عناصر أساسية بشأن الخطّة.

أوّلها تقدير جهود ترامب، وثانيها الدعوة لمفاوضات مباشرة برعاية الولايات المتحدة، وثالثها -وهو الأخطر- عدّها الخطّة أساسًا لهذه المفاوضات، بمعنى أنّ المملكة -بحسب هذا البيان- تنطلق كما هو شأن الخطّة نفسها من الوقائع الاستعمارية التي كرّسها الاحتلال الإسرائيلي.

ومهما كانت حقيقة الموقف المُعلن للملكة؛ فإنّها بدورها -وكما هو شأن الإمارات- عنصر أساسي في التحالف الشرق أوسطي الذي ترعاه إدارة ترامب، وقد تسرّب عنها في السنوات الأخيرة الكثير ممّا يفيد بممارستها ضغوطا على الفلسطينيين للقبول بخطّة ترامب، هذا فضلاً عن التحوّل الهائل في سياساتها الإعلامية، ببث دعاية مركّزة -وبصورة أساسيّة من خلال ما يُعرف بـ"الذباب الإلكتروني"- تستهدف بها الفلسطينيين وحقّهم ونضالهم، وتدعو للتطبيع مع "إسرائيل"، والذي فُتحت أبوابه بالفعل عبر شخصيات سعودية سُمح لها بإقامة اتصالات علنيّة مع الإسرائيليين.

أما موقف مصر المعلن -في بيان وزارة خارجيتها- فقد اقترب في صياغاته من موقف السعودية، وخضع لتعديلات كثيرة أشرفت عليها رئاسة الجمهورية -كما قالت مصادر- انتهت بحذف الإشارة إلى دولة فلسطينية على الأراضي المحتلّة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة، وهو موقف ينبثق من الشراكة في التحالف نفسه، ومن السياسات التي انتهجها السيسي للاقتراب الشديد من "إسرائيل"، وعلى نحو قد يستعصي على التفسير أحيانا كثيرة.

 
تفسير المواقف الراهنة
التفسير الأساسي لمواقف الدول الأربع (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) يتضح من موقعها في العلاقة مع الإدارة الأميركية الحالية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وإذا كانت لكل دولة من هذه الدول أسبابها الخاصّة؛ فإنّ السبب الجامع هو اشتراكها في تحالف واحد يهدف إلى تسوية المنطقة برمّتها وفق المصالح المشتركة لهذه الدول.

وتتمثل هذه المصالح أساسًا في تثبيت أنظمة الحكم فيها، والطموحات الجارفة لصنّاع القرار فيها، وما يتطلبه ذلك من تصفية الثورات العربيّة وارتداداتها، وإنهاء ظاهرة الإسلام السياسي، والتكريس النهائي لوجود "إسرائيل" في المنطقة، بدمجها في هذا التحالف الذي أخذ أبعادًا خطيرة على المستويات الأمنية والاستخباراتية.

مساعي الرئيس المصري السيسي لاكتساب شرعيّة دوليّة يغطّي بها على المسار الانقلابي الدموي الذي صعد به إلى السلطة، وفي قلب سلطة عُرِفت -على الأقل منذ اتفاقية كامب ديفد- بالخضوع للهيمنة الأميركية؛ تدفعه بالتأكيد للولوج إلى صانع القرار الأميركي عبر البوابة الإسرائيلية، وكذا طموحات وليّ عهد السعودية.

ولا يَبعُد في هذا السياق أن يحضر دافع أيديولوجي متفلّت من الثوابت العربية السياسية، أو معادٍ للإسلام السياسي، ليُشكّل صمغًا لاصقًا بين أركان هذا التحالف. فالإيغال في التخلّي عن القضية الفلسطينية، وفي دعم "إسرائيل"، وفي العداء للإسلام السياسي، بما يصل -في بعض أحواله- إلى المسّ بالدين نفسه، أو انقلابًا على ثقافة مجتمعيّة، يصعُب تفسيره بدواعٍ سياسيّة كانت متوفّرة دائمًا.

