حصاد زيارة ماكرون لأميركا

U.S. President Donald Trump (L) shakes hands with French President Emmanuel Macron before a working lunch ahead of a NATO Summit in Brussels, Belgium, May 25, 2017. REUTERS/Peter Dejong/Pool

بعد نهاية عهد الاستعمار الكولونيالي؛ دخل العالم عهد التنافس والتجاذب للنفوذ الثقافي/السياسي في المستعمرات السابقة، والذي أسمي صراعا بين الأنجلوساكسونية والفرانكفونية، إشارة ليس للمضمون الثقافي للتعريفين الذي لا يُهمَل، بل للنفوذ المتبقي لفرنسا في ما كان مستعمراتها والمتنافس مع ما بقي لبريطانيا في ما كان مستعمراتها.

وقد تحققت إضافة سياسية/اقتصادية/عسكرية للأنجلوساكسونية بانفصال المستعمرة البريطانية في أميركا الشمالية لتصبح "الولايات المتحدة الأميركية"، ولكن المكسب الجديد لم يضف لحساب بريطانيا بل للولايات المتحدة الأميركية.

فالتدخل العسكري الأميركي -المتأخر خارج أرضها والمستريح مقارنة بكل أطراف تلك الحرب- لم يُكسبها نسبة النصر لها فقط، بل هي غنمت العقول الأوروبية -وبالذات الألمانية- أثناء وبعد الحرب في مختلف الحقول، من العلوم (بمن فيهم العلماء النوويون) إلى الفنون بما فيها أحدثها وهو السينمائي (تعتبر صناعة السينما إحدى أهم القوى الناعمة لأميركا).

يؤدي تغير الموقف الشعبي إلى تغيير قادة كانوا حظوا من قبل بتأييد شعبي كبير. وقد أنتج هذا ليس فقط تهميش زعماء تاريخيين، بل وتهميش أحزاب رئيسة كانت تتبادل مواقع الحكم بين حزبين رئيسين عادة، أحدهما يميني محافظ دينيا أو قوميا، والآخر يساري تاريخيا ولكنه بات يميل إلى الليبرالية مع غلبة حقوق وحريات مستجدة تتجاوز ما كان يطرحه اليساريون

هذا إضافة إلى صفقة العصر وليس فقط القرن المتجسدة في "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا. ومجمل هذا كرس أميركا زعيمة للمعسكر الغربي، فيما قبلت بريطانيا دور المندوب لأميركا موظفة كون الأخيرة "أنجلوساكسونية".

أميركا التي أصبحت -نتيجة تلك الحرب- قبلة العقول الأوروبية المهاجرة، صارت أيضا قبلة المهاجرين من العالم الثالث. ولكنها ليست معرضة لمخاطر الهجرة الجماعية اليائسة من العالم العربي وأفريقيا؛ فأميركا تمحص وتنتقي من بين الملايين الذين تقدموا بطلبات هجرة. والعدد الضئيل الذي وعدت أميركا أوباما باستقباله من اللاجئين السوريين، تبخر بفوز دونالد ترمب.

وهو عكس ما يجري لأوروبا وتضاعف بما يشبه الطوفان بتدافع لاجئين من مناطق الحروب والنزاعات المسلحة وخاصة من سوريا، يخرقون حدودها البرية والبحرية وهم بحال لا يتيح للدول الأوروبية ردهم دون التعرض لنقد دولي، بل وشعبي من قطاعات كبيرة من شعوبها المنحازة لقضايا حقوق الإنسان. ولهذا اضطرت دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي لإجراء انتخابات مبكرة لمعرفة أين تقف "الأغلبية الصامتة".

وقد يؤدي تغير الموقف الشعبي إلى تغيير قادة كانوا حظوا من قبل بتأييد شعبي كبير. وقد أنتج هذا ليس فقط تهميش زعماء تاريخيين، بل وتهميش أحزاب رئيسة كانت تتبادل مواقع الحكم بين حزبين رئيسين عادة، أحدهما يميني محافظ دينيا أو قوميا، والآخر يساري تاريخيا ولكنه بات يميل إلى الليبرالية مع غلبة حقوق وحريات مستجدة تتجاوز ما كان يطرحه اليساريون.

وسقوط مرحلة ثنائية الحزبين يجسد مثالَه فوزُ ماكرون برئاسة فرنسا، الذي يتضمن حقيقة "قيادة" أوروبا مع ألمانيا، إن لم نقل مع أنجيلا ميركل التي لشخصها فضل كبير على تبوؤ ألمانيا لهذه المكانة أوروبياً.

