السياسة الخارجية الأميركية واليسار المفقود

midan - trump2

تعالوا بنا نتأمل في كارثة السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترمب. ففي حين أنفق الرئيس سنته الأولى بمنصبه في تبادل الإهانات مع دكتاتور كوريا الشمالية، مَضَى النظام هناك قُـدُما وبثبات في تنفيذ برنامجه النووي، واقتربت الولايات المتحدة بشكل مطّرد من حرب لا أحد يريدها.

وفي سوريا؛ هاجمت قوات الولايات المتحدة -في أبريل/نيسان الماضي- منشآت حكومية بغارة قصف جوي لمرة واحدة، ولم تحقق أي شيء بسبب غياب المتابعة السياسية أو الدبلوماسية. وعلى نحو مماثل، وبعد تسليح الميليشيات الكردية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالنيابة عنها؛ وقفت الولايات المتحدة جانبا تراقب تركيا وهي تهاجم نفس النساء والرجال الذين سلحتهم.

ونتيجة لتخلي إدارة ترمب عن القيود التي كانت مفروضة في عهد أوباما على استخدام القوة الجوية؛ أسفر "انتصار" التحالف -الذي تقوده الولايات المتحدة- في الموصل بالعراق عن سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، وخَلَّف كومة من الركام والأنقاض. وكما حدث في فيتنام، كان على أميركا أن تدمر المدينة لكي تنقذها.

في الوقت نفسه، نشرت إدارة ترمب آلاف الجنود الأميركيين في أفغانستان، ولكن دون أن تكلف نفسها عناء وضع إستراتيجية سياسية لكسر الجمود هناك.

في عهد ترمب أيضا، أصبحت الولايات المتحدة مؤيدا مخلصا للأنظمة الاستبدادية، من المملكة العربية السعودية إلى الفلبين. وفي أوروبا، يسير زعماء اليمين المتطرف في بولندا والمجر بكل حماس على خُطى ترمب، إن لم يسبقوه بخطوة أو اثنتين. وفي إسرائيل تحالفت الولايات المتحدة فعليا مع حركة المستوطنين والحكومة اليمينية المتطرفة

وفي عهد ترمب أيضا، أصبحت الولايات المتحدة مؤيدا مخلصا للأنظمة الاستبدادية، من المملكة العربية السعودية إلى الفلبين. وفي أوروبا، يسير زعماء اليمين المتطرف في بولندا والمجر بكل حماس على خُطى ترمب، إن لم يسبقوه بخطوة أو اثنتين.

وفي إسرائيل تحالفت الولايات المتحدة فعليا مع حركة المستوطنين والحكومة اليمينية المتطرفة، وبالتالي رفضت الحلم الصهيوني القديم المتمثل في شعار "إسرائيل الصغيرة". والواقع أن نائب الرئيس مايك بنس رفض -في رحلته الأخيرة إلى إسرائيل- مجرد الحديث مع زعيم حزب العمل المعارض.

في ضوء كل تلك الحقائق؛ نستطيع أن نقول إن الولايات المتحدة أقصت بعض أقرب حلفائها، وأضعفت حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأصبحت تشكل حضورا شديد التعصب وكارها للأجانب على الساحة العالمية. فكيف إذن ينبغي لليبراليين واليساريين أن يستجيبوا لكل هذا؟

نحن على اليسار نعارض تقريبا كل شيء قاله ترمب أو فعله. ومع ذلك، لم يقدم أي منا بديلا معقولا أو متماسكا؛ فنحن إما أننا لم نتحدث عن السياسة الخارجية على الإطلاق، أو اعترضنا ببساطة على أي استخدام للقوة في الخارج، في حين انجرفنا نحو نسختنا الخاصة من العزلة.

لكن العزلة ليست طريقة أخرى لعدم انتهاج أي سياسة خارجية؛ فقد أدار سناتور ولاية فيرمونت بيرني ساندرز حملة انتخابية قوية وفعّالة عام 2016 في معالجته للسياسة الداخلية. ولكن حتى رغم أنه كان يخوض حملته لكي يصبح رئيسا للهيمنة العالمية؛ فإنه لم يذكر أي شيء تقريبا عن السياسة الدولية.

والواقع أن اليسار يحتاج -في المقام الأول- إلى التفكير بجدية في مسألة استخدام القوة، التي تشكل القضية المركزية في حوارات السياسة الخارجية؛ فمن الصواب استخدام القوة في الدفاع عن النفس أو الدفاع عن آخرين.

ويتحول استخدام القوة إلى خطأ واضح عندما نقاتل من أجل تغيير النظام، أو لدعم حكومات استبدادية، أو ضد حركات وطنية نجحت بالفعل في كسب المعركة من أجل "القلوب والعقول".

