لقاح كورونا الجيني الموعود بين الحقائق والأوهام

لقاح لكورونا بفعالية بسبة 90%
(غيتي إيميجز)

وسط هذا التزاحم الكبير في التصريحات الإعلامية (غير العلمية)، وفي سباق محموم لنيل السبق عن إعلان تصنيع أول لقاح لفيروس كورونا المستجد المسبب لكوفيد-19، فلا بد من الوقوف أمام هذا الكم الهائل من المعلومات المليئة بالمتناقضات، وبث الأوهام وقليل من الحقائق. وهناك ثمة سؤال يتبادر للذهن؛ هل ما يتم تداوله حول لقاح شركتي "فايزر" (Pfizer) الأميركية وبيونتك (BioNTech) الألمانية مَبني على دلائل علمية قطعية أم ظنية، أم هو خليط منهما مع غلبة الظني يقينا مسوغا لتبرير تمرير ذلك اللقاح بأسرع وقت ممكن؟ (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).

وبذلك تكون قد قضيت عدة مآرب، منها على سبيل المثال تحقق درجة لا بأس بها من الرضى عن الحكومات ذات الصلة، فقد وعدت بتقديم لقاح، وها هي تفي بما وعدت، وكذلك فإن التجربة الحقيقية لهذا اللقاح ستبدأ منذ لحظة تقديمه للملايين من الناس عبر الدوائر الصحية التابعة للحكومات المختلفة في تلك البلدان. وليس مستغربا أن تقوم شركات صناعة الدواء العملاقة بهذا العمل الإنتاجي الكبير، وبهذا الزمن القياسي لما تتميز به من قدرات لوجستية ضخمة، وكذلك الدعم المالي الملياري، الذي تلقته من بعض الحكومات قد شجعها على ذلك.

سأعرض في هذا المقال لِسابقة خطيرة في مجال البحث والتطوير؛ وهي محاولة ترخيص لقاح عبر تقنية حيوية لم تأخذ قدرا كافيا من التمحيص العلمي والأخلاقي وبسرعة غير مسبوقة لم تعهدها الأوساط العلمية من قبل، حيث لم  يتم التحقق والنشر في المجلات العلمية المتخصصة كالعادة، فهل مسوغ الجائحة العالمية كافٍ لتبرير ذلك؟ وهل ما أعلن عنه حتى الآن من أن نسبة نجاح اللقاح "إحصائيا"، وهي 90% ،فعلا تعكس حقيقته من الناحية العلمية الإكلينيكية؟.

وبالرجوع قليلا إلى الوراء لمعرفة أصل الحكاية وبسط الموضوع محاولا الاختصار ما استطعت لذلك سبيلا، فلا بد من إعادة تفكيك وتركيب المصطلحات العلمية ذات الصلة ليتسنى الوصول لما نبغي بدقة ووضوح. فقد ذكرت في مقال سابق (العلاج المناعي لكورونا من المستفيد وما العوائق؟) ما مفاده أن المتاح استخدامه علاجا ضد فيروس كورونا هو قليل جدا نظرا لعنصري المفاجئة والمباغتة اللذين صدمت بهما الجائحة العالم، وكذلك عدم معرفة الكثير حول طبيعة الفيروس البيولوجية و"سلوكه التفاعلي مع مضيفه" (virus-host interaction) إنسانا وحيوانا بشكل عام.

لكنه معلوم حتما أن هذا الفيروس وتبعا للمادة الوراثية، التي يحتويها ينتمي لمجموعة كبيرة تتميز بسرعة تحورها الجيني، وتعرف بالـ"فيروسات الريبوزية" (RNA viruses)، ولم تُفلح كل محاولات الماضي لإنتاج لقاح مُعتبر لأي منها؛ إلا ما هو قصير المدى بفاعلية محدودة جدا كلقاح فيروس الإنفلونزا على سبيل المثال، وذكرت في ذلك المقال تحديدا أن ذلك سينعكس سلبا على أي لقاح مستقبلي لهذا النوع من الفيروسات وفيروس كورونا بشكل خاص، وبالمقابل فهناك مجموعة أخرى من الفيروسات تحوي المادة الوراثية من النوع الثاني، وتسمى "فيروسات الحمض النووي" (DNA viruses) هي أفضل حالا من ناحية تصنيع اللقاح لأسباب تعود في مجملها للفروق التركيبية بين مادتيهما الوراثية ليس هذا مجال ذكرها.

