الديمقراطية ليست فقط الانتخابات

FILE PICTURE: Donald Trump speaks as his son-in-law Jared Kushner (L) and his daughter Ivanka listen at a campaign event at the Trump National Golf Club Westchester in Briarcliff Manor, New York, U.S., June 7, 2016. REUTERS/Mike Segar/File Photo

تتمثل بعض الصور الإخبارية الأكثر إبداعا في القرن الواحد والعشرين -وهي ربما مضللة- في العراقيين المبتسمين الذين قاموا بتلوين أصابعهم بالحبر الانتخابي، لإظهار مشاركتهم في انتخابات بلادهم في يناير/كانون الثاني 2005. وبالنسبة لكثيرين منهم، كان هذا أول تصويت أدلوا به.

والقصة المزعومة وراء هذه الصور الإخبارية هي أن الديمقراطية قد وصلت أخيرا إلى العراق. لا يمكن أن يدعي نظام أنه ديمقراطي بدون انتخابات. لذلك كانت رؤية صور لعملية تصويت جيدة للغاية دليلا كافيا -بالنسبة للكثيرين- على أن الأمور قد تغيرت في العراق (يمنع الحبر الانتخابي الناخبين من إجراء أكثر من اقتراع واحد).

لكن الديمقراطية نظام معقّد للغاية، والانتخابات الحرة تعد شكلا واحدا من أشكال الديمقراطية، ومن المؤكد أن غياب الانتخابات يعني غياب الديمقراطية، لكن ليس ضروريا أن يكون العكس صحيحا. فالانتخابات هي شرط ضروري ولكنه غير كافٍ للديمقراطية، وهو ما يتطلب أيضا مؤسسات دائمة تجسد القيم الديمقراطية.

الديمقراطية نظام معقّد للغاية، والانتخابات الحرة تعد شكلا واحدا من أشكال الديمقراطية، ومن المؤكد أن غياب الانتخابات يعني غياب الديمقراطية، لكن ليس ضروريا أن يكون العكس صحيحا. فالانتخابات هي شرط ضروري ولكنه غير كافٍ للديمقراطية، وهو ما يتطلب أيضا مؤسسات دائمة تجسد القيم الديمقراطية

اليوم، هناك عدد متزايد من البلدان التي تُنظّم انتخابات، ومع ذلك فإن الديمقراطية فيها توجد في خطر. وفي جميع البلدان المتقدمة والبلدان النامية، يؤدي انتهاك الثقة العامة وعدم حماية المؤسسات الديمقراطية إلى إرهاق نظم الضوابط والتوازنات التي كانت -في بعض الحالات- قائمةً منذ قرون.

إن الهجمات على المؤسسات الديمقراطية لا تقتصر على البلدان ذات الخبرة الديمقراطية القليلة، إذ يمكن أن تكون في كل مكان تقريبا، بما في ذلك في أقدم بلد ديمقراطي في العالم، أي الولايات المتحدة.

أما في الغرب، فإن مدح فضائل الديمقراطية للآخرين يشبه إلى حد بعيد التحول من ديانة علمانية، مع التهديد بالنار والكبريت لأولئك الذين لا يتبنون العقيدة الديمقراطية. ولكن محاضرات العالم المتقدم النمو المقدَّمة للعالم النامي لم تكن مفيدة على الإطلاق.

منذ سنوات، وبعد حدث ألقى فيه محسن دولي محاضرة عن الديمقراطية لساعات قبل أن يسافر في طائرته الخاصة؛ سألني رئيس وزراء البلقان في الحضور: "ما الذي يفترض أن أقوم به حيال ذلك؟" وبينما كان في الصفوف الأمامية يناقش القضايا الحساسة المتعلقة بالأقليات العرقية، كان البعض يقدمون له نصائح كثيرة لا يمكنهم تحمل المسؤولية عنها.

