الجزائر.. عن البلد الذي تفترسه المخاوف!

Algerians protest against interim President Abdelkader Bensaleh- - ALGIERS, ALGERIA - APRIL 12: Algerian police block protesters from marching towards Central Post Office during a demonstration demanding the departure of all officials affiliated with the regime of President Abdelaziz Bouteflika, who stepped down last week after two decades in power in Algiers, Algeria on April 12, 2019. For the eighth consecutive Friday, anti-regime demonstrators flooded the streets of Algiers.

أطراف الأزمة
ما الذي يحرّر الجميع؟
ما هو الإطار الزمني للحل؟

عاشت الجزائر تحت ظل عبد العزيز بوتفليقة فيما يشبه تناقضيْن بالغيْن: سخط عام على استبداده وفساده، وجدار عازل ضمِن وجود عامليْن يفتّتان أي معارضة، وهما: هدوء نسبي للبلد، واستدامة في دفع الرواتب، بمعنى الضمان الأمني في بعده الأدنى، والضمان الاقتصادي في حدّه الأقل.

بعد خلاص الجزائر من بوتفليقة، يشعر الجزائريون جميعا بقوة عارمة عنوانها إثبات قدرتهم على تغيير مصيرهم، لكنهم في الوقت نفسه يعايشون خوفا من انبعاث شياطين الماضي الأليم.

لا يُستثنى من ذلك أي فاعل سياسي، وعندما تسود مثل هذه الظروف يكون الناتج عملية عقيمة من العجز عن الفعل، تشلّ الجميع وتحيط كل فاعل بجدار يمنعه من تفعيل طاقاته، إلا إذا تغيّرت الظروف باتفاق جماعي يحرر الكل ويفتح طرقا للأمل.

لنفسّر كل ذلك، عبر قراءة موقف كل فاعل في الأزمة الدائرة.

أطراف الأزمة
الجيش هو الفاعل الأكبر، وهو يحتمي بالدستور حاليا، لماذا؟ لأنه في دائرة الدستور يمكنه تفعيل الملاحقة الأمنية للدوائر التي يعتبرها مفسِدة للبلد، أما الخروج عنه فسيصِم حركة الجيش بانقلاب تقليدي قد تنجرّ عنه تداعيات خارجية في الأساس الأول وعملياتية في الثاني.

كما يعايش الجيش مخاوف أخرى، هي رفض الشعب لخطته الدستورية في صيغتها الحالية، وانعدام القدرة على إقناع الجماهير بالتوجّه إلى صناديق الانتخاب، بما يعني إعادة تدوير أزمة شديدة الوطأة عالية المخاطر.

الشعب هو الفاعل الأعلى صوتا، وهو يقدّر أنه بعد كسر آل بوتفليقة فلا بد من استعادة حقه في تقرير مصيره بعيدا عن مخلّفات العصر البوتفليقي، وهو بهذا المنطق يرفض سيطرة من عيّنهم بوتفليقة (خليفته ورئيس حكومته) ليكونوا رسل العهد الجديد.. يفعل الشعب ذلك تحت طائلة الخوف من انبعاث شيطان البوتفليقية مجدّدا بكل مراراتها، لذا يعتصم غالبية أفراده بموقف عنوانه "لا" ضخمة ترفض كل حل لا يبدأ من طرد الحرس القديم.

المعارضة هي الفاعل الأقل وزنا، وهي تقدّر أنها في وضع متناقض، فمن جهة يعتبر الخلاص من بوتفليقة بشرى سارّة لها، لكن الفرحة نفسها غير كاملة، فالخلاص من بوتفليقة جاء بفعل الشارع الغاضب الذي كسر كل قوالب المعارضة التقليدية، بمعنى أنه كفر بالجميع سلطة ومعارضة.. مَثّل الشارع إذن ضربة قاضية أسقطت متصارِعيْن فشل كل منهما في إنهاء المباراة في وقتها الأصلي! فبنهاية بوتفليقة قد تجد المعارضة التقليدية نفسها مثله محالةً على التقاعد السياسي.