وهذه المادة الوراثية (DNA) أو (RNA) هي عامل مشترك بين الكائنات الحية بدءا من الإنسان والحيوان ثم النبات إلى البكتيريا والفيروسات (التي تصبح حية حال دخولها الخلايا) وغيرها الكثير؛ إلا أن الفيروسات ومنها فيروس كورونا (RNA viruses) لها القدرة على غزو خلايا بقية الكائنات بغية الوصول لإعادة نسخ وإنتاج مادتها الوراثيه للتكاثر والانتشار متسببة بالمرض وانتشار الوباء معا. وحتى نقترب أكثر من هدفنا في هذا المقال، فلنلق نظرة سريعة على خلايا الإنسان، التي يستهدفها فيروس كورونا؛ فمما هو معلوم بالضرورة في علم الخلية والبيولوجيا الجزيئية أن "المادة الوراثية" (DNA) تتضاعف داخل نواة الخلية لتعطي مزيدا من نسخ (DNA) خلال عملية الانقسام والتكاثر الخلوي كي تستمر الحياة، التي نعرفها، وتتواصل العملية الوراثية لتعبر بشكل أدق، فتتحول إلى مادة (RNA)، ثم عبر شيفرة دقيقة ومحددة تتحول إلى ما يُعرف بـ"ناقل الرسائل" (mRNA)، مُنطلقا من داخل نواة الخلية إلى جسيمات الريبوسوم الموجودة في سائل السيتوبلازم الخلوي؛ لتصنيع بروتين محدد ليقوم بوظيفة محددة مسبقا من المادة الوراثية في نواة الخلية.

وهكذا تستمر دورة الخلية والأعضاء وكل الجسم بشكل مبرمج ودقيق. وبالتالي يمكن القول إن الريبوسوم هو أحد المراكز المهمة في عملية ترجمة وتحويل المعلومات الوراثية من الـ(DNA) عبر الشيفرة الوراثية المحولة على شكل ناقل الرسائل الجيني (mRNA)، والذي يرتبط بدوره بالريبوسوم لترجمة الشيفرة الجينية وتحويلها إلى بروتين، وسوف نرى بعد قليل أن هذا هو المفهوم، الذي ترتكز عليه التقنية الجديدة في إنتاج لقاح كورونا، وبما أن فيروس كورونا من نوع (RNA)، فإنه يستهدف الخلية البشرية ليستخدم جهاز تصنيع البروتينات (الريبوسوم) لإنتاج البروتينات الخاصة به معيدا بذلك بناء نفسه وإحداث دورة المرض والانتشار. هذه العملية في إنتاج البروتينات تحقق للفيروس أهدافه وبالوقت نفسه يُعتمد عليها في محاولات تصنيع اللقاح لإحداث رد فعل مناعي لمقاومة الفيروس، وهناك قائمة طويلة من الطرق، التي يمكن اتباعها للقيام بذلك منها ما هو قديم أو تقليدي معروف ومعلوم عنه الكثير -"اللقاحات التقليدي" (conventional vaccines)- وما زال يُعمل بها لإنتاج اللقاحات بطرق عدة منها استخدام بروتين معين من الفيروس أو كل "الفيروس ميتا" (dead virus) أو الفيروس بشكله الضعيف "غير النشط (attenuated virus) من أجل إحداث رد فعل مناعي للحماية من الفيروس؛ ومنها حديث أيضا معلوم عنه القليل يقوم على مبدأ تقنية نقل الشيفرة الجينية لبروتين معين من الفيروس، وحقنه في الإنسان، فيدخل إلى الخلايا، ويبدأ بإنتاج البروتين الخاص بالفيروس، والذي يعمل كمحفز مناعي "مولد مضاد" (Antigen) لإحداث رد الفعل المناعي المنشود من جهاز المناعة على شكل "أجسام مضادة" (Antibodies)، وكذلك "الخلايا التائية" (T cell) القاتلة والمساعدة أيضا.