والمكانة لم تأت رغم ما جرى لألمانيا في حربين عالميتين وما تلاهما بعد خسارتها للثانية الأعنف، بل جاءت بتوظيف خبرة مريرة مستمدة من معايشة وقائع تاريخية كهذه، مصدِّقة المقولة القديمة للثقافات كلها: "بالمعاناة يتعلم الإنسان". وفيما تواجه ميركل مد اليمين المتطرف؛ تقف -بقوة أكبر- ضد أية محاولة لإشعال حرب ثالثة في محيط أوروبا، ولهذا كان رفضها للضربة الصاروخية الأميركية الأخيرة في سوريا.

لكن السؤال هو عن سبب مشاركة بريطانيا وفرنسا فيها، وما إن كان هذا يمهد لحرب ضد إيران كما أمِلت إسرائيل وتحمّس بعض العرب، بظن أنهم سيُنصبّون قادة للعالم الإسلامي!

الضربة -التي جاءت كتحقيق لتوّعد ترمب- تختلف الأهداف منها بين أميركا وشركائها فيها. فبداية؛ وجود أميركا العسكري في المنطقة جاء منذ الحرب العالمية الثانيةنيابة عن حلفائها "الأطلسيين"، وخاصة بريطانيا التي اضطرت للانسحاب من مستعمراتها، و"سلّمت" حرفيا بعضها إلى الولايات المتحدة التي كانت أول من استقل عن إمبراطوريتها.

مرارة تقلّص ما كان إمبراطورية "لا تغيب عنها الشمس" هي ما جعلت بريطانيا لا تقبل عضوية أوروبا الموحدة التي تقودها فرنسا مع ألمانيا، وتؤثر على تحالفها بل وتبعيتها مرارا لما كانت مستعمرتها السابقة في أميركا، فيما تطمع في امتيازات من أوروبا وهي خارج اتحادها، وهو ما يجري رفضه أوروبياً

ومن أهم ما سلمته بريطانيا إلى أميركا فلسطين التي حولتها إلى "إسرائيل"، وسلمت معها جوارها لضمان بقاء الكيان الإسرائيلي، وصولا إلى باكستان التي اقتطعتها بريطانيا من الهند، في رد فعل انتقامي لفقدانها "جوهرة التاج البريطاني"، بعد أن أججت حروبا دينية وطائفية فيها.

ومرارة تقلّص ما كان إمبراطورية "لا تغيب عنها الشمس" هي ما جعلت بريطانيا لا تقبل عضوية أوروبا الموحدة التي تقودها فرنسا مع ألمانيا، وتؤثر على تحالفها بل وتبعيتها مرارا لما كانت مستعمرتها السابقة في أميركا، فيما تطمع في امتيازات من أوروبا وهي خارج اتحادها، وهو ما يجري رفضه أوروبياً.

وهذا يعني غياب بل وتغييب بريطانيا عن أهم أجندات أوروبا الموحدة، التي بات في مقدمتها "الحفاظ على استقرار المنطقة" في محيط أوروبا. ولهذا جاءت مشاركة فرنسا للولايات المتحدة وبريطانيا في ضربة تفي بوعد الأولى وتُرضي غرور ترمب، ولكنها لا تضر كثيرا لا بروسيا ولا بإيران، ولا حتى بسوريا التي تطمح فرنسا لاستعادة مكانتها "الفرانكفونية" فيها، حتما ليس فقط ثقافيا كما في لبنان.

ولهذا نرجح أن تكون فرنسا ضمنت ألا تكون هنالك خسائر كبيرة للضربة وخاصة الخسائر البشرية، وهو ما يرجح وجود توافق على الضربة تم مع أو عبر طرف آخر مؤثّر، أياًّ كان هذا الطرف.

ويؤكد اعتقادَنا هذا أن ماكرون ذهب إلى واشنطن متغطيا بتلك الضربة، وأنه اجتمع بترمب "منفرديْن"، وأنجز معه عدة أمور في مقدمتها رفض حاسم لفكرة قيام حرب في الشرق الأوسط، مما يؤكد أن أميركا إن صعّدت لحرب فستكون وحدها دون حليف أوروبي، لا بل ستواجه معارضة أوروبية لها. وصاغ رفض الحرب بقوله: "يجب ألا تقودنا سياسة إيران إلى حرب في الشرق الأوسط".