لا شكّ أن ثمّة مستجدات سياسية لا ينبغي التقليل من شأنها، انحطّت بسياسات بعض الدول العربيّة إلى هذه الدرجة، وتتمثّل في حالة السيولة المتعاظمة في المنطقة والعالم، والتي من أبرز سماتها في منطقتنا: الثورات العربية وتداعياتها، وسقوط أنظمة سابقة، والفوضى العارمة في عدد من الدول العربيّة، والتمدد الإيراني، بالإضافة إلى التحوّلات العالمية، كصعود اليمين، والأزمات الاقتصادية، والغموض الإستراتيجي على مستوى العلاقات الدوليّة.

لا شكّ أن ثمّة مستجدات سياسية لا ينبغي التقليل من شأنها، انحطّت بسياسات بعض الدول العربيّة إلى هذه الدرجة، وتتمثّل في حالة السيولة المتعاظمة في المنطقة والعالم، والتي من أبرز سماتها في منطقتنا: الثورات العربية وتداعياتها، وسقوط أنظمة سابقة، والفوضى العارمة في عدد من الدول العربيّة، والتمدد الإيراني، بالإضافة إلى التحوّلات العالمية، كصعود اليمين، والأزمات الاقتصادية، والغموض الإستراتيجي على مستوى العلاقات الدوليّة

وفي أوضاع كهذه؛ ستلجأ الدول الضعيفة -التي اعتادت العيش في ظلّ الحماية الأجنبية أو تعاني هشاشة على مستوى الشرعية- إلى الولايات المتحدة من البوابة الإسرائيلية، التي ستشترط القبول بالرؤية الإسرائيلية لتصفية القضيّة الفلسطينية، هذا فضلاً عن اشتراك "إسرائيل" مع هذه الأنظمة في القلق من الثورات العربية، التي شوشّت استشرافها المستقبلي لوجودها ومكانتها الإستراتيجية في بحر عربي متلاطم لا يقبل بوجودها أساسًا.

وإذن؛ فإنّ العامل الإيراني لا يتفرّد بصناعة هذا الوقف العربي الذي يقترب باستمرار من "إسرائيل"، وإن كانت له أهميته بدوره، فتنامي النفوذ الإيراني ووقوفه على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلّة، يهدّد المكانة الإستراتيجية لـ"إسرائيل"، من جهة أن تفوّقها الإقليمي من ضمانات استمرار وجودها، والاحتفاظ بأهميتها للغرب، والأمر نفسه يمكن قوله في القلق الإسرائيلي من تعظيم تركيا قوّتها ومكانتها، بالرغم من احتفاظها بعلاقات مع "إسرائيل".

والملاحظ هنا هو تطابق الموقف الإسرائيلي العربي (أي موقف الدول الأربع المذكورة) تجاه كل من تركيا وإيران، رغم أن السياسات التركية الخارجية لا تنهض على رافعات مفارقة للعرب، بخلاف إيران التي تتقدّم فيها الأدوات الطائفية في اختراق المجال العربي.

إن هذا التطابق مع "إسرائيل" في الموقف من قضايا الإقليم ودوله يدلّ على مستوى عالٍ من الانسجام في التحالف، وأنّ الدعاية لإحلال إيران مكان "إسرائيل" في العداء العربي هي مطلب إسرائيلي، أكثر منها حاجة لتلك الدول التي كان يمكنها مواجهة السياسات الإيرانية بطريقة مختلفة.

 
مواقف الدول الأخرى
تجدر الإشارة -والحال هذه- إلى مواقف دول أخرى، رحّبت بالجهود الأميركية في سياق تعليقها على خطّة ترامب، إلا أنّها لا تلتقي والدول السابقة في المربع نفسه، فدولة الكويت -المعلن في بيان وزارة خارجيتها- رحبت بما سمّته المساعي الأميركية لحلّ القضيّة الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها لم تذكر خطّة ترامب.

وأكّدت الكويت الموقف العربي الرسمي التقليدي بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة في حدود يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. والتقى مع هذا الصياغة بيان قطر كذلك، كما أنّ الموقف الأردني الرسمي ظلّ قريبًا من هذه الصياغات التي لم تصرّح بالرفض للخطّة.