وهناك حوالي 11 دراسة عالمية متقدمة في "المرحة السريرية الثالثة" (phase three clinical trials)، قامت بها شركات أدوية على وشك الترخيص لإنتاج اللقاح، تعتمد في جلها إحدى هذه الطرق التي ذكرت آنفا. فقد قامت عدة حكومات بتقديم دعم مالي لمراكز محددة، وكذلك عدد من شركات الأدوية للقيام بهذا المجهود البحثي التجريبي عبر تقنيات حيوية مختلفة. ففي الصين إحدى الدراسات تعتمد على استخدام فيروس كورونا المقتول بكل ما يحتويه من بروتينات كلقاح ضد كورونا، وهي طريقة قديمة معلومة وشبه آمنة، وجامعة أكسفورد بالتعاون مع شركة "أسترازينيكا" (AstraZeneca)، واللقاح الروسي، وكذلك الإسرائيلي تستخدم جميعها طريقة "الناقل الفيروسي" (Adinovirus vector) المعدل جينيا لنقل بروتين محدد يعرف بـ"البروتين التاجي" (spike protein). وقد استخدمت هذه الطريقة سابقا في مركز أبحاث جامعة أكسفورد، ولم تكن نتائجها مشجعة، وتتميز بسلامتها وقلة أضرارها إن نجحت في إحداث مناعة ضد الفيروس، والطريقة تلك يمكن أيضا وصفها بالتقليدية مقارنة بما سيأتي.

ثم إن شركتي فايزر وبيونتك -وكذلك شركة "مودرنا" (Moderna) الأميريكية- استخدمتا أسلوبا جديدا يعرف بتقنية "ناقل الرسائل الجيني أو المشفر" (mRNA)؛ لكنه "مصنع مخبريا" (synthetic)، وهي طريقة تحاكي النظام الحيوي الطبيعي في تصنيع البروتينات داخل الخلايا كما أشرت آنفا. وقد استخدمت هذ الطريقة كإحدى الوسائل البحثية المخبرية في السنوات الماضية لإحداث رد فعل مناعي في أبحاث علاج السرطان في مركز أبحاث شركة بيونتك الألمانية، وكما استخدم كاتب هذا المقال في أبحاثه طريقة "الجينات الانتحارية" (suicide genes) لإحداث تحفيز مناعي ضد الخلايا السرطانية، وهي بالجملة طرق متعددة تستخدم في أبحاث السرطان، وكذلك في الأمراض المُعدية، فالعامل المشترك هو كيفية إحداث تحفيز مناعي داخل الجسم يعمل ضد فيروس أو سرطان فالأمران سيان.

إذن ما الأمر بالنسبة للقاح شركتي فايزر وبيونتك، الذي اعتمد على تقنية ناقل الرسائل الجيني (mRNA)؟؛ هذه الطريقة ما زالت قيد البحث، ولم تؤت أكلها لكي تستخدم عمليا على الإنسان، وهي لم تتعد الاستخدام على الحيوانات المخبرية، ولم تكن نتائجها مشجعة كي تصل للتجارب الإكلينيكية البشرية، وفي غضون أشهر قليلة هل هناك مستند علمي وأخلاقي يبرر ذلك الشطط؟ كيف ذلك؟  التجارب المخبرية الأولية على الحيوانات قام بها فريق من الباحثين في شركة بيونتك الألمانية بقيادة د. أوغور شاهين، ثم قامت شركة فايزر ذات القدرات اللوجستية الأكبر في العالم بأخذ زمام المبادرة للقيام بالتجارب الإكلينيكية البشرية على ما يقارب 40 ألفا من الناس (حجم العينة البشرية)، الذين قبلوا المشاركة في هذ المحاولة العلاجية.

