مستقبل وهم بوتين

FILE PHOTO: Russian President Vladimir Putin addresses servicemen as he visits the Hmeymim air base in Latakia Province, Syria December 11, 2017. Sputnik/Mikhail Klimentyev/Sputnik via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY/File Photo

من الواضح أن نتيجة الانتخابات الرئاسية التي ستجري في 18 مارس/آذار القادم في روسيا محسومة مسبقا: فسيفوز الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، بعد أن يحصد من خمسة إلى ستة أضعاف الأصوات التي سيحصل عليها المرشح صاحب المركز الثاني.

والواقع أن الانتخابات في روسيا اليوم ليست أكثر نزاهة أو حرية أو تنافسية مما كانت عليه في العصر السوفياتي. الفارق الوحيد هو أن مرشحا واحدا فقط كان يخوض الانتخابات في ذلك الوقت، في حين أصبح المرشحون اليوم عِدة لكي تبدو الممارسة أكثر مصداقية.

الأمر اليقيني الآخر -بشأن الانتخابات المقبلة- هو أن بوتين سيُعيد تجسيد نفسه مرة أخرى، كما فعل سابقا أربع مرات. أتت انبعاثات بوتين السابقة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2003، بعد القبض على نصير حكم القِلة ميخائيل خودوركوفسكي، ثم في 2004 عندما ظهر نموذج جديد آخر من بوتين في انتخابات ذلك العام.

رغم موهبته في التحول؛ فإنه من غير المرجح أن يُقدِم بوتين على أي تغيير كبير في اتجاهاته السياسية بعد انتصاره في الانتخابات المقبلة. ومن الواضح أن الإصلاحات الجريئة الشاملة -من ذلك النوع الذي اقترحه وزير المالية الليبرالي السابق أليكسي كوردين- ليست واردة على الإطلاق. إذ إن بوتين "كلب عجوز"؛ ولن يتعلم حيلاً جديدة

وبعد انتخابات 2008، كان لزاما على بوتين أن يجد السبل لترويض وتوجيه رئيس روسيا المنتخَب حديثا ديمتري مدفيدف. وفي 2012، قام بوتين -الذي انبعث في هيئة محارب ولم يتورع لاحقا عن غزو أوكرانيا– بحشد أنصاره في ساحة بوكلونايا غورا بموسكو، وتغلب على احتجاجات جماهيرية حاشدة، ثم عاد إلى الرئاسة.

ورغم موهبته في التحول؛ فإنه من غير المرجح أن يُقدِم بوتين على أي تغيير كبير في اتجاهاته السياسية بعد انتصاره المقبل. ومن الواضح أن الإصلاحات الجريئة الشاملة -من ذلك النوع الذي اقترحه وزير المالية الليبرالي السابق أليكسي كوردين- ليست واردة على الإطلاق. إذ إن بوتين "كلب عجوز"؛ ولن يتعلم حيلاً جديدة.

ولكي نتمكن من التنبؤ بتصرفات بوتين المحتملة في ولايته المقبلة؛ ينبغي لنا أن نتأمل في خمسة اتجاهات تصف روسيا بدقة خلال حكمه الذي دام 18 عاما. فقد تمثل الاتجاه الأول في تصعيد المواجهة السياسية والعسكرية مع الغرب، مما أدى إلى جعل روسيا دولة مارقة تهدد جيرانها.

وكان الاتجاه الثاني توطيد السلطة تدريجيا لصالح دائرة صغيرة من النخب، حلت محل الجهاز البيروقراطي للدولة والبرلمان والسلطة القضائية، بوصفها الجهة المطلقة الصانعة للقرار في روسيا. وأما الاتجاه الثالث فهو الاعتماد المتنامي على استخدام القوة -وخاصة من جانب الشرطة السرية- في الحياة السياسية.

الآن يستطيع جهاز الأمن الفدرالي (خَلَف جهاز أمن الدولة في الاتحاد السوفياتي) بأقل القليل من الأدلة، أو بلا دليل على الإطلاق؛ سجنَ الوزراء الفدراليين، أو الحكام الإقليميين، أو قادة المعارضة، أو مديري المسارح، أو الناشطين في مجال البيئة، أو المواطنين الروس العاديين الذين يعبرون عن آراء سياسية على تويتر أو فيسبوك.

