دورة العنف الطويلة في كشمير

blogs- Kashmir

لعل أكثر أساليب العمل خبثا التي يلجأ إليها أي حاكم مسيطر هي ‏التشويش والتعتيم لشل قدرة شعب مقهور على المقاومة. ولطالما وُظِّفت ‏هذه الإستراتيجية بدهاء ضد مواطني إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه منذ ‏عام 1846، الذي شهد إبرام معاهدة أمريتسار الجديرة بالازدراء والتي ‏يصفها الإقليم بأنها "صك بيع كشمير".‏

ومع تقسيم الهند البريطانية -أو الراج البريطاني- في عام 1947؛ ورثت ‏الدولة الهندية تلك الخدعة القاسية المسماة معاهدة في محاولاتها ‏استلاب هوية كشمير الإسلامية، وإنهاك طاقتها الحيوية واغتصاب ‏سيادتها، لكن دون طائل في نهاية المطاف.

إن المقاومة الكشميرية -في غمرة مدها وجزرها- لم تتراجع، بل إن مسارها ‏في تصاعد مطرد، ويزداد جرأة يوما بعد يوم. ولا ينبغي أن يُفاجئ ذلك ‏أحدا، فالتاريخ يعلمنا أن السلطة المهيمنة قد تعوق المقاومة، لكنها لن ‏تستطيع قمع الحريات إلى الأبد. ودورة العنف الطويلة في كشمير تقف ‏شاهدا على ما نقول.

يُعد 26 يناير/كانون الثاني ‏لدى لكشميريين في جميع أرجاء العالم يوم ذكرى لنكبتهم.‏ ومع كل قتل شنيع، واغتصاب بشع، وخيانة قاسية، وطفل بريء فقد ‏بصره، ومنزل تهدم؛ يستعر لهيب المقاومة أكثر. ومع دخول المقاومة ‏المدنية ضد الدولة الهندية عامها الــ72؛ بات واضحا أن كشمير تشهد ‏أشد سنوات عنفها فتكا.‏

ولفهم أسباب ذلك؛ طرحت مونيكا ولفيلد (2017) -بأسلوب مؤثر ولغة ‏واضحة- نظريتها بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في دورة حياة الصراعات.‏ وتكتسب مساهمتُها الدقيقة أهميةً، لأنها تساعدنا في تفكيك دورة ‏الصراع بكشمير وتحديد الدوافع المتمثلة في التالي:

ومع تقسيم الهند البريطانية -أو الراج البريطاني- في عام 1947؛ ورثت ‏الدولة الهندية تلك الخدعة القاسية المسماة معاهدة أمريتسار في محاولاتها ‏استلاب هوية كشمير الإسلامية، وإنهاك طاقتها الحيوية واغتصاب ‏سيادتها، لكن دون طائل في نهاية المطاف لأن المقاومة الكشميرية -في غمرة مدها وجزرها- لم تتراجع، بل إن مسارها ‏في تصاعد مطرد


1- انتهاكات حقوق الإنسان. 2- إنكار آليات حل النزاعات. 3- الهيمنة ‏الثقافية. 4- التطلعات من أجل تقرير المصير.‏

إن التداخل المعقد بين تلك الآليات هو الذي يُبقي دورة العنف في حالة ‏دوران، وهو ما يجعل من المستحيل لقضية كشمير أن يطويها النسيان.‏

إن أول الدوافع الأساسية لعزلة كشمير عن الهند تتمثل في انتهاكات ‏حقوق الإنسان الصارخة الجارية هناك. فمنذ عام 1989 وحتى يومنا ‏هذا؛ قُتل 95,234 شخصا، واغتُصبت 11107 نساء أو اعتُدي عليهن ‏جنسيا، وتيتّم 107351 طفلا، واعتُقل 145342 مدنيا.‏

