قصة حقيقتين.. بين السياسة والتكنولوجيا

PARIS, FRANCE - NOVEMBER 30: Head of States attend the Family photo session of the Cop 21 on November 30, 2015 in Paris, France. World leaders are meeting in Paris for the start of COP21, the two-week UN climate change summit, attempting to agree on an international deal to curb greenhouse gas emissions. (Photo by Pascal Le Segretain/Getty Images)

تبدأ رواية تشارلز ديكنز "قصة مدينتين" بعبارة لا تزال محتفظة بعموميتها حتى يومنا هذا؛ إذ يقول ديكنز: "كانت أفضل الأوقات، كانت أسوأ الأوقات، كان عصر الحكمة، كان عصر الحماقة…، كان ربيع الأمل، كان شتاء اليأس".

تندد رواية ديكنز الكلاسيكية -والتي تدور أحداثها في لندن وباريس أثناء الثورة الفرنسية- بالظلم الاجتماعي الذي يمارسه النظام الأناني الاستبدادي وتجاوزات الثوار الفرنسيين.

وبعد مرور قرنين تقريبا على أحداث الرواية؛ يُقال إن رئيس الوزراء الصيني السابق شو إن لاي أجاب عندما سُئِل عن رأيه في الثورة الفرنسية: "من السابق للأوان كثيرا أن نجزم الآن". والواقع أن هذه العبارة الساخرة -رغم أنها ربما كانت نتيجة لسوء فهم- تجسد بشكل تام تناقض ديكنز وجدانياً بشأن الفترة التي كتب عنها.

كانت أفكار التنوير التي ألهمت الفرنسيين واستنهضتهم ضد لويس السادس عشر (1754-1793) هي ذاتها التي دفعت الثورة الأميركية. وكان توقيت كل من الثورتين متزامنا مع تطور تاريخي هائل آخر: انطلاق الثورة الصناعية. وهكذا ساعد التزاوج بين الأنظمة السياسية الأكثر ليبرالية والتطورات العلمية التحويلية في تدشين الفترة الأكثر ازدهارا في تاريخ البشرية.

كانت أفكار التنوير التي ألهمت الفرنسيين واستنهضتهم ضد لويس السادس عشر (1754-1793) هي ذاتها التي دفعت الثورة الأميركية. وكان توقيت كل من الثورتين متزامنا مع تطور تاريخي هائل آخر: انطلاق الثورة الصناعية. وهكذا ساعد التزاوج بين الأنظمة السياسية الأكثر ليبرالية والتطورات العلمية التحويلية في تدشين الفترة الأكثر ازدهارا في تاريخ البشرية

ذات يوم؛ استنتج الاقتصادي البريطاني الراحل أنجوس ماديسون أنه بينما لم يتضاعف حتى نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي العالمي في الفترة ما بين العام الأول وعام 1820 بعد الميلاد؛ فإنه ارتفع بنحو عشرة أضعاف خلال 1820-2008.

وكان هذا النمو المذهل مصحوبا بتحسن غير عادي بنفس القدر في نطاق واسع من المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية. فمثلا، ارتفع متوسط العمر المتوقع عالميا من 31 سنة إلى ما يقارب 73 عاما في غضون قرنين فقط.

وقبل قرنين؛ لم تكن المجتمعات العلمية والطبية قد تقبلت بعدُ نظرية الجراثيم المسببة للأمراض، وكان من المعتقد بشكل شائع أن رائحة لحم البقر تسبب السمنة. واليوم، تبدو مثل هذه المعتقدات مضحكة نظرا للتقدم السريع في فهمنا العلمي. فقد أصبحنا قادرين على قراءة الجينوم البشري؛ بل إننا نتعلم حاليا كيف نعدل ونكتب هذا الجينوم.

يرى أستاذ علم النفس ستيفن بينكر (جامعة هارفارد) أن مثل هذه الإنجازات كانت بمثابة "الدليل على نجاح حركة التنوير". وعلاوة على ذلك؛ يزعم أنجوس ماديسون أن ما تحقق من تقدم أخلاقي في القرون القليلة الماضية كان أعظم من كل ما قد تعكسه قياسات الاقتصاد الكلي.

فمثلا؛ يشير ماديسون إلى توسع سبل حماية الحقوق الفردية والجماعية (جغرافياً وموضوعيا) فضلا عن انخفاض مستويات العنف في الإجمال.

ونحن نميل إلى التهوين من حجم إنجازات عصر التنوير الهائل، لأننا اعتدنا على تذكّر وتطبيع الكوارث الطبيعية وإغفال التحسينات اليومية. ولكن بينما يضر هذا التحيز بعملية اتخاذ القرار؛ فإن هذه أيضا حال الإفراط في الرضا عن الذات. وهناك وفرة من الأسباب -وكثير منها كانت تأثيرات ثانوية للتنوير- التي تحمل الناس على الشعور بعدم الارتياح بشأن المستقبل.