وقبل أيام قليلة تقدمت الشركة ببيان صحفي يشير إلى أن اللقاح ناجح بنسبة 90%، (وكذلك فعلت شركة مودرنا الأميركية التقنية نفسها والنتائج نفسها تقريبا)؜. فمن أين جاءت هذه النسبة العالية؟ وهل هي مؤشر حقيقي يوثق به في دراسة مهمة كهذه التي بين أيدينا؟ مما هو معلوم عن كيفية إجراء الدراسة أنه تم تقسيم العينة البشرية إلى قسمين نصفها أُعطي اللقاح التجريبي المُشار إليه أعلاه، والنصف الآخر لم يعط اللقاح (أعطي مادة غير علاجية)، وهي المجموعة الضابطة في الدراسة من أجل مقارنة النتائج بين المجموعتين طبعا دون أن يعلم المشاركون بماذا حقنوا فيما يسمى "التجارب السريرية مزدوجة التعمية" (double blinded clinical trials)، في البيان الصحفي ظهر أن هناك 94 حالة من العينة البشرية كانت إيجابية بعد فحص كورونا مع بعض الأعراض.

لكن لا أحد يعلم درجة هذه الأعراض، وأضاف البيان أنه عندما تم فتح بيانات المشاركين هؤلاء تبين أن من بينهم 85 من المجموعة الضابطة، التي لم تتلق اللقاح، وأن 9 أشخاص هم من المجموعة التي تلقت اللقاح، وعليه فإنه إحصائيا يمكن حساب النسبة المئوية من هذه الأرقام، والتي تفيد بأن الذين تلقوا اللقاح كانوا أقل عرضة للمرض من الذين لم يتلقوا اللقاح، وعليه تم استنتاج أن اللقاح فعال بنسبة 90%. تم حساب النتيجة اعتمادا على مبدأ إحصائي في حساب معدل النجاح والفشل من خلال النظر في العينة البشرية الجزئية (94 شخصا) قيد الدراسة البحثية، وبذلك يصبح حاكما على النتيجة العامة لكل العينة البشرية للدراسة (40 ألفا). نعم هذا مؤشر إحصائي؛ لكنه ناقص لا يعتد به وحيدا، وكان يجب أن يتضمن العينة البشرية قيد الدراسة كاملة (40 ألفا) لضمان دقة ونزاهة المؤشر الإحصائي، فالأمر أكبر من أن يقاس بمعيار أوحد لأسباب عديدة. فمن المعلوم أن الغاية من اللقاح هو إحداث مناعة عابرة مكتسبة ذات ذاكرة تدوم إلى مدى متوسط أو طويل إن أمكن ضد فيروس كورونا بطريقة آمنة بدون أضرار جانبية، وكذلك بأن يكون اللقاح عمليا ولوجستيا قابلا للتخزين والاستخدام في ظروف ممكنة لا تعجيزية. فهل يحقق لقاح شركة فايزر وأخواتها ذلك الأمر؟

ببساطة لا أحد يعلم (من خلال ما تقوم به فايزر ومن معها) عن دقة وتأثير اللقاح على مستوى جهاز المناعة؛ لكنه ممكن على الأقل عبر إجراء دراسة مقارنة بين أفراد العينة الجزئية المشاركة (94) تكشف عن طبيعة رد الفعل المناعي، الذي حصل عند أفراد المجموعة الضابطة (85) مقارنة بأفراد المجموعة، التي تلقت اللقاح التجريبي (9)، ما زال ذلك في عالم المجهول، ولم يُنشر لتتمكن الأوساط العلمية من النظر في تلك النتائج، فهي المعيار الأساسي، الذي يمكن أن يُبنى عليه حكم في فشل أو نجاح اللقاح. ماذا لو كانت نوعية وكفاءة المناعة التي تكونت عند المجموعة، التي لم تلقح مشابهة أو أفضل من المجموعة التي لقحت؟، حينئذ ستنقلب النتيجة، ويكون اللقاح فاشلا بنسبة 90%، وهذا ليس مستبعدا ولو نظريا على الأقل.

