قضية الباقورة ومخفيات اتفاقية وادي عربة!

في ذكرى وادي عربة .. سلام دافئ بين عمان وتل أبيب

الموضوع السياسي الراهن -الذي بدأ ينافس الموضوع المعيشي في الأردن– هو أراضي منطقة "الباقورة"، التي أثار ملفها عضو في مجلس النواب الأردني في صيغة أسئلة موجهة إلى الحكومة عن حقيقة "تملّك" اليهود الإسرائيليين لآلاف الدونمات في الباقورة.

ولا يُستبعد أن يُصبح هذا الموضوع جزءا من الاحتجاج الشعبي على الأوضاع المعيشية، لكون الزعم الرسمي هو أن دور المملكة الأردنية في الحفاظ على القدس هو ما تسبب في الأزمة الاقتصادية؛ فالبيع وحتى التفريط المجاني في أراض أردنية لصالح العدو الصهيوني لا يتسق مع زعم الحفاظ على القدس!

"الباقورة" ومعها "الغُمُر" تعتبران أراضي "أردنية"، وكانت هذه الأراضي جزءا من إمارة شرق الأردن منذ أنشأت بريطانيا تلك الإمارة، وأقامتها في الأرض التي لم تُرد لها أن تكون ضمن ما تعهدت به للصهيونيةالعالمية من إقامة وطن قومي لليهود، بل أرادتها مستودعا لمخرجات ذلك المخطط.

"الباقورة" ومعها "الغُمُر" تعتبران أراضي "أردنية"، وكانت هذه الأراضي جزءا من إمارة شرق الأردن منذ أنشأت بريطانيا تلك الإمارة، وأقامتها في الأرض التي لم تُرد لها أن تكون ضمن ما تعهدت به للصهيونية العالمية من إقامة وطن قومي لليهود، بل أرادتها مستودعا لمخرجات ذلك المخطط

ولكنّ المنطقتين باتتا محتلتين لصالح مستوطنات صهيونية؛ الباقورة بالبيع منذ ما قبل إقامة دولة لليهود، والغُمُر نتيجة تمدد المستوطنات والسطو على الأرض والمياه الجوفية في حوض الديسي.

والأراضي الأردنية (ومعها المياه والثروات الجوفية) الواقعة في قبضة الاحتلال الصهيوني اقترب استحقاق فتح ملفها، لكون الباقورة والغُمُر تم وهبهما لإسرائيل ضمن ملحقين خاصين بهما في اتفاقية وادي عربة، بتعريفات وشروط عجيبة.

وقد أشاعت الحكومة أن الأمر "تأجير"، رغم عدم ذكر التأجير في نص الاتفاقية وعدم وجود أجرة، بل هو ترتيب كلّف الأردن خسائر اقتصادية وأمنية، في عملية خداع للشارع البسيط لترويج زعم أن اتفاقية وادي عربة أنجزت "تحرير كامل الأراضي الأردنية المحتلة دون التنازل عن شبر واحد"!

الملحقان متشابهان -إلى حد التطابق- باستثناء أنه في حال الباقورة يشار إلى المستوطنين فيها بأنهم "المتصرفون في الأرض"، بناء على مقدمة في ملحقها تقول إن منطقة الباقورة "فيها حقوق ملكية أرض خاصة ومصالح مملوكة إسرائيلية"، أي أن الجانب الأردني هنا أقر لإسرائيل والإسرائيليين بـ"ملكية" الأرض سياسيا!

أما في حالة الغُمُر؛ فقد استولى مستوطنون على أراض زراعية ومياه جوفية أردنية منذ عقود، بخرقهم حدود هدنة عام 1967 وعلى امتداد 128 كم من الحدود طولا، وبمساحة كلية تصل إلى 387.4 كم2. وذلك بزعم التصدي للفدائيين الذين يستهدفون المستوطنين في وادي عربة، أي بذات زعم "أمن إسرائيل" الذي تُرتكب باسمه كافة المحرمات.

ولكن الحقيقة التي يُقرّ بها باحثون إسرائيليون هي إحضار مستوطنين جدد كثر إلى وادي عربة بعد حرب يونيو/حزيران 1967، وإعطاؤهم "تصاريح استثنائية" تسمح لهم بزراعة أرض داخل الحدود الأردنية، بل وحفر آبار فيها لري مزارع على جانبيْ ما كان حدود هدنة عام 67.

وهذا الوضع هو ما قبِلهُ "المفاوض" الأردني باعتباره يؤسس حقا للمستوطنين اليهود -بل ولإسرائيل- في مئات ألوف الدونمات التي احتلتها (ولم تشترها أو تستأجرها)، بدون أية مقاومة ولا حتى تسجيل اعتراض دولي. وقبوله جاء في الملحق الخاص بالغُمُر في اتفاقية وادي عربة.

