المجلس الوطني الفلسطيني وانقسام قوى اليسار

انعقاد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني برام الله

انقسام قديم
فوضى الماضي
سياسة المحاصصة 

ظهر الانقسام جلياً مجددا بين فصائل ومكونات اليسار الفلسطيني (القطب الثالث)، مع انعقاد الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله (من 30 أبريل/نيسان 2018 إلى 3 مايو/أيار 2018).

فقد شاركت في أعمال هذه الدورة فصائل من اليسار أبرزها حزب الشعب الفلسطيني (الشيوعي سابقاً)، وحزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا)، وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، وجبهة التحرير الفلسطينية، وحركة المبادرة الوطنية (المُنشقة أصلاً عن حزب الشعب)، والجبهة الديمقراطية.

وقاطع أعمالَه الفصيلُ اليساري الأكبر والأبرز في الساحة الفلسطينية، والثاني في ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية؛ ونقصد به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومعها أيضاً بعض المكونات اليسارية الفلسطينية الصغيرة.

انقسام قديم
من الواضح -وفق المعطيات المتوافرة- أنَّ الجبهة الشعبية اتخذت موقفها الأخير من مسألة مقاطعة دورة أعمال المجلس الوطني، بمباركة من قواعدها التنظيمية في الداخل الفلسطيني وفي الشتات، والتي بَدَت -من خلال عدة مؤشرات- أكثر تشدداً من قيادتها في رفض المشاركة، وبالتالي كانت قيادة الجبهة الشعبية أكثر التزاماً برؤية قواعدها لهذه المسألة وترجمتها إلى موقف موحَّد.

قوى القطب الثالث اليسارية في الساحة الفلسطينية باتت -منذ زمن ليس بالقصير- قوى ممزقة، ومتنافسة سلبياً بشكلٍ غير مبدئي ودون اتفاقٍ على الحد الأدنى بين مختلف أطرافها ومكوناتها، رغم تقاربها المُعلن مع بعضها بعضا وتناغمها في خطابها السياسي اللفظي

الانقسام الأخير في صفوف مكونات اليسار الفلسطيني -بشأن المشاركة أو الإحجام عنها في أعمال دورة المجلس الوطني الفلسطيني– ليس الأول، بل سَبَقَ أن انقسمت الفصائل اليسارية الفلسطينية تجاه العديد من المواضيع في محطات مفصلية من مسيرة العمل الفلسطيني، ومنذ الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في يونيو/حزيران 1974 عندما تم إطلاق "البرنامج المرحلي" لمنظمة التحرير.

وتم في المقابل؛ تشكيل جبهة الرفض الفلسطينية (تألفت من: الجبهة الشعبية والجبهة الشعبية/القيادة العامة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني وجبهة التحرير العربية)، لكن الانقسام هذه المرة له أبعاد ومترتبات غاية في الأهمية، في إطار العلاقات بين المكونات اليسارية وخاصة الجبهتين الشعبية والديمقراطية.

حيث تَعتَبر الجبهة الشعبية أنها "خُذِلت من الجبهة الديمقراطية" التي كانت قد وعدت -باتفاقٍ مع الجبهة الشعبية- على مقاطعة دورة أعمال المجلس الوطني، حال تمت الدعوة دون إجراء الترتيبات والتحضيرات المطلوبة وفق ما تطالب به الجبهة الشعبية، ووفق الخطاب السياسي المُعلن للجبهة الديمقراطية وتصريح أمينها العام الذي قال: "لا لمجلس انفراد وتفريد"، وذلك قبل أيام قليلة من انعقاد دورة المجلس.

وبالفعل انتظرت الجبهة الديمقراطية -حتى اللحظات الأخيرة- لإعلان موقفها بالمشاركة في أعمال المجلس، علماً بأن المراقبين للحالة الفلسطينية يؤكدون أن الجبهة الديمقراطية كانت اتخذت قرارها بالمشاركة فور الدعوة إلى دورة أعمال المجلس، لكنها "كانت تريد المفاوضة على ثمن الحضور"، ولــ"تحقيق مكاسب آنية خاصة تنبع من عصبوية تنظيمية".