حصول مثل هذه الدراسات المعمقة والاستقصائية على المستوى الخلوي والجزيئي سوف يُنبئ عن مدى فاعلية اللقاح ونوعيته، وإلى أية فترة قد تستمر هذه المناعة ضد الفيروس، أشهرا أم سنوات؟ و إلى الآن لم تستطع شركتي فايزر وبيونتك تقديم إجابات قطعية عن مدى فعالية اللقاح؛ لأن ذلك مرهون بتقادم زمني يقاس بالسنوات ليتكشف المزيد من الحقائق، وهذا سيف ذو حدين فيحتمل فيه النجاح وكذلك الفشل. فنحن أمام سابقة أصبحت الأمور فيها معكوسة، فتطوير اللقاح عادة ما يمر عبر متسلسلة زمنية تصاعدية يتطابق فيها العلمي والأخلاقي، فلا يختصران تحت أي مبرر كان، وتمحص فيها النتائج بدون تحيز ولا اعتبار إلا لما هو علمي بحت، وإلا فنحن أمام محاولات ظاهرها حل للجائحة وباطنها فيه شر مستطير سيبديه قابل الأيام .

وإني لأرجو أن لا يكون استخدام نسبة 90%؜ كمعيار أوحد وإعلانه للملأ بدون ربطه بما هو أهم كما ذكرت آنفا هو من باب (فسحروا أعين الناس)، واستغفلوهم وجاؤوا بلقاح عجيب! لغرض الترخيص "المتوقع" حصوله تحت "بند الاستخدام الطارئ" (emergency use authorisation) من إدارة الدواء والغذاء الأميريكة "إف دي إيه" (FDA)، فكل ما هو مطلوب الآن هو الوصول إلى رقم 164 حالة، وسيتم هذا قريبا جدا، فهناك انتشار واسع للوباء، وحينها ستكون النسبة المئوية قريبة مما تم إعلانه بـ"90%؜"، ومعلوم أنه لا يوجد عاقل لديه علم واطلاع في هذا المجال المعرفي المهم والحيوي للبشرية جمعاء هدفه التشكيك في قضايا علمية متفق عليها عند العارفين؛ لكن مكمن الخطر ومصدر الريبة يتأتى من السرية والغموض اللتين تحيطان بجانب كبير من الدراسة، وعدم الإفصاح عنها، فهم من يملكون قاعدة البيانات للمشاركين في الدراسة الإكلينيكية، وهم قادرون على نزع الأوهام إن أرادوا لذلك سبيلا، حينها يُقطع الشك باليقين.

بالنسبة للآثار الجانبية المتوسطة وبعيدة المدى لهذا اللقاح (mRNA)، الذي يُستخدم لأول مرة على الإنسان، فيمكن التنبؤ بها ولو نظريا على الأقل، والتي ستظهر بالتقادم الزمني خلال سنوات، فلا يعتقدن أحد بأن إدخال شيفرة وراثية وارتباطها بمركز تصنيع البروتينات الخلوي (الريبوسوم) سيكون بردا وسلاما، إذ يحتمل أن تحدث أمور نتوقعها وأمور خارج سياق التوقعات.

