البريكست البريطاني والنظام الأوروبي

Anti-Brexit protesters waves EU and Union flags opposite the Houses of Parliament, on a sunny day in London, Britain, May 8, 2018. REUTERS/Hannah McKay

بقيت أشهر قليلة فقط قبل أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رسميا. وإلى حد الساعة؛ تناول النقاش بشكل أساسي الجانب الاقتصادي لهذا الانسحاب. إذ في حال مغادرة بريطانيا المجموعة دون اتفاق متبادل، من المحتمل أن يكون الضرر كبيرا. وكما يبدو عليه الأمر؛ فإن هذه الاتفاقية أبعد من أن تكون مؤكدة.

إن الانسحاب "الصارم" لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعني أنه في يوم 29 مارس/آذار 2019 (على تمام الساعة 11 ليلا بتوقيت غرينيتش)، ستُنهي بريطانيا عضويتها في جميع المعاهدات -مثل الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة- والاتفاقيات التجارية الدولية التي عقدها الاتحاد الأوروبي.

وستصبح بريطانيا طرفا ثالثا فقط، مما سيكون له انعكاسات بعيدة المدى على الاتحاد الأوروبي، خاصة في حال حدوث فوضى على الحدود البريطانية.

لكن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي ستكون له انعكاسات سياسية بعيدة المدى أيضا. إذ يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي -بشكل كبير- على أنه سوق مشتركة واتحاد جمركي فيما يتعلق بقضاياه اليومية. لكنه -في الجوهر- مشروع سياسي مبني على فكرة خاصة بشأن النظام الأوروبي ودوله.

وهذه الفكرة -وليس الجانب الاقتصادي للقضية- هي المعنى الحقيقي للبريكست (انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). وهي الفكرة التي تفسر لماذا سيكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيتأثير عميق على النظام الأوروبي خلال القرن الواحد والعشرين، سواء تم ذلك الخروج بموجب اتفاق أم لا.

انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي ستكون له انعكاسات سياسية بعيدة المدى أيضا. إذ يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي -بشكل كبير- على أنه سوق مشتركة واتحاد جمركي فيما يتعلق بقضاياه اليومية. لكنه -في الجوهر- مشروع سياسي مبني على فكرة خاصة بشأن النظام الأوروبي ودوله. وهذه الفكرة -وليس الجانب الاقتصادي للقضية- هي المعنى الحقيقي للبريكست

إن الأغلبية القليلة من البريطانيين -الذين "صوتوا" خلال استفتاء 2016- لم يعيروا اهتماما للرفاه الاقتصادي، بل ما كان يهمهم هو المطالبة بالسيادة السياسية الكاملة. فهم لا يرون السيادة من ناحية الوقائع الموضوعية المتعلقة بحاضر بريطانيا ومستقبله، بل يربطونها بماضي بريطانيا كقوة عالمية خلال القرن التاسع عشر.

ولذلك فإنهم لا يأبهون لما إن كانت بريطانيا اليوم قوة أوروبية متوسطة الحجم، ولديها حظوظ قليلة إلى منعدمة في أن تلعب دورها من جديد على المستوى العالمي، سواء أكان ذلك داخل الاتحاد الأوروبي أم خارجه.

وإذا كان ولا بد لباقي دول العالم أن تتبع النموذج البريطاني وأن تختار القرن التاسع عشر بدل القرن العشرين؛ فإن الاتحاد الأوروبي سينهار. إذ سيضطر كل بلد إلى العودة للنظام المعقد للدول ذات السيادة، التي تسعى إلى الهيمنة وتراقب بشكل مستمر طموح بعضها البعض.

وفي ظل مثل هذه الظروف؛ ستفتقر الدول الأوروبية إلى السلطة الحقيقية أيا كانت، وبالتالي فإنها ستنسحب من الساحة الدولية بشكل نهائي. وستحتار أوروبا بين انتمائها عبر الأطلسي والأوروآسيوي، مما سيجعلها فريسة سهلة للقوى الكبرى للقرن الواحد والعشرين الخارجة عن الاتحاد الأوروبي.