لكن الجبهة الديمقراطية نفت ذلك، إذ قالت على لسان مصدر رسمي فيها: "ولما تبيّن للجبهة أن الدورة التوحيدية -هذه المرة- لن يكون لها حظ الانعقاد لأسباب مختلفة؛ فإنها مارست دورها الوطني في إطار المؤسسة الوطنية، من موقع المعارضة الواضحة والصريحة لسياسة القيادة الرسمية الفلسطينية وأدائها، ومن موقع الحرص على إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تتعرض على يد القيادة الرسمية للتهميش، وتذويب مؤسساتها في مؤسسات السلطة الفلسطينية".

فوضى الماضي
حقيقة الأمر هي أنَّ قوى القطب الثالث اليسارية في الساحة الفلسطينية باتت -منذ زمن ليس بالقصير- قوى ممزقة، ومتنافسة سلبياً بشكلٍ غير مبدئي ودون اتفاقٍ على الحد الأدنى بين مختلف أطرافها ومكوناتها، رغم تقاربها المُعلن مع بعضها بعضا وتناغمها في خطابها السياسي اللفظي.

إنَّ مكونات اليسار الفلسطيني ما زالت تعيش حالة فوضى الماضي، دون أن تُدرك أن واقعاً جديداً قد تشكّل على الأرض خلال السنوات العشرين ونيف التي انقضت من التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، من ناحية حضور وفعالية القوى وصعود قوى فلسطينية جديدة.

ودون أن تُدرك أنَّ عليها أن تغادر منطق وأساليب بالية استهلكتها تاريخياً، وأنَّ عليها أن تغيّر و"تصلح الذات في أحسن الأحوال"، وتطور من أدواتها وبرامجها وفعلها على الأرض، ومن العلاقات المشتركة بين مكوناتها.

مكونات اليسار الفلسطيني ما زالت تعيش حالة فوضى الماضي، دون أن تُدرك أن واقعاً جديداً قد تشكّل على الأرض خلال السنوات العشرين ونيف التي انقضت من التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، من ناحية حضور وفعالية القوى وصعود قوى فلسطينية جديدة

هذا حال مُعظم قوى اليسار الفلسطيني التي تحوّلت إلى تجمعات، يَلعَب مُعظم كوادرها دور "الحكواتي" على الطريقة الشعبية الدمشقية. فقد فشلت قوى اليسار الفلسطيني -على مدار سنواتٍ طويلةٍ- في توحيد جهودها، وفي أن تَصنَع لنفسها قطباً سياسياً وتنظيمياً موحداً في المعادلة الفلسطينية.

وهو فشل مُتوقع له أن يستمر ما دامت تلك القوى تُكابر ولا تتعلم من دروسها، وما دامت الفئوية والعصبيات التنظيمية الضيقة هي المسيطرة على تفكير مرجعياتها القيادية، وخصوصاً منها المرجعيات التاريخية التي تَحمِل كيدَ الماضي.

فصائل اليسار الفلسطيني لَعِبَت أدواراً هامة في محطات ومفاصل وانعطافات وطنية فلسطينية هامة سياسياً وعسكرياً، لكنها في الوقت نفسه تشاجرت بل وتقاتلت مع بعضها بعضا في محطاتٍ عديدةٍ دون أدنى مُبرر منطقي، ولم تصل في النهاية إلى توحيد لمواقفها رغم إعلانها عن قيامِ تشكيلات اتحادية لم تلبث أن انهارت.

ومنها مثلا القيادة المشتركة للجبهتين الشعبية والديمقراطية عام 1984 التي لم تُعمَّر أكثر من عام واحد، وكذلك القيادة الموحدة للجبهتين عام 1990 التي انتهت بعد شهور من إعلان قيامها، والإطار المعروف باسم "جبهة اليسار" (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحزب الشعب الفلسطيني والجبهة الديمقراطية)، والذي نشأ قبل عدة سنوات في الداخل والشتات، وما زال يراوح مكانه.