وكما هو معلوم فإن الحاكم المنطقي على عمل وعلم البشر قد أرشدنا إليه رب البشر بقوله (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، والمقصود بالبرهان هنا الدليل الكامل، الذي ينتفي به الشك. وبالعودة إلى نسبة نجاح ذلك اللقاح بـ90%، فعلى أي الفئات العُمرية تنطبق؟ وهل على الأصحاء أم المرضى؟ وماذا عن المرضعات والحوامل؟ وكم هي فترة المناعة ضد المرض أطويلة هي أم قصيرة؟، كل ذلك ما زال مجهولا ولا تستطيع الدراسة الإجابة عليه بتصميمها الحالي.

أما بالنسبة للآثار الجانبية المتوسطة وبعيدة المدى لهذا اللقاح (mRNA)، الذي يُستخدم لأول مرة على الإنسان، فيمكن التنبؤ بها ولو نظريا على الأقل، والتي ستظهر بالتقادم الزمني خلال سنوات، فلا يعتقدن أحد بأن إدخال شيفرة وراثية وارتباطها بمركز تصنيع البروتينات الخلوي (الريبوسوم) سيكون بردا وسلاما، إذ يحتمل أن تحدث أمور نتوقعها وأمور خارج سياق التوقعات. لقد اتضح مما سبق أن هذا اللقاح الجيني يقوم بعملية سيطرة وإعادة برمجة لمركز تصنيع البروتينات (الريبوسوم) داخل الخلية كمحاكاة للنظام الطبيعي في الخلق، الذي أبدعه الله عز وجل، فيمكن وصفها بعملية اختطاف "مؤقتة" قد تستمر بين 3 إلى 6 أشهر وقد تزيد، تُضطر الخلية بموجبه لاتباع الأوامر، التي وصلت لها على شكل شيفرة وراثية فيروسية مصنعة أدخلت إليها عنوة لتنتج بروتينا بعينه لتكوين مناعة ضد الفيروس كما فصلت أعلاه، فمن إحدى العواقب المحتملة أن يحدث رد فعل مناعي غير حميد معروف بـ"الاستجابة المناعية المصاحبة لإفراز الإنترفيرون من النوع الأول" (type 1 interferon immune response)، وتؤدي إلى حدوث "التهابات وتفاعل مناعي ذاتي ضد أعضاء وأنسجة الجسم" (inflammation and autoimmune condition). وأيضا فإن وصول هذا اللقاح لـ"الغدة الصنوبرية" (thymus gland)، والتي تؤدي دورا هاما في أداء جهاز المناعة، قد يؤدي لحدوث حالة "القبول لانعدام رد الفعل المناعي".

وهذا مبدأ معروف في علم المناعة عند حدوثه يفقد بموجبه جهاز المناعة خاصية التعرف على الهدف ومقاومته، ويسمى بـ"التسامح المناعي" (immune tolerance)، فيفقد بذلك الاستجابة المناعية المستقبلية إن تعرض لهذا النوع من الفيروسات، والقائمة طويلة لا يمكن عرضها هنا لتجنب الإطالة. وبالمقابل قد يَضِل اللقاح طريقه، فلا يصل هدفه المحدد داخل الخلية، فتصبح المعلومات الوراثية غير قابلة للترجمة لإنتاج البروتين المُراد، فلا تحدث المناعة ضد الفيروس بداية، بينما يعتقد الإنسان في مثل هذه الحالة أنه قد أخذ اللقاح؛ ولكن ما يحدث داخل الخلية ليس بالضرورة كذلك.