وقد وثّق -بتفصيل دقيق- تقريرُ الأمم المتحدة الرسمي لعام 2018 بشأن كشمير، وبيانُ ‏مجموعة الأحزاب البرلمانية البريطانية الخاصة بكشمير برئاسة عضو ‏البرلمان كريس ليسلي؛ انتهاكاتٍ هائلة لحقوق الإنسان، ‏بما في ذلك آلاف المقابر الجماعية التي عُثر عليها في كشمير الواقعة تحت ‏الاحتلال الهندي.‏

إن هول البشاعة التي تنطوي عليها المقابر الجماعية يجعلها -بلا أدنى تحفظ- ‏جريمة ضد الإنسانية، وقد قامت بتوثيقها منظمات دولية مرموقة مثل ‏منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.‏

وثاني تلك الدوافع أن سياسة الدولة الهندية تجاه كشمير ينطبق عليها ‏وصف: سياسة ضيقة الأفق لا تقوم على التفاوض. ولم تُطرح قطُّ أي آلية ‏ذات مغزى لحل النزاع والتصدي للأسباب الكامنة وراء حالة ‏الإحباط/العزلة السائدة وسط شعب كشمير.

بل على العكس؛ فقد ‏عمدت الدولة إلى تزوير الانتخابات، وانتهاج سياسة الإفقار الاقتصادي ‏والابتزاز. وفي حال فشل كل تلك المحاولات؛ فإنها تلجأ إلى تطبيق إجراءات منع ‏التجول والاغتيالات.‏

ولنتذكر أن أكثر من سبعمئة ألف جندي ينتشرون في وادي كشمير مما ‏يجعله البقعة الأشد عسكرة على وجه الأرض. إن الحقيقة التي لا مراء ‏فيها هي أن الهند الهندوسية مذعورة، لأن أي آلية لحل النزاع ستعني في ‏النهاية انفصال كشمير.‏

ومما يزيد الطين بلة أن المتطرفين الهندوس يروجون رواية مغلوطة تزعم ‏أن "الناس جميعا كانوا هندوسا قبل مجيء المسلمين".‏

ولا يقتصر الأمر على التاريخ الإسلامي وحده، فالمتطرفون الهندوس ‏ينتحلون حتى التاريخ البوذي، وذلك بادعائهم أن كل معبد وأيقونة بوذية ملكهم. ‏ومن ثم فإن من يعترض على الروايات الرسمية يُهدَّد بالموت.‏ وفي أجواء مثل هذه؛ لن تفلح أي آلية لحل النزاع في كشمير.

وفي المحصلة ‏يكون تدويل النزاع أمرا لا مفر منه، ذلك أن كشمير ليست قضية بين ‏طرفين، والهند هي التي أحالت النزاع إلى الأمم المتحدة وفق الفصل ‏السادس من ميثاق المنظمة الدولية. ومنذ ذلك الحين؛ أصدرت الأمم ‏المتحدة قرارات هامة لم يكن أي منها مقيد بمدة زمنية محددة.‏

والدافع الثالث يكمن في محاولات الهند فرض هيمنتها الثقافية على ‏الإقليم، والتي أذكت نيران الغضب لدى الشعب الكشميري. وقد تجلى ذلك ‏في العديد من الحالات، من بينها سعي الدولة الهندية بغباء إلى حظر ‏ارتداء العباءة الكشميرية.

فما ذلك الخطر الذي يمثله اللباس الكشميري ‏حتى تحشد الهند جيشها بكامله ضده؟ حقا إن مثل تلك السياسات ‏الرعناء ليست مسيئة فحسب، بل إنها تزيد من بُعد الكشميريين عن ‏المجتمع الهندي.‏

ففرض الطابع السنسكريتي على المجتمع، والإمعان في إذلال الشعب ‏الكشميري بازدراء شخصيته والاستهانة بمردوده الثقافي؛ هو أمر سخيف. ‏ومما يحيّر العقل أن المتطرفين الهندوس يبغضون الكشميريين ‏ويحسدونهم في ذات الوقت.‏

