"الرئيس أحمق".. تيلرسون ومغادرة إدارة ترمب

U.S. President Donald Trump (R) accompanied by State Secretary Rex Tillerson, arrives to talk about his 12-day Asian tour that brought him to five countries in Asia, with the final stop in the Philippines for 31st ASEAN Summit Tuesday, November 14, 2017 in Manila, Philippines. REUTERS/Bullit Marquez/Pool

الرئيس "أحمق"؛ هذا ما نعت به وزير الخارجية المُقال ريكس تيلرسون رئيسه دونالد ترمب في صيف العام الماضي (2017)، وذلك بعد اجتماع عقده الأخير بوزارة الدفاع (البنتاغون) مع رهط من العسكريين الأميركيين على رأسهم وزير الدفاع جيمس ماتيس.

في ذلك الاجتماع أظهر الرئيس ترمب معرفة سطحية للغاية بمجمل القضايا الإستراتيجية التي تتعاطى معها الولايات المتحدة في العالم، غير أن أكثر ما أثار دهشة العسكريين حينها هو اللهجة الصارمة التي تحدث بها ترمب، وهو يشير إلى شكل غرافيكي بجانبه يوضح مخزون الولايات المتحدة من السلاح النووي عام 1969، والذي كان يبلغ 32 ألف رأس نووي متفجر.

وقد طالب ترمب بأن تعاود بلاده إنتاج السلاح النووي للوصول إلى هذه العتبة مرة أخرى، في إشارة منه إلى عدم رضاه عن مخزونها الحالي من السلاح النووي البالغ عدده 4000 رأس متفجر؛ ضارباً بعُرض الحائط سلسلة الاتفاقيات الدولية التي رعتها واشنطن طوال عقود للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.

ولنا أن نتخيل ردة فعل الرئيس ترمب -وهو صاحب الشخصية النرجسية المعتد بذاته- عندما تناهى إلى سمعه هذا النعت البذيء له من وزير خارجيته، وذلك عبر تقرير لشبكة "أن بي سي" (NBC) الأميركية الواسعة الانتشار. لقد حاول الرئيس بداية إنكار هذا التقرير، واعتبره مؤامرة إعلامية تأتي ضمن حملة الأخبار المزيفة (fake news)، مؤكداً ثقته بوزير خارجيته تيلرسون.

أشارت تقارير متعددة إلى أن ريكس تيلرسون لم يكن ضمن الأسماء المحببة لدى ترمب منذ البداية، وأنه وافق على اعتماد اسمه لمنصب وزير الخارجية بناء على توصية من وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس ووزير الدفاع السابق روبرت غيتس، وذلك لحسابات تتعلق بالأجنحة المتنافسة داخل الحزب الجمهوري

وبعدها بفترة وجيزة؛ قال ترمب -خلال مقابلة أخرى مع شبكة "فوربس" (Forbes)- إنه ما زال يعتقد أن هذه الأخبار مزيفة، "ومع ذلك إذا كان فعلا تيلرسون قد فلعها وتلفظ بهذه الكلمة القبيحة، فإني أقترح أن نُجري فحص الصدق (IQ)، وأستطيع أن أخبرك (موجهاً كلامه للصحفي) بمن سوف يفوز".

هذه الكلمات دلت على عدم ثقة ترمب بوزير خارجيته، وقد تكون إحدى فضائل الرئيس ترمب عدم قدرته على الكتمان، فهو ربما أكثر الرؤساء الأميركيين وضوحاً. كانت هذه الحادثة إحدى الحوادث المتعددة التي بعثت برسائل واضحة بشأن العلاقة الفاترة (والمتناقضة أحيانا) بين ترمب وتيلرسون.

فقد أشارت تقارير متعددة إلى أن الأخير لم يكن ضمن الأسماء المحببة لدى ترمب منذ البداية، وأنه وافق على اعتماد اسمه لمنصب وزير الخارجية بناء على توصية من وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس ووزير الدفاع السابق روبرت غيتس، وذلك لحسابات تتعلق بالأجنحة المتنافسة داخل الحزب الجمهوري.

حقيقة؛ كان الانطباع الذي يسود بادئ الأمر أنه سيحدث انسجام بين الرجلين، بناءً على بعض القواسم المشتركة مثل خلفيتهما المهنية بوصفهما رجليْ أعمال، وافتقارهما إلى أي خبرة في العمل السياسي، وعدم تبوئهما لأي منصب عمومي في السابق.

لكن ظهر سريعاً عدم صحة هذا الانطباع؛ فالرئيس ترمب عمل -منذ البداية- على تحجيم قدرة وزارة الخارجية على الاضطلاع بدورها الدبلوماسي التقليدي، وأكد اتباعَه هذا النهج ما قام به من إبعاد لوزير الخارجية عن الكثير من اللقاءات الدبلوماسية مع الرؤساء وكبار الزوار للبيت الأبيض.

كما أزاح وزارة الخارجية عن الإشراف على بعض المسائل الحساسة في السياسة الخارجية، مثل خطة السلام بالشرق الأوسط التي يتولاها صهر الرئيس جاريد كوشنر، وأعرض عن اقتراحات وزير الخارجية بشأن ملء الشواغر المهمة في وزارته وسلكها الدبلوماسي.

فقد كان هناك ما يقارب 2000 وظيفة شاغرة في وزارة الخارجية والسفارات الأميركية بأنحاء العالم، ولنا أن نتخيل أن ترمب لم يوافق على تعيين سوزان ثورنتون (مرشحة تيلرسون لمنصب مساعدة وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ) إلا في 20 ديسمبر/كانون الأول 2017، أي بعد 11 شهرا من تولي الرجلين لمنصبيْهما.