الآن، قد تأرجح البندول في الاتجاه المعاكس، وخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة. فتحت إدارة الرئيس دونالد ترمب، لا تهتم الحكومة الأميركية حتى بالتحدث عن الديمقراطية.

ومن المؤكد أن هذا يعكس جزئيا الإجهاد بسبب عقود من تعزيز الديمقراطية من جانب الغرب. والأكثر من ذلك، أن الديمقراطية تتعرض للتهديد المباشر في البلد الذي ينبغي أن تكون لها فيه جذور ثقافية وسياسية عميقة.

وكما أشار ترمب، فإنه لا يرغب في تجنب تكرار السياسات الفاشلة في الماضي فحسب، بل يستهدف هو ومناصروه المؤسسات الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية الأميركية، بما في ذلك المحاكم والهيئة التشريعية ووسائل الإعلام المستقلة وغيرها.

وقد تحدث الضابط العسكري البروسي في القرن التاسع عشر والمنظر كارل فون كلاوزفيتز عن عصر الحرب الشاملة الذي سيأتي بعد أقل من قرن من وفاته. لكنه لم يتحدث عن العصر القادم للسياسة الكلية، حيث سيتم الضغط على جميع مؤسسات المجتمع لخدمة صراع أيديولوجي شامل. إن أميركا الآن في خضم صراع مماثل، وكيفية التعامل معه سيُطلع بلدانا أخرى على كيفية مواجهة صراعات مماثلة خاصة بها.

أزمة أميركا الداخلية تمنعها من أداء دورها الدولي التقليدي كمصدر للتأكيد المؤسسي ووكيل للتغيير. وطوال فترة ما بعد الحرب، دعمت الولايات المتحدة الأمن الجماعي عبر منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وغيرها من المؤسسات، وكانت أكثر استعدادا لمواجهة التهديدات الإقليمية والعالمية، غالبا مع دعم عدد قليل من حلفائها

إن أزمة أميركا الداخلية تمنعها من أداء دورها الدولي التقليدي كمصدر للتأكيد المؤسسي ووكيل للتغيير. وطوال فترة ما بعد الحرب، دعمت الولايات المتحدة الأمن الجماعي عبر منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وغيرها من المؤسسات، وكانت أكثر استعدادا لمواجهة التهديدات الإقليمية والعالمية، غالبا مع دعم عدد قليل من حلفائها.

وللأسف، لا يُظهر ترمب أي احترام لهذا الإرث، أو لتقليد أميركا المتعلق بالتفاؤل والثقة في مؤسساتها. فهو إما لا يدرك أو لا يهتم بأن النظام الأميركي للحكم كان المصدر الرئيسي للمكانة العالمية التي يحظى بها البلد. وبدلا من ذلك، يرفض ترمب صعود أميركا التاريخي، ويعتبرها مثالا من الوهم الذاتي والسذاجة، وهدفا للمستغلين في العالم.

إن صمت أميركا يصم الآذان؛ ففي سوريا، تنازلت الولايات المتحدة عن المنطقة للآخرين، رغم أن المعركة هناك يمكن أن تحدد مستقبل الشرق الأوسط المسلم. وفي الوقت نفسه، فإن رفض إدارة ترمب لاتفاقيات التجارة والاستثمار عبر المحيط قد أربك حلفاءها وشجع منافسيها.

كما تفتقر وزارة الخارجية الأميركية الآن -بغض النظر عما قد يقوله قائدها المُحاصر ريكس تيلرسون– إلى النطاق العالمي. وبدون الدبلوماسية الاستباقية، فإن الولايات المتحدة ستختفي بسرعة عن الصعيد الدولي، وستُعوّضها الصين.

ولكن ترمب فاز بالانتخابات عام 2016، وبذلك فإنه يرفع الإصبع الملوّن كما لو كان الشيء الوحيد الذي يهم. وفي العام المقبل، سيكون الأمر متروكا للأميركيين -من كل الشرائح- لتوضيح أن الديمقراطية تعني أكثر من ذلك بكثير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.