هل ستنتهز أوروبا فرصتها المضاعفة للقيادة الدولية؟

European Union leaders take part in an EU summit in Brussels, Belgium, October 20, 2017. REUTERS/Virginia Mayo/Pool

كمال درويش وكارولين كونروي

لقد حان أوان اتخاذ القرار في أوروبا؛ فإما أن تقف مكتوفة الأيدي وهي تراقب ازدهار النزعة القومية والسلطوية بدءاً من الولايات المتحدة (في ظل نهج "أميركا أولاً" الذي يتبناه دونالد ترمب)، وحتى الصين التي تنتقل من نظام الحزب الواحد إلى نظام الزعيم الأوحد.

أو أن تتولى أوروبا -بدلا من ذلك- قيادة عملية إعادة تنشيط القيم الديمقراطية والتعاون الدولي، في حين يتطلب التغير السريع -الذي تدفعه التكنولوجيا- إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى.

ينظر مراقبون إلى صعود الشعبوية -التي تنتمي إلى اليمين غالبا- في الاتحاد الأوروبيكإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي بات أبعد ما يكون عن الاستعداد للاضطلاع بدور قيادي، بل إنه ربما بدأ يتفكك. لكن موقف هذا الاتحاد أكثر تعقيدا مما يتصوره المتشائمون، لكنه ليس قاتما إلى هذا الحد.

ينظر مراقبون إلى صعود الشعبوية -التي تنتمي إلى اليمين غالبا- في الاتحاد الأوروبي كإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي بات أبعد ما يكون عن الاستعداد للاضطلاع بدور قيادي، بل إنه ربما بدأ يتفكك. لكن موقف هذا الاتحاد أكثر تعقيدا مما يتصوره المتشائمون، لكنه ليس قاتما إلى هذا الحد. ففي الخريف الماضي؛ أظهر استطلاع أن 75% من المستجيبين ينظرون إليه إيجابياً

في الخريف الماضي؛ أظهر استطلاع "يوروبارومتر 467 الخاص" أن 75% من المستجيبين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي بشكل إيجابي. ورغم أن غالبية هؤلاء يعتقدون أن حياة أطفالهم ستكون أكثر صعوبة من حياتهم هم؛ فإن ثلثيهم يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي يقدم الأمل لشباب أوروبا، وذلك بزيادة ست نقاط مئوية عن عام 2016.

ويبدو أن الشباب يتفقون معهم؛ إذ كانت حصة المستجيبين الأصغر سنا (من سن 15 إلى 39 سنة) الذين ينظرون إلى الاتحاد إيجابيا مرتفعةً بشكل خاص. ورغم المخاوف بشأن "العجز الديمقراطي" في الاتحاد الأوروبي؛ فإن أفراد هذه المجموعة -فيما يبدو- يقدّرون إمكانية المشاركة السياسية.

في مايو/أيار الماضي؛ تعزز الإيمان بمستقبل الاتحاد الأوروبي إثر انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وإذا تمكن ماكرون من الحصول على لتعاون ألمانيا معه في تنفيذ برنامجه للإصلاح الأوروبي؛ فستكتسب آفاقُ الاتحاد الأوروبي المزيدَ من القوة.

ورغم أن الانتخابات الفدرالية الألمانية في سبتمبر/أيلول الماضي لم تسفر عن مثل هذه النتيجة المؤيدة للاتحاد الأوروبي بقوة (الآن أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا هو أكبرَ الأحزاب المعارضة بعد نجاحه في نيله زهاء 13% من الأصوات)؛ فإن الغَلَبة كانت للأحزاب المعتدلة الرئيسية التي حصلت على أكثر من 60% من الأصوات.

والحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا مؤيدة لأوروبا مثل التي سبقتها على الأقل، وقد تكون أوروبا الأقوى هي الإرث اللائق بالمستشارة أنجيلا ميركل.

أما الانتخابات الإيطالية الأخيرة -التي فاز فيها حزب الرابطة المناهض للمهاجرين (وقاعدته الانتخابية في الشمال)، وحركة النجوم الخمس الشعبوية ذات الميول اليسارية (التي يتركز دعمها في الجنوب)؛ بأكثر من 50% من الأصوات- فهي تشكل التطور الأكثر إثارة للقلق والانزعاج.

ولكن نظرا للعداء بين الحزبين؛ فمن المرجح أن يضم الائتلاف الحاكم -والقادر على الاستمرار- الحزبَ الديمقراطي المؤيد لأوروبا.

وفي نهاية المطاف، ومهما أقامت إيطاليا -التي أصبح اقتصادها مثقلا بالديون- من الحواجز أمام المزيد من تكامل الاتحاد الأوروبي؛ فمن غير المحتمل أن تكون هذه الحواجز مستعصية على العبور، إذا مارست فرنسا وألمانيا القيادة الحاسمة.