سياسة المحاصصة
لقد اختُزلت السياسة التحالفية لفصائل اليسار وعموم ما اصطلح على تسميته "قوى القطب الثالث" (في البيت الفلسطيني الواحد وداخل منظمة التحرير الفلسطينية) إلى فلسفة المحاصصة، حيث تتوزع الحصص الكبيرة والصغيرة على تنظيمات صغيرة وكبيرة، ويأخذ كل طرف قسطاً يساوي حجمه فيما يعرف بـ"الكوتا"، وفق صفقات تستقر بالتمثيل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومؤسساتها الوطنية.

فكانت هذه المحاصصةُ إلغاءً للسياسة اليسارية المُعلنة، والداعية إلى بناء المؤسسات الفلسطينية على أساس ائتلافي ديمقراطي بعيداً عن منطق التبعية والاحتواء، في حين أن معنى السياسة هو تحقيق علاقة صحيحة بين الموقف المعلن والممارسة في إطار المشروع الوطني التحرري.

لقد حذف مفهوم المحاصصة -الذي قاتل اليسار من أجله- الخطاب السياسي ودلالاته، ودفع باليسار إلى نفق لا يؤدي إلى تطور، فحال القوى اليسارية الفلسطينية اليوم حال منقسم على ذاته.

أدت سياسة المحاصصة إلى إلغاء السياسة اليسارية المُعلنة، والداعية إلى بناء المؤسسات الفلسطينية على أساس ائتلافي ديمقراطي بعيداً عن منطق التبعية والاحتواء، في حين أن معنى السياسة هو تحقيق علاقة صحيحة بين الموقف المعلن والممارسة في إطار المشروع الوطني التحرري

فمنها قوى عينها شاخصة على ما تريد أن تجنيه من امتيازات حتى ولو كانت محدودة من المخصصات، وعلى حصتها من الكعكة من صندوق منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية التي باتت هي الهم الأساسي. ومنها القوى التي تدور في فلك آخر دون أن تقوم بخطوات ملموسة لتطوير دورها في العمل الفلسطيني السياسي والتنظيمي.

والآن، وقبل أن يضع المجلس الوطني أوزاره في دورته الثالثة والعشرين؛ بدأت موجات "الردح" السياسي بين مكونات اليسار ترتفع، ويُتوقع لها أن تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تعود وتهدأ أمام أمر مستجد. وفي الاستخلاصات الأخيرة مما جرى ويجري، نحدد التالي:

1- إنَّ قوى اليسار الفلسطيني باتت عاجزة -على الأقل الآن وإلى مدى منظور- عن تشكيل قطب ثالث موحّد ووازن في الساحة الفلسطينية.

2- إنَّ الخطابات الإعلامية اللفظية التوافقية المتبادلة بين مكونات اليسار الفلسطيني لا أثر فعلياً لها على أرض الواقع، فأغلب مكونات ذلك اليسار تهرع وراء مكاسبها الفئوية.

3- إنَّ معظم مكونات اليسار الفلسطيني تعيش حالة انفضاض الناس من حولها، لأسباب تتعلق بسلوكها وأدائها وانتهازية بعضها.

4- إنَّ الوصول إلى مجلس وطني فلسطيني توحيدي يَضُم الجميع -وخاصة حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي- كان وما زال أمرا صعباً وليس في اليد.

فتجربة مداولات وحوارات المصالحة استمرت ما يزيد على عقد دون تحقيق الحدّ الأدنى من الاتفاق، أو حتى الوصول إلى توافق على ملف واحد من ملفات هذه المصالحة؛ ولذلك كان التمسك بهذا الشعار النبيل يبدو وكأنه غير واقعي في الظرف الراهن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.