شارع أحيته الثورة ومدينة عادت إليها الروح

: التونسيون يتجهون الأحد المقبل للتصويت في أول انتخابات بلدية بعد الثورة/العاصمة تونس/أبريل/نيسان 2018

"قتالين أولادنا.. سراقين بلادنا".. "يسقط حزب الدستور.. يسقط جلاد الشعب".. أصوات تسمعها من بعيد.. تجيؤك وكأنها هاربة من حلم غابر.. يأتيك صداها من بعيد وأنت تتجول في شارع الثورة أو شارع بورقيبة، أو شارع الصنم كما يسميه التونسيون اليوم؛ كل امرئ وما يشتهي من تسمية وما يريد..

تتقدم أكثر في الشارع الكبير.. شارع يبدأ بساعة عملاقة ونوافير ماء، وينتهي بتمثال للعلامة التونسي الأشهر عبد الرحمن بن خلدون.. من هنا أنت تحت سلطة الوقت وسيفه، ومن هناك تواجهك سلطة العلم والعبقرية الخالدة.. وبينهما طرب وحوارات ومعارض ومناشط شتى ثقافية واجتماعية وسياسية؛ تنوع بديع طريف يرسم وجه تونس الجديدة.

تتقدم قليلا فتجد ثلة صغيرة من شباب أقصى اليسار، أفرادها واقفون أو جالسون أو متأبط بعضهم أيدي بعض، على درج بناية "المسرح البلدي" الشهيرة وهم يصدحون بالشعارات الصاخبة: "قتالين أولادنا.. سراقين بلادنا".. يعبرون في حرية عن آرائهم بالتهجم والنقد الجارح للمسؤولين والحاكمين، في بلاد كانت تعبد حاكمها وتخشاه أكثر مما تخشى الله وتخافه..

أحيت الثورة شارع بورقيبة وأعادت إليه الروح وحررته من أدرانه وأوجاعه، حتى بات اليوم أشبه ما يكون بفتاة مِغْناج، تستعرض كل حين جمالها، وما وهبها الله من تعدد ملكات.. إنه معرض سياسي مفتوح في الهواء الطلق كل يوم.. فيه ترى التونسيين بخيرهم وشرهم وتناقضاتهم وصراعاتهم وتعايشهم.. وزادته الأيام الأخيرة من رمضان ألقا وبهاء على ألقه وبهائه

بلاد كان الخوف يعشش في أطرافها، وكانت عطشى للحرية قبل الثورة عطش أرض مشققة جافة للمطر، وصارت اليوم بها ريانة شبعانة متخمة.. كل فيها يغني -كما شاء ومتى شاء وبأي طريقة شاء- على ليلاه في حرية وأمن.

غير بعيد من المسرح البلدي، وهو مكان عريق لمشاهدة العروض الفنية والمسرحية محلية ودولية، وعروض مسرحيات السياسة أكثر؛ غير بعيد من هذا المكان العامر بالناس -أغلب الأحيان- تنتصب بناية رمادية مثيرة للمشاعر المتناقضة.. بناية كان اسمها وحده يثير الرعب وغشاوة من القشعريرة في جسم المرء، حتى وإن لم يكن من نشيطي السياسة ومعارضي الحكم..

إنها البناية الرمادية الضخمة التي ما زالت تتربع فيها وزارة الداخلية.. هناك سلخت جلود وأزهقت تحت التعذيب نفوس، وتمنى معذَّبون الموتَ بين أسوارها -فلم يكرموا به أو لم يعطوه نقمة وشماتة- أيامَ الظلم والطغيان.

فبسبب تلك البناية المخيفة؛ لم تكن ترى التونسيين أكثر حذرا حين يكونون في شارع عام، مثلما كنت تراهم يأخذون حذرهم في شارع بورقيبة أيام حكم القهر والاستبداد.. أما اليوم فإن الشارع الكبير الذي حررته ثورة يناير/كانون الثاني 2011 استعاد روحه، واغتسل كثيرا مما عشش في جنباته زمنا طويلا من خوف ورعب وظلام..