والأمر الثاني هو كيفية منع الانزلاق إلى تلك الحرب بإبطال تهديد ترمب بالخروج من الاتفاق النووي مع إيران، وذلك بقوله إنه لا يجوز الخروج دون إعداد اتفاق بديل كي لا تعود إيران إلى برنامجها النووي.

وقول ماكرون للكونغرس الأميركي إنه سيشرع في العمل مع أميركا "على صفقة أشمل من أربع ركائز هي فحوى الاتفاق الحالي وفترة ما بعد 2025″، وقوله هذا يبين أن ما يعرضه هو بقاء الاتفاق ساريا إلى فترة المراجعة الأصلية التي تحل في 2025.

والأغلب منطقيا ألا يكون ترمب في الرئاسة أو حتى في الكونغرس حينها. وحتماً فإن ما أسماه "قرار رئيسكم بشأن الانسحاب من الاتفاقية الذي سيتخذه خلال أيام"، سيكون مطابقا لموقف أعضاء الكونغرس الذي عكسه تصفيقهم المكرر والمطول لماكرون، وحتى الابتسام من قبل الأعضاء الجمهوريين حين هتف أعضاء ديمقراطيون: "تحيا فرنسا"!

والأمر الثالث -الذي يلي ذلك في الأهمية أو الخطورة- هو أنه أقنع ترمب "بإبقاء قوات أميركية في سوريا فترةً طويلةً". وبقاء تلك القوات هامٌّ للحلف الأطلسي، ولكنه هامٌّ أكثر لفرنسا الراغبة في العودة للعب دورٍ رئيسٍ تحت مظلة الحلف، في بلد كان من ضمن أبرز الأعضاء العرب بمجموعة الدول "الفرانكفونية"، فيما بات لدى ذلك البلد تحالف عسكري مع روسيا وإيران.

ما قدمه ماكرون لترمب -مقابل ما أخذه منه- إلى جانب مشاركته في الضربة غير الموجعة في سوريا؛ هو تأييده المطلق لكل ما يقوله ترمب عن خطر كوريا الشمالية وما يريد اتخاذه من خطوات لدرئه؛ وذلك بعد أن انطلق حوار بين الطرفين الأميركي والكوري الشمالي لحل الأمر سلما!!

والأمر الرابع هو التأكيد على ضرورة -بل وحتمية- عودة أميركا عن قرارها القاضي بالخروج من اتفاقية باريس للمناخ. أما الأمر الخامس -والذي قد لا يكون الأخير- فهو إبطال الحرب التجارية التي لوّح بها ترمب، وهو ما يعيد وضع فرنسا وأوروبا كشريك تجاري لأميركا ولا تقتصر علاقة الأخيرة المتطورة على بريطانيا.

وما قدمه ماكرون لترمب -مقابل كل هذا- إلى جانب مشاركته في الضربة غير الموجعة في سوريا؛ هو تأييده المطلق لكل ما يقوله ترمب عن خطر كوريا الشمالية وما يريد اتخاذه من خطوات لدرئه؛ وذلك بعد أن انطلق حوار بين الطرفين الأميركي والكوري الشمالي لحل الأمر سلما!!

ولم يفوّت ماكرون تسجيل بادرة ثقافية هامة في خضم التنافس بين الأنجلوساكسونية والفرانكفونية، وذلك حين ألقى خطابه أمام الكونغرس -الذي استغرق ساعة كاملة- بالإنجليزية، وهو ما أسعد مضيفيه.

وهذا يذكّر بما فعله رئيس وزراء بريطانيا (الشاب أيضا حينها) توني بلير حين زار فرنسا بصفة رسمية، إذ خاطب الفرنسيين بلغتهم التي تعلمها أثناء عمله نادلا في مطاعم باريس خلال عطلاته الدراسية؛ وهو ما كان له أثر إيجابي على الفرنسيين.

ومثله كان أثر زيارة الرئيس الأميركي جون كينيدي لفرنسا بصحبة زوجته الفرنسية الأصل، والمتربية على "الأصول" (أي الأداء الاجتماعي) الفرنسية، والمتميزة بأناقتها؛ والفرنسيون يفخرون بكون باريس من أشهر العواصم العالمية في تصميم الأزياء وتحديد معالم الموضة.

السياسة -كما عرّفها مفكر وناقد أدبي كبير- هي: "كل شيء"؛ ولهذا يمكن توظيف "كل شيء" فيها، وهو ما ثبت أن ماكرون يتقنه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.