وفي أسوأ السيناريوهات؛ قد تكون أوروبا حلبة صراع للقوى الكبرى. ولن يصبح بوسع الأوروبيين اتخاذ قرارات بشأن مستقبلهم؛ بل سيقَرَّر مصيرُهُم في مكان آخر.

إن النظام الأوروبي القديم والمتدهور للقرن التاسع عشر كان في الأصل نتيجة للحرب التي دامت ثلاثين سنة (1618 – 1648). وكان نظام القرون الوسطى -الذي سبقه وكان مبنيا على الكنيسة والإمبراطورية العالميتيْن- قد اندثر خلال حركة الإصلاح الديني. وبعد سلسلة من الحروب الدينية وبعد بناء قوى إقليمية قوية؛ حل مكانه "النظام الويستفالي" للدول ذات السيادة.

وخلال القرون القليلة التي تلت هذا النظام؛ سيطرت أوروبا على العالم، وكانت بريطانيا بنفسها القوة الأوروبية المهيمنة. إلا أن النظام الويستفالي انهار بسبب الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، واللتين كانتا -في حقيقة الأمر- حربين أوروبيتين من أجل الهيمنة العالمية.

وعندما توقف إطلاق النار (في الحرب العالمية الثانية) عام 1945؛ فقد الأوروبيون -حتى من حقق النصر منهم- سيادتهم بشكل فعلي. وحل النظام الثنائي القطب للحرب الباردة محل النظام الويستفالي، حيث بقيت السيادة في أيدي القوتين النوويتين غير الأوروبيتين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.

لقد كان يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي كمحاولة لاسترداد السيادة الأوروبية بشكل سلمي، عبر توحيد المصالح الوطنية للدول الأوروبية. وكانت هذه الجهود تهدف دائما لمنع الرجوع إلى النظام القديم، المبني على المنافسة على السلطة والتحالف المتبادل وتوجيه الضربات القوية. والحل الناجح يتجلى في تأسيس نظام قاري مبني على الاندماج الاقتصادي والسياسي والقانوني.

كان يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي كمحاولة لاسترداد السيادة الأوروبية بشكل سلمي، عبر توحيد المصالح الوطنية للدول الأوروبية. وكانت هذه الجهود تهدف دائما لمنع الرجوع إلى النظام القديم، المبني على المنافسة على السلطة والتحالف المتبادل وتوجيه الضربات القوية. والحل الناجح يتجلى في تأسيس نظام قاري مبني على الاندماج الاقتصادي والسياسي والقانوني

وأظهر انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بوضوح الانعكاسات المادية لهذا المستوى من الاندماج. إذ أثناء مفاوضات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، عاد مشكل قديم إلى الواجهة: إنها القضية الإيرلندية.

إذ فور انضمام الجمهورية الإيرلندية وبريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، تلاشى الحماس من أجل لَمِّ شمل إيرلندا، ومكّن هذا من وقف الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستانت التي دامت عقودا عدة.

وكان الاندماج الأوروبي يعني أنه لم يعد مهمًّا تحديد البلد الذي تنتمي إليه إيرلندا الشمالية. لكن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قلَب التاريخ، مما يهدد بعودة أشباح الماضي.

يجب على الأوروبيين النظر في القضية الإيرلندية عن قرب، لأن هناك احتمالا لرجوع مثل هذه الصراعات إلى القارة. إن نظاما جديدا بدأ يظهر، وسيرتكز حول المحيط الهادئ وليس المحيط الأطلسي.

إن لدى أوروبا فرصة واحدة -فقط واحدة- لإدارة هذا التحول التاريخي. ولن تستطيع الدول القومية الأوروبية القديمة أن تواكب المنافسة الجديدة إلا إن توحَّدت. وحتى إن حصل هذا؛ فإن تحقيق السيادة الأوروبية أمر سيحتاج إلى بذل جهود مكثفة ومركزة للإرادة والإبداع السياسييْن.

إن الحنين إلى الماضي المجيد هو آخر شيء سيساعد الأوروبيين على مواجهة التحديات التي تقف في طريقهم. لقد انتهى الماضي.. وهذا أمر طبيعي. يجب على أوروبا أن تنظر إلى مستقبلها، سواء كان ذلك مع بريطانيا أو بدونها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.