وبطبيعة الحال؛ لن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سهلا على أوروبا. ولكن -في مجمل الأمر- لم تعد أوروبا تبدو وكأنها قارة في أزمة. فحتى في اليونان -التي استعادت نمو الناتج المحلي الإجمالي– فإن غالبية المستطلعين الآن تدعم الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا السياق؛ ربما يواجه الاتحاد الأوروبي الآن فرصتين مترابطتين: فعلى المستوى الداخلي؛ يمكنه أن يتبنى الإصلاحات الكفيلة بتعزيز الكفاءة المؤسسية ودفع التكامل إلى الأمام. وعلى المستوى الخارجي؛ يستطيع أن يناصر بقوة قضايا التعاون الدولي وحقوق الإنسان والمجتمع المفتوح.

ويتعين على أوروبا أن تُحرز تقدما في اغتنام الفرصة الأولى إذا كان لها أن تستفيد من الثانية، وهذا يعني تعزيز منطقة اليورو. وعلى هذه الجبهة؛ عَرَض ماكرون فعلا مقترحات طموحة، وهي: ميزانية منفصلة لمنطقة اليورو، ووزير مالية لمنطقة اليورو مسؤول عن هذه الميزانية، وبرلمان لمنطقة اليورو (يتألف من أعضاء البرلمان الأوروبيوالبرلمانات الوطنية) لمحاسبة وزير المالية.

وسيكون الاتحاد الأوروبي الأكثر تكاملا وأمانا في وضع يسمح له بتأكيد ذاته على نحو أكثر فعالية على الساحة الدولية. وبفضل السوق الأوروبية الموحدة يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يعمل كقطب ثالث في النظام العالمي الجديد. ومن الممكن أن يوفر نموذج الاتحاد الأوروبي  البديلَ للاتجاهات الانعزالية والقومية التي تهدد التعاون العالمي

قبل تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا؛ جرى إنشاء مجموعة عمل فرنسية/ألمانية للنظر في اقتراحات ماكرون. والآن بعد تنصيب إدارة ميركل الجديدة؛ سنتبين إلى أي مدى قد تذهب ألمانيا في دعم تماسك منطقة اليورو.

في الأمد القريب؛ يبدو من غير المرجح أن تدعم الحكومة الجديدة مقترحات ماكرون في هيئتها الحالية. ولكنها ربما تدعم استكمال الاتحاد المصرفي، وبعض الآليات الداعمة لقدر أكبر من تنسيق السياسات الاقتصادية في منطقة اليورو.

وفي الأمد البعيد؛ لا بد من أن تكون بعض إصلاحات ماكرون في حكم الممكن، وخاصة إذا سُمِح لدول منطقة اليورو بالمضي قُدما دون شرط الموافقة بالإجماع من جانب كل الدول الأعضاء السبع والعشرين.

والواقع أن مثل هذه التغييرات -إلى جانب المزيد من التعاون العسكري والاستخباراتي- من شأنها أن تضفي على المشروع الأوروبي دينامية جديدة، وأن تحفز المزيد من الحماس، ناهيك عن حس أعظم بالأمان بين مواطني أوروبا.

وسيكون الاتحاد الأوروبي الأكثر تكاملا وأمانا في وضع يسمح له بتأكيد ذاته على نحو أكثر فعالية على الساحة الدولية. وبفضل السوق الأوروبية الموحدة التي لا تزال تتباهى بناتج محلي إجمالي أكبر من نظيره في الصين أو الولايات المتحدة؛ يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يعمل كقطب ثالث في النظام العالمي الجديد.

ومن الممكن أن يوفر نموذج الاتحاد الأوروبي -القائم على الانفتاح الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، والمؤسسات القوية- البديلَ للاتجاهات الانعزالية والقومية التي تهدد التعاون العالمي.

ولا شك أن التعاون الدولي -في مجالات مثل التجارة، وتغير المناخ، وتنظيم القطاع المالي، وسياسة المنافسة، والأمن السيبراني- يظل يشكل أهمية بالغة. وستتعاظم أهميته مع تسبب التقدم في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية في إثارة قضايا أخلاقية شائكة، لا تمكن معالجتها بفعالية إلا على المستوى الدولي.

إن النظام العالمي الليبرالي -الذي خرج من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية للمساعدة في منع كوارث مماثلة في المستقبل- يواجه الآن أعظم اختبار له على الإطلاق. ويتعين علينا أن نؤكد أهمية التعاون الدولي، والانفتاح، والديمقراطية في هذا العصر الرقمي الجديد، في حين نعكف على تكييف سياساتنا وقواعدنا مع الحقائق الجديدة.

وينبغي لأوروبا -بخبرتها الفريدة في خلق نموذج ديمقراطي للحكم فوق الوطني- أن تتقدم الطريق. فالعالم -وخاصة شبابه- يعتمد على المبادرة الأوروبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.