ويرتبط الاتجاه الرابع بسابقه، وهو يتمثل في تقييد الحريات المكفولة دستوريا، بما في ذلك حق التصويت وحق التعبير والتجمع. أما الاتجاه الخامس والأخير؛ فيتمثل في التآكل التدريجي لحقوق الملكية، مما جعل رجال الأعمال الروس غير راغبين في الاستثمار داخل البلاد.

وكل هذه الاتجاهات السلبية ستستمر، حتى وإن كانت وتيرة الانحدار قابلة للمناقشة. ذلك أن إعادة انتخاب بوتين تعني -على نحو شبه مؤكد- ست سنوات أخرى من الركود الاقتصادي والعزلة الدولية.

ربما يتحدث بوتين عن الحاجة إلى الإصلاح؛ ولكن بعد ما يقارب جيلا كاملا في السلطة، لم يعد من الممكن الثقة في كلماته. ويتطلب التكهنُ بنواياه وسياساته في المستقبل التركيزَ على أفعاله، وهو ما يقوم به من أفعال حقا، وليس ما يقوله. وفي اعتقادي أن الأمر يشمل أربعة سيناريوهات معقولة.

قد يسعى بوتين إلى تعيين نفسه رئيسا مدى الحياة عبر تنظيم استفتاء لإزالة الحد الدستوري الذي يسمح بولايتين رئاسيتين متتاليتين فقط. أو ربما يُنتَخَب رئيسا لدولة روسيا وبيلاروسيا الاتحادية، مع تولي رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو منصب رئيس الوزراء. تعيش هذه الدولة الاتحادية في سبات منذ 1997، ولكنها قد تعود إلى الحياة لخدمة أهداف بوتين

فأولاً، قد يسعى بوتين إلى تعيين نفسه رئيسا مدى الحياة عبر تنظيم استفتاء لإزالة الحد الدستوري الذي يسمح بولايتين رئاسيتين متتاليتين فقط. أو ربما يُنتَخَب رئيسا لدولة روسيا وبيلاروسيا الاتحادية، مع تولي رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو منصب رئيس الوزراء. تعيش هذه الدولة الاتحادية في سبات منذ 1997، ولكنها قد تعود إلى الحياة لخدمة أهداف بوتين.

في السيناريو الثاني، يتحول بوتين إلى دنغ شياو بينغ الروسي؛ فقد يعترف بأن النموذج السياسي الحالي في روسيا غير قابل للاستمرار، ثم يعقد اجتماع "مائدة مستديرة" يضم ممثلين من مختلف أنحاء البلاد للتوصل إلى إطار لنظام جديد. ويمكن أن يضع المندوبون القواعد لفترة انتقالية تشمل العامين الأخيرين من رئاسة بوتين، ثم تدخل روسيا حقبة سياسية جديدة.

أو ربما يعلن بوتين -كما فعل بوريس يلتسين من قبله- أنه أصبح مرهقا منهكا، فيرشح خليفة له. وفي السيناريو الثالث، ربما يكون ذلك الخليفة ليبرالياً مثل مدفيدف؛ أما في السيناريو الرابع فقد يكون محافظا مثل نائب رئيس الوزراء ديمتري روغوزين الذي يشرف حاليا على صناعة الدفاع.

في السيناريوهين الأخيرين، لا يهم حقا ما إن كان الخليفة ليبرالياً أو محافظا؛ فالمهم هنا هو ما إن كان أي من الزعيمين قادرا على الحفاظ على السلطة بمجرد توليه منصبه. لن يتمكن مدفيدف ولا روغوزين من الإبقاء على النظام الحالي؛ ولكن أي إصلاحات -ربما يحاول أي منهما تنفيذها- ستهدد بالضرورة المصالح الراسخة القوية، وهذا كفيل بزعزعة استقرار توازن السلطة القائم.

وعلاوة على ذلك، ليس واضحا أي نوع من العلاقات قد يقيمه مدفيدف أو روغوزين مع جهاز الأمن الفدرالي، أو ما إن كان أي من الرجلين قادرا على ضمان عدم تدخل الشرطة السرية في الحياة السياسية بالبلاد بعد بوتين.

لن أتكهن بشأن أي من هذه السيناريوهات الأربعة قد يكون الأرجح؛ فجميعها -على أية حال- تثير نفس السؤال: في عام 2024، هل يكون قائد روسيا بوتين للمرة الخامسة، أو يكون قائدها شخص آخر؟ وأيا كان ما سيحدث، فإن بوسعنا أن نتيقن من أن بوتين سيزداد انشغاله بمأزقه الوجودي: ماذا بعد ذلك؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.