أنوار الحرية وثمارها: لقد أحيت الثورة الشارع وأعادت إليه الروح وحررته من أدرانه وأوجاعه، حتى بات اليوم أشبه ما يكون بفتاة مِغْناج، تستعرض كل حين جمالها، وما وهبها الله من تعدد ملكات.. إنه معرض سياسي مفتوح في الهواء الطلق كل يوم.. فيه ترى التونسيين بخيرهم وشرهم وتناقضاتهم وصراعاتهم وتعايشهم.. وزادته الأيام الأخيرة من رمضان ألقا وبهاء على ألقه وبهائه.

زيادة على المقاهي الكثيرة المنتشرة على جانبيْ الشارع الكبير، والمكتظة بروادها حتى قبيل السحور؛ يترشفون رُضاب القهوة وأنواع العصائر ويتناولون المآكل و"الآيس كريم"، تصادفك حيث ما مضيت في الشارع إما حلقات نقاش، كل يناقش ما يشاء ويتكلم فيما يريد..

أو يصادفك معرض للمنسوجات التقليدية والمشغولات اليدوية، تعرضها نساء جئن من كل مكان من تونس، يعرضن ما تفتقت عنه قرائحهن الغنية المبدعة، وجسدته أيديهن البارعة المِصناع.. أو تصادفك فرقة موسيقية وقف أفرادها أو افترشوا الرصيف -بكل تلقائية وبساطة- يغنون ويعزفون، والناس حولهم يستمتعون ويتبرعون لهم بما جادت به أيدي الكرام.

وهنا أيضا تجد خيمة للهلال الأحمر التونسي تستقبل المتبرعين بالدم.. وربما تحتاج وقتا طويلا في انتظار المتبرعين الذين جاؤوا قبلك، حتى يخلو لك وجه الممرضة الصبوح ولمسات يديها الناعمتين وإبرتها اللاذعة، فتتبرع مشكورا بما يحتاجه مريض يصارع آلامه في مستشفى بعيد أو قريب.

وقد تكون قطرات الدم التي تتبرع بها له سببا في شفائه من أدوائه وأوجاعه، وتخيل ما قد ينالك من هذا العمل الصالح -في العشر الأواخر من الشهر الفضيل- من بركة وخير وصالح دعاء.

وقد صادف كاتبُ هذه الكلمات -خلال تجواله في الشارع الكبير إحدى الليالي الرمضانية- خيمةً ليست ككل الخيم.. خيمة قال أصحابها -في فرح غامر يكشفه بريق العيون وألَقها أكثر مما تكشفه الكلمات وتعبر عنه- إنها المرة الأولى التي يُحتفل فيها بليلة نزول القرآن الكريم في هذا الشارع، الذي يعتقد كثير من التونسيين أن له حساسيةخاصة من أمور الدين وشؤونه..

في المدينة العتيقة تشم روائح خاصة، وترى معمارا مميزا خاصا، وتجد بضائع تقليدية مشغولة باليد بطرق خاصة.. وهنا أيضا تجد دُور الملوك الغابرين والبايات والوزراء ووجهاء القوم في الأزمنة السابقة، وقد رُمّمت وصارت مطاعم فاخرة ومقاهي يأتيها الناس من كل مكان.. بعضها يزين المدينة ويزيدها بهاء، وبعضها يُفسد الذوق ويملأ الأزقة صخبا وجنونا

هنا تسمع الخطيبات من النساء خريجات الجامعات وحِلَق العلم أكثر مما تسمع من الخطباء في أفضال الليلة المباركة من الشهر الفضيل، وللمرأة في تونس حضور لافت في مجال الشأن العام، لا تكاد تبزها فيه شقيقاتها العربيات من أهل المدر والوبر..

وترى -في جنبات الخيمة وأطرافها- أطفالا في وداعة يلعبون، أو شبابا وكهولا يستمعون إلى ما يلقى عليهم من عذب الكلام عن أشرف الكلام وأعظمه، كلام المولى العزيز العلام.