وحين الحديث عن هذه الدول التي خرجت بموقف أكثر حذرًا؛ ينبغي عدم إغفال مشاركة قطر في "ورشة البحرين الاقتصادية"، رغم الحصار الذي تتعرّض له من الدول الأربع الأكثر اقترابًا من خطّة ترامب، والتي منها البحرين. وهو أمر يلتقي في جانب منه مع سياسة دولة عُمان التي تتخذ لنفسها سياسات تبتعد بها عن هيمنة السعودية، لكن لا تقطع بها مع الولايات المتحدة.

وهنا تُلاحظ السياسات القطرية؛ لا من جهة توازنها في العلاقة مع كل من إيران والولايات المتحدة فحسب، بل ومن جهة احتفاظها بشكل من العلاقات مع "إسرائيل" ودعمها -في الوقت نفسه- لأطياف الفلسطينيين، سواء السلطة الفلسطينية أو حركة حماس.

بالتأكيد تحرص مثل هذه الدول على عدم إثارة غضب إدارة ترامب، ولاسيما دولة كقطر كادت أن تُغزى من جيرانها بتواطؤ من بعض أركان إدارة ترامب، إلا أنّه ومهما حاولت قطر التوازن فإنّ الثمن المدفوع سيكون من القضية الفلسطينية، ويتأكد بالتالي السياق الإسرائيلي لحصارها من جيرانها.

التردّي المستمرّ في الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية، ولأسباب متعلّقة بالتجزئة العربية، وضعف الدول العربية وهشاشتها، سواء في موقعيها الإقليمي والدولي، أو في طبيعة علاقاتها البينية، أو في أبنية الحكم في بعض البلاد؛ يؤكّد عمق التداخل بين القضية الفلسطينية والقضايا العربيّة المتعدّدة. كما يوضح أن أيّ نهضة عربيّة مشروطة بتصفية الحالة الاستعمارية في فلسطين

وهو أمر كاشف عمّا هو أكبر وأخطر؛ من تردٍ عربيّ وصل بالعرب إلى مثل هذه الحلول، أو إلى العجز عن اتخاذ موقف معلن رافض صراحة لخطّة تصفية القضية الفلسطينية،.هذا والمشكلات الداخلية في بعض البلاد العربية من شأنها أن تحتلّ مساحات كانت مُخصّصة للاهتمام بالقضية الفلسطينية.

لم تبدأ المواقف العربيّة في التراجع بشأن القضية الفلسطينية مع الثورات العربية، أو مع التمدّد الإيراني؛ فالقضية الفلسطينية مثّلت حرجًا هائلاً للنظام الرسمي العربي تاريخيًّا، وربما كان الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعيًّا ووحيدًا للفلسطينيين عام 1974 مدخلاً للتخلّي العربي الرسمي عن القضية الفلسطينية.

ثمّ جاء دفع المنظمة للذهاب نحو تسوية مع "إسرائيل" تحت ضغط مفاعيل حرب الخليج 1990/1991، والدخول السريع -بعد توقيع اتفاقية أوسلو- في علاقات علنية مع "إسرائيل"، سواء بتوقيع اتفاقية سلام معها كما في حالة الأردن، أو فتح ممثليات لها في بعض البلاد العربية، أو تسيير الرحلات منها وإليها؛ وذلك كلّه دون حلّ القضية الفلسطينية.

هذا التردّي المستمرّ في الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية، ولأسباب متعلّقة بالتجزئة العربية، وضعف الدول العربية وهشاشتها، سواء في موقعيها الإقليمي والدولي، أو في طبيعة علاقاتها البينية، أو في أبنية الحكم في بعض البلاد؛ يؤكّد عمق التداخل بين القضية الفلسطينية والقضايا العربيّة المتعدّدة.

كما يوضح أن أيّ نهضة عربيّة مشروطة بتصفية الحالة الاستعمارية في فلسطين، وأنّ العجز العربي عن الخروج بموقف رسمي رافض صراحة لخطّة ترامب -مع استثناءات نادرة كموقف الجزائر وسوريا- لا يعني إلا نهاية النظام الرسمي العربي في صورته التاريخية المعروفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.