قضية خاشقجي.. كيف أبرز الأتراك مهاراتهم الدعائية؟

جمال خاشقجي لحظة دخوله السفارة السعودية في أنقرة

كشف لغز اختفاء الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي عن قدرات دعائية تركية استثنائية، لا سيما في مجالات استنطاق السعودية، والتحكم -بشكل ضاغط وغير مباشر- في تصرفاتها وتصريحاتها فيما يتصل بمصير خاشقجي، وما أعلنته من مواقف قطعية كانت أشبه بفخاخ إعلامية هدفت إلى استدراجها نحو المربع الذي خططت له تركيا منذ البداية.

فالمتتبع للجهد الدعائي التركي خلال محطات الأزمة لن يعجز عن ملاحظة ذلك الاشتغال المتسلسل، والتكامل العالي المستوى بين المكونات الأمنية والسياسية والإعلامية التركية، خلال محاولتها فك اللغز، خاصة ما يتعلق بإحراج السعودية، ودفعها -دون أية توترات دبلوماسية- نحو التلميح بمسؤوليتها غير المباشرة عما حدث للصحفي المعارض لسياسات المملكة الداخلية والخارجية.

فخ الإنكار المطلق: كان واضحاً للمتابعين -منذ لحظة اختفاء خاشقجي وبدء تفاعل القضية على المستوى التركي- شحُّ المعلومات بشأن مصيره؛ فالسلطات التركية -وخاصة في الأيام الثلاثة الأولى- اكتفت بإعلان اختفائه، وأن المعلومات التي لديها تشير إلى دخوله القنصلية السعودية، دون أن تكشف بشكل رسمي امتلاكها تسجيلات تعزز هذه الفرضية.

ولأن التحرك التركي بدا في ظاهره معتمداً على رواية خطيبة خاشقجي؛ فقد تبنت السلطات السعودية مبدأ نفي معرفتها بمصير الرجل، مؤكدةً عدم امتلاكها لأية معلومات تتعلق به، ومعبرةً -في ذات الوقت- عن قلق يعتريها بشأن مصير أحد مواطنيها.

هذا الموقف القطعي الجازم كان بمثابة الفخ الذي وقعت فيه السعودية بملء إرادتها، ودونما أي ضغوط؛ فقد بدى لها أن السلطات التركية لا تمتلك معلومات كافية، وهذا ما أشعرها بالاطمئنان، وجعل من مقاربة الإنكار المطلق الأسلوب الأمثل للتنصل.

المتتبع للجهد الدعائي التركي خلال محطات الأزمة لن يعجز عن ملاحظة ذلك الاشتغال المتسلسل، والتكامل العالي المستوى بين المكونات الأمنية والسياسية والإعلامية التركية، خلال محاولتها فك اللغز، خاصة ما يتعلق بإحراج السعودية، ودفعها -دون أية توترات دبلوماسية- نحو التلميح بمسؤوليتها غير المباشرة عما حدث للصحفي المعارض لسياسات المملكة الداخلية والخارجية


مصيدة التوريط والاستنطاق
: بعد مرور أربعة أيام على الواقعة، وتبني السعودية مبدأ الإنكار التام؛ نشر الإعلام التركي -بشكل متعمد ومخطط- تسجيلات مصورة تظهر دخول خاشقجي إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، مصحوبة بتأكيد رسمي لصحتها.

هنا بدأت تتضح ملامح مقاربة تركية جديدة، تمثلت في مسلك دعائي هجومي هدفه الأساسي ربط السعودية مباشرة باختفاء خاشقجي، وبالتالي تجنب أي مسار خفي يريد توريطها بأي ثمن.

وعلى ما يبدو؛ فقد أرادت تركيا إحراج السعودية مبكراً، لا سيما أن إثباتها دخول خاشقجي للقنصلية سيجتاح وسائل الإعلام العالمية، مترافقة مع سيناريوهات وفرضيات تُجبر السعودية على التفاعل معها، تجنباً لأي ضرر قد يلحق بها حال آثرت تجاهلها أو التزمت الصمت حيالها.

وبالفعل جاء التفاعل السعودي سريعاً على لسان ولي العهد محمد بن سلمان، ولكن بأسلوب انسجم مع المصيدة التركية؛ فالرجل -خلال مقابلة له مع قناة "بلومبيرغ"- أكد بشكل قاطع مغادرة خاشقجي للقنصلية السعودية، نافياً في الوقت ذاته امتلاكه أية معلومات إضافية.

وهنا بالتحديد اتضح للعالم ذلك التناقض في الرواية السعودية، وبالتالي نجاح الجهد الدعائي التركي في تحويل الإنظار وتركيزها حصراً على مؤشرات تفيد بتورط سعودي محتمل في اختفاء خاشقجي.

إخفاء أم قتل.. لعبة التسريبات والاستنتاجات: المجهود الدعائي التركي لم يتوقف عند حدود الربط، بل توجه نحو ممارسة لعبة التسريب ذات الأبعاد الدعائية السياسية، وهو ما تجلى بوضوح في التنسيق الدائم بين وسائل إعلام محلية ومصادر قضائية وأمنية رسمية.

ويمكن تأكيد أن هذا الترتيب المنظم للأدوار كشف عن نية مسبقة لاستغلال المعلومات التي بحوزة السلطات التركية، من أجل توجيه الرواية الإعلامية العالمية نحو استنتاجات محددة تخدم سياستها الخارجية.