وغير بعيد من خيمة ذكرى نزول القرآن الكريم انتصبت خيمة تكاد تراها خاوية من أهلها.. تنبعث منها أصوات عالية وموسيقى نحاسية وخطابات خطيب مفوه بليغ.. وترى حيث ما التفت في أكنافها وأطرافها شاشات عملاقة تعرض خطبا قديمة لرجل دخل تاريخ تونس من أبوابه العريضة، وما زال جالسا في طريق المستقبل يسد بعض مساربه.. إنها خطب الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، الذي سُمي الشارع باسمه أيام سطوته ونفوذه.. تلك السطوة التي لم يبق منها إلا ذكريات خليط من المجد والسفالات.

ولكن من العجيب ألا ترى أحدا من المارة يحفل بما يُعرض في الشاشات العملاقة، التي يبدو أنه أنفِق لاستحضارها وتشغيلها وعرض ما يعرض فيها مال كثير.. ولكن من دون نتيجة وطائل.. رجلان مسنان فقط يتابعان ما يُعرض.. يستعيدان الذكريات القديمة، يتابعان خطب الزعيم وصوره.. أما شباب اليوم وحتى كهوله فلا تكاد تجد منهم من يحفل بما يُعرض.. وكأن ما يعرض شيء من غابر سحيق ميت لا يشد اهتمام أحد..

لكن تونس الثورة ولادة وحريتها تشمل بأفضالها الجميع.. فالشارع أشبه بسوق ضخم تجد فيه البضائع النافقة والبضائع الكاسدة، وكل امرئ وما يشتهي ويختار من المعروضات والأفكار والمشروبات والمأكولات.. هنا يجد الجسم متعته وتجد الروح ما به تتغذى وترتاح.

إلى جوار أحد المقاهي انتصب شابان تركيان يبيعان "البوظة" أو "الآيس كرم".. ليس التركيان وحدهما من يبيع تلك البضائع، التي يزيد الإقبال عليها صيفا.. لكن ما يأتيه الشابان من حركات وسكنات في طريقة تقديم "الآيس كريم" للزبائن جعلهما من أشهر العارضين في الشارع الكبير.. ترى الأطفال يتجمعون عليهما والآباء والأمهات يصورون بهواتفهم الذكية المشهد صوتا وصورة، والابتسامات تغمر المكان.

عبق العتيق: بعد "الآيس كريم" وما يزرعه في الصدر من برد ويقين؛ لا تكتمل الجولة في شارع الثورة حتى تزور تونس العتيقة.. مدينة ضاربة بجذورها في شِعاب الزمن.. هنا تجد ريح الأمجاد وذكريات الماضي وصوره حية عبقة تسكن النُّهُجَ الضيقة وزوايا الحارات القديمة..

هنا تشم روائح خاصة، وترى معمارا مميزا خاصا، وتجد بضائع تقليدية مشغولة باليد بطرق خاصة.. وهنا أيضا تجد دُور الملوك الغابرين والبايات والوزراء ووجهاء القوم في الأزمنة السابقة، وقد رُمّمت وصارت مطاعم فاخرة ومقاهي يأتيها الناس من كل مكان.. بعضها يزين المدينة ويزيدها بهاء، وبعضها يُفسد الذوق ويملأ الأزقة صخبا وجنونا.

في الطرقات الضيقة للمدينة العتيقة ترى معروضات "الجبة" التونسية والسراويل المصنوعة على الطريقة القديمة.. وتسمع لها أسماء طريفة، لا تسمعها إلا من الخبراء والعارفين بدقائق الأمور وتفاصيلها.. كما تجد دكاكين باعة الذهب..

هنا أيضا تجد أنواعا من الفواكه الجافة وأنواعا من "العلكة" أو "اللوبان" جاءت من بلاد شتى.. وفي الأزقة الضيقة تمر على متاجر الحلويات، ولا بد هنا من أن ينجح بائع ما في إغرائك بخوض التجربة فتتذوق مما جادت به يده الكريمة.. ويغريك الطعم وتجد نفسك آخر الأمر وقد خرجت محملا..

