عام على الأزمة الخليجية.. كيف حاصرت قطر محاصريها؟

epa06659900 US President Donald J. Trump during a meeting with the Emir of Qatar Sheikh Tamim bin Hamad Al Thani (L), in the Oval Office at the White House, in Washington, DC, USA, 10 April 2018. President Trump has announced that he canceled his upcoming trip to the 8th annual Summit of the Americas in Lima, Peru. EPA-EFE/Mark Wilson / POOL

لم يكن يوم ٥ يونيو/حزيران ٢٠١٧ يوما عاديا في تاريخ شعوب ودول منطقة الخليج العربي، ذلك أنه مثّل زلزالا سياسيا واجتماعيا في تاريخ المنطقة العربية والخليجية خاصة، ودقّ فيه المسمار الأخير في نعش النظام العربي الرسمي بجناحه الخليجي الذي لم يكن بحاجة إلى مثل هذه الأزمة، ولا لهذا الانفراط الذي شمل إحدى مؤسسات العمل العربي المشترك (مجلس التعاون الخليجي).

ولا يمكن -في اعتقادي الشخصي- فهم أزمة ٥ يونيو/حزيران ٢٠١٧ وما أدت إليه من انخرام عقد التفاهم الخليجي العربي، إذا لم نفهم الأسباب التي أدت إلى حصار دولة عربية خليجية جارة كدولة قطر؛ لماذا حوصرت دولة قطر؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة الخليجية؟

في عام ١٩٨١؛ تأسس مجلس التعاون الخليجي وانضمت إليه معظم دول الخليج العربي آنذاك، كمبادرة جديدة لتأسيس منظومة سياسية عربية تبتعد عن الأيديولوجيا والشعارات التي كانت أساس العمل العربي المشترك، والتي للأسف فقدت بريقها نظرا لفشلها العملي وتباين الأنظمة السياسية العربية، التي كانت تضمها مؤسسة الجامعة العربيةالتواقة إلى العمل الوحدوي الفعال.

كانت منظومة مجلس التعاون تهدف إلى تثمين المشترك السياسي والمعطى الاجتماعي الخليجي المتقارب، في تجربة للعمل المشترك المؤسساتي الذي يساعده تشابه البيئة السياسية والثقافية لشعوب المنطقة، ويعززه طموح قادة دول الخليج في تلك الفترة.

سقوط النظام العراقي عام ٢٠٠٣ (غزو العراق) أفقد المنطقة الخليجية توازنها الإستراتيجي، ولم تكن التحديات الداخلية غائبة عن المشهد السياسي الخليجي؛ فالتهديد السعودي لدولة قطر عام ١٩٩٢ في أزمة الحدود بين البلدين، والتدخل السعودي السافر في سيادة دولة قطر عبر ترويج وتشجيع وتمويل العمليات الانقلابية على نظام الحكم في قطر، عمّق الشعور بعدم الثقة في مؤسسة مجلس التعاون الخليجي

لم يكن الحراك المؤسساتي الخليجي حراكا داخليا فقط، بل كان كذلك استجابة لواقع العلاقات الدولية في تلك الفترة من حرب باردة بين العملاقين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي التواق للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي.

كما مثلت الثورة الإيرانية في تلك الفترة تحديا سياسيا وأيديولوجياً لدول منطقة الخليج التي قد يعاني بعضها من آثار الواقع السياسي الإيراني الجديد، وتحريكه للطائفية الشيعية الموجودة في بعض بلدان الخليج العربية.

شعر قادة الخليج العربي آنذاك بأن الأخطار المحدقة بمنطقتهم الغنية بالثروات الباطنية -خصوصا النفط- قد تفرض عليهم استجابة عملية ومؤسساتية، تُخرجهم من مفهوم الدولة الواحدة القُطرية إلى توحيد العمل في مؤسسة سياسية، يتم فيها تنسيق الجهود على منوال ما يوجد في الغرب من السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت لاحقا إلى الاتحاد الأوروبي.

افترض هذا العمل المؤسساتي الخليجي توافق قادته حينها على توحيد الجهود، وتسوية النزاعات الداخلية بالتفاوض والحكمة، حتى يتم الحفاظ على البيت الخليجي في واقع عربي مفعم بالأزمات والحروب.

ولم تكن الحرب الإيرانية العراقية -التي دامت ثماني سنوات- محفزة على التباين الداخلي، بقدر ما كانت دافعة إلى التكاتف حول البيت الخليجي الواحد، ومساندة أحد طرفيْ النزاع في تلك الفترة، ألا وهو العراق الذي خرج منتصرا من تلك الحرب.

لكن انتصار نظام حزب البعث العراقي كان منذرا باختلال التوازن الإستراتيجي في منطقة الخليج العربي، وهو ما أكدته حرب الخليج الثانية التي أعقبت كارثة غزو العراق لدولة الكويت العضو في مجلس التعاون الخليجي، وكانت أكبر أزمة تعيشها المنظومة الخليجية.

مثلت بالتالي حرب الخليج الثانية تحديا آخر لقادة الخليج العربي آنذاك؛ فالتوازن الإستراتيجي للمنطقة يجب أن تتوازن فيه قوى المنطقة بما فيها إيران والعراق، مع حماية قد تفرضها الولايات المتحدة الأميركية لتعزيز هذا التوازن.

إلا أن سقوط النظام العراقي عام ٢٠٠٣ (غزو العراق) أفقد المنطقة الخليجية توازنها الإستراتيجي، ولم تكن التحديات الداخلية غائبة عن المشهد السياسي الخليجي؛ فالتهديد السعودي لدولة قطر عام ١٩٩٢ في أزمة الحدود بين البلدين، والتدخل السعودي السافر في سيادة دولة قطر عبر ترويج وتشجيع وتمويل العمليات الانقلابية على نظام الحكم في قطر، عمّق الشعور بعدم الثقة في مؤسسة مجلس التعاون الخليجي.