الفاعل الأقل عددا وذو الوزن القوي نسبيا، هو مجموعات البيروقراطيين وقادة المصالح الأمنية ورجال الأعمال الذين اصطنعهم بوتفليقة على عينه طوال عقدين. هؤلاء يعيشون المخاوف نفسها، إذ إن سقوط بوتفليقة وسطوة الجيش الصاعدة يعنيان لهم الفناء شكلا ومضمونا، لكن الغضبة الشعبية تعني بالنسبة لهم إمكانية الاستعمال التكتيكي للشارع بغرض تعطيل حركة الجيش ضدّهم.. ومع رفضهم التعبير العلني عن معارضتهم، ففي الخلفية يمكن استشعار فرح واضح بحالات الانقسام الشارعي.. فطالما اختلف القضاة سينجو اللص طبعا!

في الخلاصة.. لا يبدو أن أي فاعل قادر على كسر جدار مخاوفه والانخراط في جولة جديدة من العمل البنّاء.. وتلك مقدّمة مثالية لإفناء بلد نجا بالكاد من عشريات الدم والدموع والاستبداد والفساد.

ما الذي يحرّر الجميع؟
لا يمكن أن يتحرر الجميع بدون عقد اجتماعي جديد تصوغه سلطة منتخبة ترسم قواعد جديدة للعبة يرتضيها الجميع وينخرطون فيها بقوة. والسؤال المنطقي الذي يطرح نفسه: كيف يمكن إقناع الجميع بالتحول إلى الانتخابات بدلا من الشارع؟

يقتضي ذلك حركة طمأنة يقودها الجيش تشمل توفير ظروف أفضل للانتخابات، وذلك عبر إنهاء سريع للاعتقالات الأمنية الضرورية وإزاحة مخلفات بوتفليقة في قصري الرئاسة والحكومة بعد الانتهاء من وظيفتها المرحلية الوحيدة (إعطاء الصبغة القانونية للضربات الأمنية للجيش).

أما الحل الثاني فهو استبقاء المخلفات البوتفليقية وفتح نقاش جدي باسم الجيش نفسه مع المعارضة وبعض فاعلي الحراك، نقاش باسم الجيش لا باسم الرئاسة البائسة الفاقدة لأي ثقة، نقاش يضمن فيه الجيش -باسمه- نزاهة الانتخابات ويوفّر وسائل الانخراط فيها.

قد يكون هذا الحل صعبا لأن الجيش لا يريد الانخراط مباشرة في اللعبة السياسية ولعب دور المفاوِض، لكن إنقاذ البلد يقتضي تجاوز هذا الإشكال، فالجميع يعلمون من هو الجيش في الجزائر..

ما دور الشعب في مثل هذا السيناريو؟ الجواب: يوفّر غطاءً سياسيا للحل، يكون الشارع درع الاتفاق والمدافع عنه، والنتيجة هي خروج شعبي إلى انتخابات حقيقية يطرح فيها كل مرشّح خطته لإدارة المرحلة المقبلة بما تتضمنه من تعديلات دستورية واقتصادية وسياسية، ثم يختار الشعب نموذج التحوّل الذي يريده.

ما هو الإطار الزمني للحل؟
يحدد القانون الانتخابي في الجزائر فترة 45 يوما بعد الإعلان عن موعد الانتخابات لإبداء الشخصيات الراغبة في دخول الانتخابات رغبتها في ذلك، بمعنى أنه بتاريخ 25 مايو/أيار الحالي يجب أن يكون الجزائريون قد حصلوا على مرشحين جدّيين للرئاسة، وإلا فلن ينتخبوا مجموعات العصافير الانتخابية التي أعلنت رغبتها في دخول السباق ولم يهتم بها الشارع، بل يصعب ـواقعياـ أن ينجح أي من أسمائها في جمع الاستمارات (التوكيلات) القانونية من المواطنين، التي تسمح للمترشح بإيداع ملف ترشحه لدى المجلس الدستوري.

من اليوم إلى غاية 25 مايو/أيار الجاري، يجب أن ينبثق الحل في الجزائر إذا كان المطروح هو الحفاظ على المقاسات الدستورية التي يتمسك بها الجيش. أما خلاف ذلك فإن التغيير المقبل سيتطلّب معادلات جديدة وقراءات مختلفة لمواقف الفاعلين وقراراتهم الحالية.. وتلك قصة أخرى!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.