تتوغل قليلا فتجد المسجد الجامع الأشهر في تونس.. إنه جامع الزيتونة المعمور.. جامع يعد من أقدم مساجد تونس وأعظمها بركة، لما مر عليه وبه من فطاحل العلماء والباحثين، ولما زاره وصلى في جنباته وتحت عرصاته من غزاة ومرابطين ومجاهدين، كانت لهم كلمتهم -زمنا طويلا- في غرب المتوسط كله.

إنها الثورة تضيف -رغم كل ما تواجهه من صعوبات وتقلبات وأوجاع مخاض عسير- إلى جمال المدينة وشارعها الكبير حياة وروحا لم تكن فيه.. إنها الحرية تزرع الأمل في المستقبل فيقارع اليأس المنتشر، وتطلق الألسن والأفكار فتبدع

بُني الجامع المبارك في عام 79 من هجرة النبي الأكرم في القرن المبارك الأول.. قاعة الصلاة فيه مساحتها أكثر من 1300 متر مربع مغطاة بسقف بسيط تحمله نحو 160 سارية أو عمود أو "عرصة" باللهجة المحلية، تشكل 15 فناء وستة أروقة..

ويضم المسجد صحنا مفتوحا يمتد على عشرات الأمتار طولا وعرضا، وله منارة مربعة الشكل تنتصب في الزاوية الشمالية الغربية لصحن الجامع، يبلغ ارتفاعها 43 مترا، وهي تشبه زخرفة المنارة الموحدية في جامع القصبة، غير البعيد من هناك. وهي مصنوعة من الحجر الجيري على خلفية الحجر الرملي؛ كما يقول العارفون بهندسة المكان.

يمتلئ المسجد أثناء صلاة التراويح في رمضان، وتتقارب في الصحن الخارجي الواسع صفوف النساء والرجال بدون فواصل ظاهرة. وفيه تقام الاحتفالات في المناسبات الدينية الكبرى، كان يحضرها الملوك والبايات من قبل، ويحضرها اليوم رئيس الجمهورية ومفتي الديار وكبار المسؤولين في الدولة.

ويتميز المسجد -الذي يزوره التونسيون القادمون إلى العاصمة فضولا وسعيا للبركة، مثلما يزوره السواح الغربيون فضولا وحب استطلاع- بطيوره الأليفة، ترى الناس كبارا وصغارا يطعمونها، ويلتقطون الصور لها ومعها في ابتهاج وسرور. وتراها ليلا نائمة في فجوات قرب السقف وفي أطراف المنارة، فتضفي على المكان جمالا وبهجة وحياة.

وغير بعيد عن الجامع المعمور؛ يجد الآتي من شارع بورقيبة -إذا أوغل قُدُماً في سياحته بالمدينة العتيقة- قصر القصبة، وهو قصر الحكومة الذي تدير منه إلى اليوم شؤون البلاد.. وكان القصر مقرا لحكم بايات تونس حتى فترة متأخرة..

ولا يظهر جمال القصر وبراعة ما فيه إلا لداخله.. هنا يجد المرء تاريخا عريقا لا يزال حيا يتنفسه الناس.. ومن بركات الثورة أن قربت الحكم إلى الناس، فلم يعد دخول القصر مستحيلا على العامة. وقد دخله كاتب هذه الكلمات مرارا في إطار عمل، واطلع عن كثب على الجمال البسيط ورفعة الذوق التي تجلل المكان.

إنها الثورة تضيف -رغم كل ما تواجهه من صعوبات وتقلبات وأوجاع مخاض عسير- إلى جمال المدينة وشارعها الكبير حياة وروحا لم تكن فيه.. إنها الحرية تزرع الأمل في المستقبل فيقارع اليأس المنتشر، وتطلق الألسن والأفكار فتبدع..

وقد يرافق الإبداعَ نشازٌ ناجم عن التعدد المتمرد الخارج دوما عن المألوف.. إنه إبداع معجون بماء نشاز وغرابة وجنون.. خلطة غريبة تصنع تونس الجديدة بكل ثراها وتناقضاتها، وتجعل منها -رغم قلق أهلها ومخاوفهم- نموذجا عربيا يُحتذى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.