وهو ما أعطاه شرعية تصل إلى زعم منح "حقوق استعمال الأرض" للمستوطنين المحتلين لهذه المنطقة، بنص (المادة 2) من الملحق التي سمّت المستوطنين "مستعملي الأرض"! وبقية ما يتعهد به الأردن -نتيجة اعترافه هذا- سنعود إليه لاحقا.

ولكننا نبين هنا أن حفر بئر دون ترخيص جرمٌ يعاقب عليه القانون الأردني، ولو ارتكبه أردني في أرض أردنية مملوكة له. وفداحة الإخلال بهذا إرضاء للإسرائيليين لا يفيد فيها التوقف عند ما جاء في (المادة 6) من الاتفاقية والمعنونة بـ"المياه"، والتي أتت في حدود ثلاثمئة كلمة لا تفيد سوى "ذرّ المياه في العيون"، لكونها حديثا إنشائيا عاما وليس إجرائيا.

حفر بئر دون ترخيص جرمٌ يعاقب عليه القانون الأردني، ولو ارتكبه أردني في أرض أردنية مملوكة له. وفداحة الإخلال بهذا إرضاء للإسرائيليين لا يفيد فيها التوقف عند ما جاء في (المادة 6) من الاتفاقية والمعنونة بـ"المياه"، والتي أتت في حدود ثلاثمئة كلمة لا تفيد سوى "ذرّ المياه في العيون"، لكونها حديثا إنشائيا عاما وليس إجرائيا

فحجم التفريط يأتي في ملحق آخر لاتفاقية وادي عربة عنوانه "الأمور المتعلقة بالمياه"، والذي طوله خمسة أضعاف هذه المادة؛ وهو مليء بأرقام واشتراطات ننقل منها نزرا يسيرا لضيق مساحة المقال.

فمما ورد في (المادة 4) من الملحق المعنون بـ"المياه الواقعة في منطقة وادي عربة" (والمادة 4 في الملحق بحجم كامل مادة "المياه" رقم 6 في الاتفاقية)؛ تنص على أن الآبار في الجانب الأردني والتي حفرتها واستعملتها إسرائيل.

وكذلك الأنظمة المرفقة بها ستسمر إسرائيل في استعمالها "بالكميات والنوعية الموضحة في ذيل هذا المرفق الذي سيتم إعداده مشتركا" (الذيل غائب، ولم يلحق بالمرفق في الكتاب الذي نشرته الحكومة للاتفاقية وملاحقها، رغم أنه كتاب تضمن حتى خطابات مؤيدة للاتفاقية عند إقرارها).

وأي بئر قد تفشل سيتم استبدالها وتُعامل "كما لو" أن حفرها جرى بموجب رخصة من الجهات الأردنية وقت الحفر، وسيتم ربط البئر الجديدة بأنظمة المياه والكهرباء الإسرائيلية.

ويجوز لإسرائيل أن تزيد طاقة الضخ من الآبار الأردنية وأنظمتها بما سقفه عشرة ملايين متر مكعب سنويا، زيادةً على الإنتاج المشار إليه في (الفقرة 1)، التي لا نعلم ما هي لأن ذيل المرفق الموعود الذي يتضمنها لم ينشر.

ويُشترط أن يتم تنفيذ هذه الزيادة خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذ المعاهدة، وتشغيل وصيانة هذه الآبار وأنظمتها سيكون مسؤولية الأردن، وسيتم التعاقد بشأنها على نفقة إسرائيل ومع سلطات أو شركات تختارها إسرائيل!!

وبعد بياننا هذا لبعض المخفي، والذي هو أعظم في شأن الغُمُر منه في شأن الباقورة؛ نعود باختصار أيضا للأحكام الواردة في ملحقيْ الباقورة والغُمُر المتطابقين حرفيا، باستثناء ما أشرنا إليه من استناد إعطاء حقوق للمستوطنين في الغُمُر إلى وصفهم بـ"مستخدمي الأرض"، بينما إعطاء ذات الحقوق لمستوطني الباقورة جرى بوصفهم بـ"المتصرفين بالأرض"، لكونهم لهم فيها "حقوق ملكية أراض خاصة ومصالح مملوكة إسرائيلية".