وما يؤيد صوابية طرحنا هذا هو قيام صحيفتيْ "صباح" و"يني شفق" التركيتين بنشر معلومات مسربة عن مصادر رسمية باحتمال مقتل خاشقجي وتعرض جثته للتقطيع داخل قنصلية بلاده؛ كما نشرت بموازاة ذلك لقطات مسجلة تُظهر تحركات مريبة لسيارات دبلوماسية سعودية، مصحوبة بصور لخمسة عشر شخصاً، قالت إنهم منخرطون -بشكل مباشر- في عملية التصفية.

هذه التسريبات -التي لاقت رواجاً وانتشاراً كثيفاً في أنحاء العالم- دعمت بشكل جلي فرضية مقتل خاشقجي، وقللت من شأن فرضية اعتقاله ونقله إلى السعودية، وهو الأمر الذي -على ما يبدو- سعت إليه تركيا منذ البداية.

فقد أدركت الرياض مسبقاً أهمية هذه الرواية، وقدرتها على استدعاء نواحٍ جنائية وقانونية، إلى جانب حض ردود فعل سياسية وإعلامية عالمية تضع السعودية في مأزق حرج للغاية.

هجوم دعائي مستمر: رغم المجهود الدعائي التركي، واجتهاد أنقرة في محاصرة أي رد فعل إعلامي مخالف؛ فإن الماكنة الدعائية السعودية حاولت بشكل حثيث حرف الأنظار عن الأطروحات التركية، كما اشتغلت على تشويهها وإبراز أي تناقض محتمل فيها، وذلك بهدف استعادة زمام المبادرة، وبالتالي توجيه دفة الاستنتاجات إلى نواح أخرى مجافية للحقيقة.

ولكن، حتى هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح؛ فالهجوم الدعائي التركي ظل مستمراً ومركّزاً لدرجة أفشلت كل مواجهة معه. وليس أدل على ذلك من قيام وسائل إعلام تركية بنشر تسريبات عن امتلاك السلطات تسجيلات صوتية وربما مرئية تثبت تعرض خاشقجي للقتل، ما جعل السعودية في موقع دفاعي متأرجح.

ولقد كان أكثر ذلك إيلاماً وإحراجاً للرياض تلقيها طلبا رسميا بالسماح للسلطات الأمنية التركية بتفتيش مقر القنصلية وبيت القنصل، وهو مطلب لا تستطيع رفضه أو تحديه ما دامت تتبنى مقاربة نفي مسؤوليتها.

رغم المجهود الدعائي التركي، واجتهاد أنقرة في محاصرة أي رد فعل إعلامي مخالف؛ فإن الماكنة الدعائية السعودية حاولت بشكل حثيث حرف الأنظار عن الأطروحات التركية، كما اشتغلت على تشويهها وإبراز أي تناقض محتمل فيها، وذلك بهدف استعادة زمام المبادرة، وبالتالي توجيه دفة الاستنتاجات إلى نواح أخرى مجافية للحقيقة. ولكن، حتى هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح

وإلى جانب ذلك؛ برزت أطروحة "ساعة آبل"، وما أثارته من احتمال كونها الأداة الرئيسية التي اعتمد عليها الأتراك في ترويج فرضية القتل.

وعلى أية حال؛ فإن الهجوم الدعائي المستمر لتركيا لم يترك للسعودية أي مجال للمناورة، بل جعلها ترزح تحت ضغط ثقيل ومتواصل، جعلها تستجيب لاحقاً لدعوات طالبتها بالتعاون مع التحقيقات التركية. 

انفراط العقد: المحاولات التركية المتماسكة والمنظمة لاستدراج السعودية نجحت برأيي في تحقيق فرق واختراق كبير في القضية.

فقد تمكن رجب طيب أردوغان من كشف معظم تفاصيلها، واستطاعت أجهزته الأمنية توجيه ضربة محرجة للسعودية، ولا سيما ما يتعلق بصورتها في العالم، ومستقبل ولي العهد محمد بن سلمان كخليفة مقبول عالمياً.

والدليل الذي نعتمد عليه في استنتاجنا هو بروز الملك سلمان في الواجهة، وإعلانه إجراء تحقيق سعودي داخلي، إضافة إلى موافقته على السماح للسلطات التركية بتفتيش مقريْ القنصلية والقنصل.

وإلى ذلك؛ يمكن اعتبار ما نقلته قناة سي أن أن (CNN) الأميركية عن مصادر في الخارجية بشأن احتمال اعتراف السعودية بمسؤوليتها عن مقتل خاشقجي؛ مؤشرا على انفراط عِقد القضية برمتها، وأن يجري الآن هو محاولة لحفظ ماء الوجه السعودي، والخروج بأقل خسائر ممكنة.

وأخيراً؛ لا يمكننا التعرض لقضية خاشقجي دون تناول دور تركيا المحوري. فأي نتيجة متصلة بالموضوع مردها -بشكل كبير- إلى الدهاء الدعائي للأتراك، وما نفذوه من أساليب وتكتيكات حددت بشكل قطعي وحتمي مسارات وتطورات الأمور إلى النقطة التي وصلت إليها.

وبكل أمانة وموضوعية؛ فإن ما قاموا ويقومون به يستحق أن يخلّد في التاريخ بوصفه من أهم الجهود الدعائية (إعلاميا وسياسيا وأمنيا) التي شهدها العالم في القرن الواحد والعشرين، وبشكل يتفوق على الجهد الدعائي الروسي خلال الانتخابات الأميركية، أو الجهد الإسرائيلي الحالي في مواجهة حركات المقاطعة (BDS).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.