والدافع الرابع وراء ابتعاد كشمير عن الهند يتمثل في أن الدرس الأكثر إيلاما -والذي ‏ينبغي على الدولة الهندية استيعابه- هو أن الكشميريين يطالبون بحق تقرير ‏المصير. وهذا ما لم يعجز الكثيرون عن فهمه، إذ لا يستطيع المرء قتل ‏الروح حتى لو قضى على الجسد.‏

إن من يعترض على الروايات الرسمية الهندية بشأن كشمير يُهدَّد بالموت.‏ وفي أجواء مثل هذه؛ لن تفلح أي آلية لحل النزاع فيه. وفي المحصلة ‏يكون تدويل النزاع أمرا لا مفر منه، ذلك أن كشمير ليست قضية بين ‏طرفين، والهند هي التي أحالت النزاع إلى الأمم المتحدة وفق الفصل ‏السادس من ميثاق المنظمة الدولية. ومنذ ذلك الحين؛ أصدرت الأمم ‏المتحدة قرارات هامة لم يكن أي منها مقيد بمدة زمنية محددة

إن العجز الفاضح في الاعتراف الصادق بوجود كشمير بأراضيها المتنازع ‏عليها، يشكل عقبة كأداء في طريق الحل السلمي.

وحسنا سيفعل الهنود إذا أمعنوا النظر في نضالهم ضد الاستعمار البريطاني، وفي كلمات ‏داعية الحقوق المدنية وليام إدوارد بورغاردت دو بويز التي قال فيها "إنني ‏أؤمن بالحرية لكل البشر: في فضاء يمدون فيه أذرعتهم وأورواحهم، ‏وبحقهم في التنفس والتصويت، وفي حرية اختيار أصدقائهم، والتمتع ‏بضوء الشمس، وبركوب القطارات، ولا تطاردهم اللعنات بسبب لون ‏بشرتهم، وبإرادتهم الحرة في التفكير والحلم والعمل كما يشاؤون، في ‏عالم يسوده الجمال والحب".‏

وهذا التطلع للحرية هو الذي أحدث انعطافة في دورة العنف بكشمير ‏في كل أنحاء العالم. وما يريده الكشميريون هو حياة كريمة يستنشقون فيها ‏عبير الحرية، ويتنزهون على مهل في أزقتهم الضيقة، ويرنون بأبصارهم إلى ‏زرقة السماء الصافية، وإلى جبال الهيمالايا المهيبة، دون أن يحدق فيهم آلاف ‏الجنود الهنود المنتشرين في كل تقاطع طريق.‏

وأخيرا؛ فإن كابوس كشمير الحقيقي يكمن في القهر الوحشي الذي ‏يمارسه مجتمع نخبة البراهمة، الذي يخبئ في ثناياه مفاهيم سامة ‏ومتبادلة للحرية، وعلمانية زائفة.‏

وفي واقع الأمر؛ فإن لهجة الهند الطنانة عن أنها أكبر دولة ديمقراطية في ‏العالم تفضحها ممارساتها في كشمير، وتنحدر إلى مستوى الخُطب الرنانة ‏الانتهازية.‏

وتتغافل مثل تلك اللهجة عن كيف أن الأيديولوجيات البنيوية ‏والثقافية والمؤسسية والفردانية المعادية للأجانب، وكذا الممارسات ‏والسياسات؛ تفترس أي مفهوم جدير بالاهتمام عن العدالة ‏والديمقراطية والحرية للكشميريين.‏

وما يدعو للأسف هو أن الجزائريين احتاجوا مئة عام ونيفا لنيل ‏الاستقلال من فرنسا؛‏ ويستطيع الكشميريون الانتظار أيضا. وكما يقول المثل البشتوني الشهير ‏فيما يتعلق بقتال عدو أفضل تسليحا: "هم يملكون الساعة لكن الوقت ‏معنا".‏

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.