الملحقان يجري تقديمهما بكون إسرائيل تعترف بـ"السيادة الأردنية على المنطقة"، ولكن ما يلي ذلك من حقوق للمستوطنين والتزامات على الأردن ينفي هذه السيادة؛ فالأردن يتعهد بأن يمنح -دون استيفاء رسوم- حرية غير مقيدة للمستوطنين الإسرائيليين في المنطقتين، ولضيوفهم أو مستخدميهم -دون تحديد أو ذكر لجنسياتهم- بالدخول والخروج واستعمال المنطقتين.

كما يتعهد الأردن بألا يطبق تشريعاته الجمركية أو المتعلقة بالهجرة (الفيزا) على الذين يعبرون إلى المنطقتين، لغرض الزراعة أو السياحة أو أي غرض آخر يُتفق عليه. ونحن لم نسمع -إلى يومنا هذا- عن بحث جرى في غرض للدخول والخروج، وهو ما يجعل المنطقتين حدودا مفتوحة لجهة واحدة.

لا يحق للأردن تطبيق قوانينه الجنائية على الأنشطة بالمنطقة المحصورة بأشخاص من التبعية الإسرائيلية (وكلهم كذلك)، فيما القوانين الإسرائيلية -التي تنطبق على إسرائيليين خارج الحدود الإسرائيلية- يمكن أن تطبق على الإسرائيليين وأنشطتهم داخل المنطقتين، ولإسرائيل اتخاذ إجراءات في المنطقتين لتنفيذ تلك القوانين

ويلتزم الأردن بـ"اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية" لحماية هؤلاء الداخلين والخارجين والمقيمين، ومنع "إيذاءهم" أو حتى "مضايقتهم"، ويلتزم أيضا بـ"دخول رجال الشرطة الإسرائيلية بلباسهم، وبالحد الأدنى من الشكليات لغرض التحقيق في الجرائم أو معالجة الحوادث الأخرى، المتعلقة حصريا بالإسرائيليين أو ضيوفهم أو مستخدميهم".

ولا يحق للأردن تطبيق قوانينه الجنائية على الأنشطة بالمنطقة المحصورة بأشخاص من التبعية الإسرائيلية (وكلهم كذلك)، فيما القوانين الإسرائيلية -التي تنطبق على إسرائيليين خارج الحدود الإسرائيلية- يمكن أن تطبق على الإسرائيليين وأنشطتهم داخل المنطقتين، ولإسرائيل اتخاذ إجراءات في المنطقتين لتنفيذ تلك القوانين.

وبالتجربة (لكون النص مغيباً هنا)؛ ثبت أنه يستحيل على الأردني دخول أي من هاتين الأرضين الأردنيتين "المحررتين"، حسب زعم كل الحكومات الأردنية منذ وُقعت اتفاقية وادي عربة.

والجديد هو أن رئيس الحكومة الموقِّعة تطوع للرد على أسئلة نائب في البرلمان عن ملكية إسرائيليين لأراضي الباقورة، بقوله -لأول مرة- إن فيها أملاكا خاصة لإسرائيليين. وقصة الاستيطان في الباقورة بدأت ببيع الحكومة الأردنية عام 1926 ستة آلاف دونم -من أراضي إمارة شرق الأردن- تقع عند التقاء نهر اليرموك ونهر الأردن، للصهيوني بنحاس روتنبرغ الذي كانت بريطانيا منحته امتياز شركة توليد كهرباء في تلك المنطقة.

وكان واضحا أن منشآت شركة توليد الكهرباء -بما فيها سكن العمال- لا يلزمها سوى بضعة دونمات، كما بين ذلك أبرزُ رموز المعارضة الوطنية حينها النائب شمس الدين سامي، مشيرا إلى الفساد الإداري والمالي الذي رافق هذا البيع، وحذر من أن "المشروع صهيوني محض ولم تكن الحكومة مجبرة على إدخاله البلاد".

وقد قاطع الشعبُ الأردني المشروعَ واشترى مولدات خاصة، ولكن الأمير عبد الله دشن المشروع برعايته. وصدق ظن الشعب إذ أصبح المشروع -بحسب مؤرخين أردنيين- قلعة حربية لجيش الاحتلال في حرب 1948، والذي أوقفها عن العمل هو قصف الجيش العراقي لها.

ولكن في 1950 ارتدّ أمر هذا البيع على الأردن بقيام جيش الاحتلال باحتلال منطقة الباقورة، التي كان روتنبرغ قد باع بعض أراضيها ليهود آخرين. وحينها جرى احتلال 1390 دونماً من أرض المملكة، وأعلنت إسرائيل أن 830 منها أملاك خاصة لإسرائيليين.

أما كيف تدرّج الأمر للقبول بوضع عجائبي وخطير بل ومهين كهذا؛ فيلزمه بحث في "المغنين وليس الأغاني". وبالتالي تلزمه مقالة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.