وهناك ضرر متوقع نتيجة اللقاح يمكن وصفه بتأثير الخاصية التنافسية، حيث يحدث تنافس بين الشيفرة الوراثية، التي يحملها اللقاح وبين الشيفرات الوراثية القادمة من نواة الخلية نفسها، لتظفر جميعها بمراكز تصنيع البروتينات (الريبوسومات) من أجل الارتباط بها والاستحواذ على إنتاج البروتين لكل منها، فهناك ملايين الريبوسومات المنتشرة في سيتوبلازم الخلية لإنتاج وتوزيع البروتينات بدون توقف باختصاصاتها وتتميز عن بعضها البعض؛ لكن ما يحدث هو أن اللقاح الذي يحمل شيفرة وراثية بحاجة لترجمة عبر الريبوسوم، هنا يبدأ التنافس بين شيفرة اللقاح وغيرها من الشيفرات الأصيلة في الخلية، فكل ارتباط ينشئه اللقاح لإنتاج بروتين الفيروس سيشغل من خلاله مكانا كان مخصصا لإنتاج إحدى البروتينات المهمة لبناء الخلية والأنسجة وأعضاء الجسم؛ وقد يستمر ذلك لأشهر أو يزيد، وذلك متوقع نظريا، فليس هناك دليل عملي يثبت حدوث ذلك الآن.

سيمرر اللقاح قريبا لتبدأ حملة تطعيم عالمية ستكشف مصير اللقاح الحقيقي على ملايين البشر، وستظهر محدودية الفعالية خلافا لما ظهر إعلاميا (90%؜)؛ بل أقل بكثير وستكون لفترة قصيرة جدا (أشهر)، فالفيروس يَتغير باستمرار متقدما على اللقاح بخطوات، والأعراض الجانبية ستبدو أكثر وضوحا على فئات عمرية مختلفة، ومرد ذلك كله القفز على حقائق وثوابت البحث العلمي وأخلاقياته.

لا تستطيع الشركة المصنعة للقاح أن تنفي حدوث ذلك مستقبلا أيضا؛ لأن الأمر برمته يشكل سابقة، وظهور أعراض بسبب هذه الحالة سيأخذ سنوات؛ على سبيل المثال قد يؤدي ارتباط اللقاح بمراكز بروتينات شعر الرأس إلى حدوث صلع مبكر، وقد يؤدي ارتباطه بمراكز بروتين أنسجة الجلد إلى حدوث حالة تهتك والتهابات جلدية، وهكذا قد تزيد احتمالات حدوث ذلك كلما زادت جرعة تركيز اللقاح؛ فمن يملك دليل إثبات أو نفي ذلك عمليا في غياب أي سابقة للقياس عليها؟ حتما ما من أحد يملك ذلك في الوقت الراهن، وعليه فإن معرفة هذه الآثار الجانبية أو غيرها مرهون بتقادم زمني نرتقبه على وجل، وحينها يأتي الدليل الدامغ، الذي لا يقبل الشك؛ لكن قد يكون بعد فوات الأوان.

في ضوء ما سبق وما هو معلوم حتى الساعة فإن ما هو متوقع بناءا على المعطيات كافة المخبرية والنظرية؛ سيمرر اللقاح قريبا لتبدأ حملة تطعيم عالمية ستكشف مصير اللقاح الحقيقي على ملايين البشر، وستظهر محدودية الفعالية خلافا لما ظهر إعلاميا (90%؜)؛ بل أقل بكثير وستكون لفترة قصيرة جدا (أشهر)، فالفيروس يَتغير باستمرار متقدما على اللقاح بخطوات، والأعراض الجانبية ستبدو أكثر وضوحا على فئات عمرية مختلفة، ومرد ذلك كله القفز على حقائق وثوابت البحث العلمي وأخلاقياته.

وختاما لا بد من الإشارة إلى أن اقتناع الناس من الناحيتين العلمية والأخلاقية بلقاح جديد (لفيروس جديد، متحور وممرض لم تعرفه البشرية من ذي قبل)، ومصنع بتقنية حيوية جديدة لم تجرب من قبل على الإنسانح لهو أمر صعب المنال بدون توفر دليل يبدد تلك المخاوف؛ ولكن لا ندري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فهناك محاولات أخرى كثيرة بعضها في مراحلها النهائية، وأخرى ستلحق بها خلال أشهر عسى أن يكون من بينها لقاح أو أكثر يساعد في التخفيف من حدة هذا الوباء العالمي، وللحديث بقية إن شاء الله.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.