يتعلق سؤال جوهري آخر بكيفية استخدام القوة؛ لكنه سؤال تسهل الإجابة عليه: فالقوة يجب أن تستخدم في ظل قيود مصمَّمة لتقليص الخسائر بين صفوف المدنيين إلى أدنى حد. إن مثل هذه الأسئلة ليست صعبة، ولكن عندما نتعامل معها بجدية فإنها قد تقودنا إلى مواقف سياسية معقدة.

فعلى سبيل المثال؛ كانت الولايات المتحدة مخطئة عندما قررت غزو العراق عام 2003، ولكنها كانت محقة في الانضمام إلى القتال ضد "داعش"، وفي إنقاذ الإزيديين من مذبحة. وكانت محقة عندما هاجمت واحتلت مدينة الموصل، ولكنها كانت على خطأ بَيِّن عندما حولت المدينة إلى كومة من تراب.

كانت الولايات المتحدة مخطئة أيضا عندما طالبت بالإطاحة بنظام الرئيس السوري بَشّار الأسد، لأن القوى المعارضة للأسد كانت تفتقر إلى الدعم الشعبي الضروري، ولم تكن الولايات المتحدة مستعدة لإعانتهم على الفوز بذلك الدعم.

ومن ناحية أخرى، كانت مساعدة الأكرادالسوريين فكرة طيبة، لأنهم مقاتلون ناجحون ويتمتعون بدعم قوي من شعبهم؛ وربما ما كانوا ليتمكنوا من البقاء في ظل خلافة "داعش".

الولايات المتحدة قادرة على القيام بأفعال جيدة على الصعيد العالمي، وهي تفعل ذلك أحيانا. ويتعين على اليساريين الأميركيين أن يطالبوا بلادهم بالتصرف على نحو جيد، وينبغي لنا أن نعترض عندما تفشل في القيام بذلك أو تتقاعس عنه. ولكن من غير الممكن أن نطالب بأي شيء أو نعارضه قبل أن نتمكن من صياغة رؤية متماسكة للسياسة الدولية

في مكان آخر، كان من الصواب أن تعمل الولايات المتحدة على تعزيز دفاعات كوريا الجنوبية واليابان، ولكن من الواضح أنها أخطأت عندما هددت بشن حرب نووية. فالأسلحة النووية من غير الممكن أن تخدم أي غرض إنساني يمكن تصوره. لكن هذا لا ينطبق على كل الأسلحة، ويتعين على اليسار أن يتصالح مع هذه الحقيقة.

فلا يمكننا أن ندعو إلى السلام عندما يعيش الناس بمختلف أنحاء العالَم في خوف من القتل الجماعي، لأنهم ينتمون إلى أقلية عِرقية أو دينية بعينها، أو يؤمنون بأيديولوجية "خاطئة"، أو يعيشون في دول ضعيفة معرضة للخطر إلى جانب قوى رجعية انتقامية.

في أوج الحرب الباردة؛ عارض العديد من اليساريين منظمة حلف شمال الأطلسي. وفي السنوات الأخيرة، كان بعض الساسة -من أمثال جيرمي كوربن قبل أن يصبح زعيما لحزب العمال البريطاني– يدعمون سحب بلدانهم من الحلف، لأن الحلف ملتزم تحديدا باستخدام القوة كوسيلة للدفاع المتبادل.

كان هذا الالتزام موجَّها في الأصل ضد الاتحاد السوفياتي، والآن أصبح موجها نحو روسيا فلاديمير بوتين. وينبغي لليساريين الأميركيين أن يتعاملوا مع هذا الوضع بطرح السؤال على اليساريين في بولندا أو ليتوانيا أو أوكرانيا، حيث المخاطر جسيمة.

وأنا شخصيا أود أن أفترض أن العديد من اليساريين في أوروبا الشرقية يناصرون حلف شمال الأطلسي، وكنت سأرغب في أن تكون أميركا مناصرة له أيضا؛ فليس من الواجب علينا أن نفعل دوما ما يريد أصدقاؤنا أن نفعله، ولكن ينبغي لنا أن ننصت إليهم دوما.

ترى عقيدة قديمة في الإيديولوجية اليسارية أن الدول الرأسمالية المهيمنة -مثل الولايات المتحدة- من غير الممكن أن تعمل كما ينبغي لها في العالَم. ولكن هذا غير صحيح؛ فقد لعبت الولايات المتحدة دورا رائدا في إلحاق الهزيمة باثنين من أكثر الأنظمة وحشية في تاريخ العالَم: ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي.

والواقع أن الولايات المتحدة قادرة على القيام بأفعال جيدة على الصعيد العالمي، وهي تفعل ذلك أحيانا. ويتعين على اليساريين الأميركيين أن يطالبوا بلادهم بالتصرف على نحو جيد، وينبغي لنا أن نعترض عندما تفشل في القيام بذلك أو تتقاعس عنه. ولكن من غير الممكن أن ننجح في المطالبة بأي شيء أو معارضة أي شيء، قبل أن نتمكن من صياغة رؤية متماسكة للسياسة الدولية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.