في كتابه المنشور عام 2013 بعنوان "الهروب العظيم"؛ يُظهِر الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل أنجوس ديتون كيف حُرم من ركب التقدم -الذي تحقق في مجالات مثل الحد من الحرمان الكلي، والمجاعة والوفاة المبكرة، على مدار السنوات المائتين والخمسين الماضية- عدد كبير من المجموعات الاجتماعية.

ورغم تخفيف حدة التفاوت بين الناس على المستوى العالمي مؤخرا بسبب الصعود الاقتصادي لدول مثل الصين؛ فإن دراسات عدة وجدت أن التفاوت داخل البلدان كان في ازدياد. وقد تبين أن قطاعات عريضة من السكان -في دول مثل الولايات المتحدة– تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى العلاجات الطبية المناسبة، وحتى الديمقراطية هناك بدأت تتآكل كما يبدو.

يربط الرأي السائد اليوم بين ظهور الحركات الشعبوية في مختلف أنحاء العالَم -بما في ذلك انتخاب الرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة- والناس الذين فاتتهم فوائد العولمة. بيد أن العديد من سياسات ترمب -وخاصة خفض الضرائب المفروضة على الأثرياء- كان المقصود منها إدامة امتيازات النخبة الاقتصادية.

لم يفعل ترمب إلا أقل القليل لمعالجة مخاوف أولئك الذين يشعرون بأنهم تُرِكوا خلف الركب، لكنه يستخدم حيل اجتذاب الزبائن ثم تغيير البضاعة المعلن عنها كوسيلة لإخفاء الحقائق. ولذلك فإنه يشير إلى الصين باعتبارها المصدر الأوحد للمشاكل الاقتصادية التي يواجهها الأميركيون.

يربط الرأي السائد اليوم بين ظهور الحركات الشعبوية في مختلف أنحاء العالَم -بما في ذلك انتخاب الرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة- والناس الذين فاتتهم فوائد العولمة. بيد أن العديد من سياسات ترمب -وخاصة خفض الضرائب المفروضة على الأثرياء- كان المقصود منها إدامة امتيازات النخبة الاقتصادية

كانت نتيجة نهج "أميركا أولاً" -الذي تبناه ترمب- وبث الذعر في أنفس الأميركيين من كل ما هو أجنبي؛ هي تقويض التعاون العالمي. والآن عادت النزعة القومية -وهي واحدة من الموروثات الضارة المحتملة عن الثورات الاجتماعية في أواخر القرن الثامن عشر- في أعقاب المخاوف النابعة من كراهية المهاجرين والأجانب.

وعلى نحو مماثل؛ لم يكن إرث التنوير العلمي والتكنولوجي إيجابيا بشكل كامل. فبفضل نظريات ألبرت آينشتاين واكتشاف الانشطار النووي عام 1938؛ أصبحت الطاقة النووية ممكنة.

ولكن هذا أدى أيضا إلى قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية، فضلا عن كوارث نووية كحادثتيْ تشرنوبل (1986) وفوكوشيما (2011). وكما كشفت أزمة عام 2008 (الأزمة المالية)؛ فإن الهندسة المالية تنطوي على العديد من المخاطر والمجازفات.

وتأتي كل هذه المخاطر مصحوبة بما قد يكون أكبر تهديد يواجه البشرية على الإطلاق: تغير المناخ. وتكمن خصوصية هذا التهديد في حقيقة مفادها أنه لم يتجسد في هيئة صدمة منفردة مفاجئة، فهو يشكل ظاهرة تراكمية ربما لا يزال بوسعنا تخفيف آثارها.

وكما تسبب التقدم التكنولوجي في دفعنا إلى هذا المأزق فربما ينجح في إنقاذنا منه؛ فبفضل الإبداع التكنولوجي -جنبا إلى جنب مع الجهود الدولية لتبني بروتوكول مونتريال عام 1987- تمكن العالَم من وقف تآكل طبقة الأوزون.

وما يدعو إلى التفاؤل هو أن العقلانية العلمية قادرة على خلق الأدوات اللازمة لعلاج تجاوزاتها، ولكن من المؤسف أن حالة الزعامة السياسية اليوم ربما تفضي إلى أن تظل هذه الأدوات غير مستخدمة.

فالعالَم في حاجة ماسة إلى قادة راغبين في تعظيم فوائد العلم والتكنولوجيا عبر نهج الإدارة الجماعية والتعاون الدولي. وفي ظل غياب مثل هذه القيادة؛ فإن ما قد يكون أفضل الأوقات وفقا للقياسات الكمية ربما يتحول إلى أسوأ الأوقات على الإطلاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.