كما يجدر بنا ألا ننسى أن النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين شهد حراكا في منظومة صنع القرار بدول الخليج، وكان هذا متمثلا في ظهور قيادات سياسية إصلاحية جديدة تطمح لتأسيس أنظمة حكم جديدة.

وهذا ما حصل فعلا في دولة قطر ١٩٩٥ بعدما تولى أميرها السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني السلطة فيها، وأدرك أن المنطقة تحتاج إلى حراك إصلاحي يبني على ثروة البلاد لإحداث دينامية تؤسس لدولة عصرية، تؤسس لنموذج جديد يكون مثالا لدول المنطقة في السنوات القادمة.

ولذلك فإن مطالب دول الحصار لقطر كانت محرجة للسعودية والإمارات ومن تبعهما، لأن هذه المطالب -التي اعتبرتها دول الحصار قضايا تمسّ أمن الخليج- كانت في حقيقة الأمر تنال من قضايا حقوقية تتفق عليها المجتمعات الحرة والديمقراطية، كقضية حرية التعبير والصحافة وحرية المرأة وحرية الإعلام.

إن جميع هذه المسائل -التي عوقبت بسببها قطر وصانع قرارها السياسي- هي أدوات جعلت القيادة القطرية وشعبها والمقيمين فيها يتفقون في توحيد مسارهم النضالي للدفاع عن هذه القيم الأساسية؛ وبالتالي خرج صانع القرار القطري من هذه الأزمة وهو أكثر قوة مما كان يعتقده خصومه.

لقد سقطت بذلك دول الحصار في أزمة أخلاقية أحرجت بها نفسها، وأجبرت المجتمع المدني الدولي -بجمعياته الحقوقية في أوروبا وأميركا الشمالية- على أن يتعاطف مع الموقف القطري. أضف إلى ذلك التعامل الذكي والرصين الذي ميّز الموقف القطري شعبيا ورسميا أمام ظلم الأقربين

فدول الحصار ألّبت عليها -من حيث لا تعلم- جموعَ شعوب المنطقة العربية والخليجية بل وحتى الدولية؛ فقضايا حقوق الإنسان التي تورطت فيها دول الحصار، من تفريق للعوائل الخليجية الواحدة وإذلال للمعتمرين والحجّاج القطريين، ووثّقتها كافة الجمعيات الحقوقية الدولية؛ تعتبر نذير إفلاس أدبي لدول الحصار.

ولا يسعني إلا أن أذكر ما قاله رئيس الوفد الحقوقي الكندي الرفيع السفير السابق فيري دي كركوف، الذي زار قطر في فبراير/شباط الماضي وعبّر عن "كارثة إنسانية طالت قطر والمنطقة الخليجية بعد ٥ يونيو/حزيران".

وأن أذكّر بما قاله رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان القطرية علي بن صميخ المري من "أن انتهاكات حقوق الإنسان بعد حصار قطر طالت كل المواطنين الخليجيين وخلفت فيهم جروحا ومأساة لم يعهدها المجتمع الخليجي والقطري".

لقد سقطت بذلك دول الحصار في أزمة أخلاقية أحرجت بها نفسها، وأجبرت المجتمع المدني الدولي -بجمعياته الحقوقية في أوروبا وأميركا الشمالية– على أن يتعاطف مع الموقف القطري. أضف إلى ذلك التعامل الذكي والرصين الذي ميّز الموقف القطري شعبيا ورسميا أمام ظلم الأقربين.

لم تكن الدولة القطرية -بكل مؤسساتها السياسية- ترى ضيرا في التعامل الشفاف مع الوفود الحقوقية الدولية الرفيعة التي زارت قطر، وكتبت تقاريرها عن أزمة الحصار ومخلفاتها.

ولا يسعني إلا أن أذكر -في هذا السياق- التقرير الأممي الحقوقي وتقرير الوفد الكندي الحقوقي الرفيع، الذي أرسِل إلى البرلمان الكندي ومسؤول ملف العلاقات الخارجية في هذا البرلمان.

لم يكن الحصار مقتصرا على الجانب الحقوقي فقط، بل شمل حق التعليم الذي حُرم منه العديد من المواطنين القطريين والخليجيين، الذين كانوا يدرسون في جامعات خليجية ومؤسسات تعليمية جامعية غربية موجودة في دول الخليج، بما فيها دول الحصار التي تعسفت بحق الطلبة القطريين والخليجيين، وطردتهم من جامعاتها ضاربةً عُرض الحائط بحقوق هؤلاء الطلبة في التغطية المادية والأدبية والعلمية.

كذلك فقد الآلاف من الطلبة القطريين ملفاتهم الجامعية في عملية تدمير ممنهجة للذاكرة الأكاديمية للطالب القطري، بمشاركة وتواطؤ من بعض الجامعات الغربية العالمية العريقة؛ مما أدى لرفع مؤسسات جامعية كندية شكوى بشأن انتهاك هذه الجامعات للمعايير الأكاديمية الدولية في تعاملها مع الطلبة القطريين، وقد أبدت الجامعات الكندية استعدادها لقبول طلبة قطريين من ضحايا الحصار.

يبدو جليًّا أن إعلان قرار حصار قطر في ٥ يونيو/حزيران ٢٠١٧ كان محطة فارقة في تاريخ منظومة سياسية خليجية لم تفهم التغيرات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، ولذلك بقيت في جمودها المعرفي والسياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.