ثم إن ترمب قام بتخفيض موازنة وزارة الخارجية إلى الثلث، وفي المقابل أمر بتعزيز موازنة وزارة الدفاع هذا العام، وذلك بزيادتها بـ50 مليار دولار.

وما يثير السخرية هو أن ما يشبه لعبة القط والفأر بين الرجلين؛ ظهرت خصوصاً فيما يتعلق بسياسة الولايات المتحدة تجاه كوريا الشمالية.

فبينما كان تيلرسون بداية يبحث عن طريق دبلوماسي لإجراء محادثات مباشرة بين البلدين، لإيجاد حلول دبلوماسية لنزع فتيل أي أزمة غير محمودة النتائج، خصوصاً مع التهديد باستخدام الأسلحة النووية؛ قام ترمب ببعث رسائل تصعيد ضد زعيم كوريا الشمالية واصفاً إياه "بفتى الصواريخ"، وملوّحاً بالحلول العسكرية.

لكن حدث بعد ذلك أن تبادل الرجلان موقفيهما في هذا الأمر؛ فقد صرح تيلرسون مؤخراً بأن الطريق أمام محادثات مباشرة بين واشنطن وبيونغ ينغ طويل جداً، فردّ عليه الرئيس ترمب مباشرة بقبوله عرضا من رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون بلقائه وإجراء محادثات مباشرة معه.

وإذا أردنا أن نضع هذه الإشكاليات بين الرجلين في إطار مفاهيمي؛ فيمكن القول بأن الرجلين كانا على تناقض معلن، سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى السياسات.

رغم خبرة تيلرسون المتواضعة في مجال الدبلوماسية، وعدم حصوله على الدعم الكافي من الرئيس لممارسة صلاحياته؛ فإن جدارته ظهرت في العديد من الملفات الحساسة، كالأزمة الخليجية بين قطر وحلف المقاطعة العربي، حيث حاول مرات التوسط محاولا وضع حد لهذه الأزمة. كما رفض خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وتوجه إلى أنقرة مؤخراً لإعادة ترميم العلاقات مع تركيا

ثم إن الرئيس ترمب يحاول تعزيز دائرته الداخلية برجال ينسجمون مع توجهاته العامة ولا يعارضونه بشدة، خصوصاً بعد سلسة الاستقالات التي عصفت بإدارة البيت الأبيض، وتضييق الخناق على أقرب مستشاريه؛ وأقصد هنا صهره جاريد كوشنر الذي حُرم مؤخراً من الاطلاع على التقارير التي تصنَّف بأنها "سرية للغاية".

سياسة إسكات الأصوات المعارضة -التي يتّبعها ترمب- ربما يظهر معها على السطح اسمُ مستشاره للأمن القومي الجنرال هربرت ماكماستر، الذي قد يأتي عليه الدورُ القادمُ في مغادرة البيت الأبيض، حيث بات هو الأكثر معارضة (بشكل غير معلن) مقارنة بغيره لتوجهات ترمب في بعض قضايا السياسة الخارجية.

رغم خبرة تيلرسون المتواضعة في مجال الدبلوماسية، وعدم حصوله على الدعم الكافي من الرئيس لممارسة صلاحياته؛ فإن جدارته ظهرت في العديد من الملفات الحساسة، كالأزمة الخليجية بين قطر وحلف المقاطعة العربي، حيث حاول مرات التوسط محاولا وضع حد لهذه الأزمة.

كما رفض خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وتوجه إلى أنقرة مؤخراً لإعادة ترميم العلاقات مع تركيا التي وصلت إلى حالة غير مسبوقة من التوتر.

يضاف إلى ذلك إظهار تيلرسون لغة متصالحة مع العالم الإسلامي، ورفضه دوماً التوجهات العنصرية لرئيسه ترمب ضد الإسلام؛ فقد صرح تيلرسون مرة بأن "هناك الكثير مما يساء فهمه في العالم الإسلامي، ونحتاج للمزيد من الجهد لكي يفهم بعضنا بعضا بشكل أفضل".

لقد بقي تيلرسون على خلاف مع رئيسه حتى آخر لحظة، فبينما أحجمت الناطقة الرسمية باسم البيت الأبيض عن إدانة روسيا بشكل واضح لحادثة اغتيال عميل استخبارات روسي سابق في بريطانيا؛ اتخذ تيلرسون موقفا معاكسا مؤكداً أن روسيا تقف وراء الاغتيال. وعليه كان خروجه من البيت الأبيض حتمياً.

خرج تيلرسون ليفسح الباب أمام قادم جديد للبيت الأبيض هو رئيس وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) مايك بومبيو، ليكون ربما "الأحمق الثاني" في البيت الأبيض. فقد عُرف الرجل بعدائه للإسلام والمسلمين، ومعارضته الشديدة للاتفاق النووي الإيراني؛ وهو ما قد تكون له انعكاسات سلبية على الشرق الأوسط.

إن الرئيس ترمب -بعد أن أحاط نفسه بمجموعة من الجنرالات- ها هو الآن يستعين برجال من خلفية أمنية؛ ذلك أنه بتعيينه رجلا أمنيا في منصب مايسترو الدبلوماسية يوجه رسالة غير مطمئنة للعالم، مفادها أن توجهات الرئيس القادمة ستتمحور حول المنظار العسكري والأمني لا الدبلوماسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.