القديم يعيد إنتاج نفسه بتونس حكما ومعارضة

Tunisian MPs attend a parliament session for the revision by the Tunisian assembly of the bill amending the country's draconian drug law on April 25, 2017 in Tunis. The controversial 'Law 52', passed under toppled dictator Zine El Abidine Ben Ali, lays down harsh jail sentences for drugs use, in most cases cannabis resin, or 'zatla' as it is known in Tunisia. / AFP PHOTO / FETHI BELAID (Photo credit should read FETHI BELAID/AFP/Getty Images)

ازدواجية في الحكم والمعارضة
تحولات المشهد السياسي العميقة
تصدّر المعارضة الوظيفية للمشهد 

يدرك الناس في تونس أنه مع الثورة انفتح مجال سياسي جديد، وأنّ ما عرفوه في سنواتها الست لم يعرفوه في عقود الاستقلال الستّة. كما يدركون أنّهم صاروا "صنّاعا للخبر" بعد أن كانوا زمن الاستبداد مجرّد مستهلكين لأخبار باردة لا يشعرون بأنّهم طرف فيها، رغم أثرها المباشر على حياتهم.

لم تكن رياح هذا النسق السريع تجري بما يشتهيه الناس من رفاه في العيش واستقرار لما تأسّس؛ فقد بدت رغبة القديم العائد بقوّة -مع انتخابات 2014- واضحة في تغيير النظام السياسي سليل المسار التأسيسي، واستهداف المنظومة الديمقراطيّة وزعزعة أسسها من هيئات تعديليّة ودستوريّة.

ولم يكن التحوير الحكومي الأخير باستدعاء وجوه بارزة من وزراء زين العابدين بن علي في آخر حكومة له، والمصادقة على قانون المصالحة الإداريّة المبيّض للفساد والمؤسس لإفلات من نهبوا المال العام من العقاب؛ إلا مرحلة متقدّمة من هذا المسار الانقلابي.

ازدواجية في الحكم والمعارضة
يعيش المشهد السياسي في تونس على إيقاع النتائج السياسيّة لانتخابات 2014 التي شابتها شوائب عدّة، وقد فاز بها حزب نداء تونس (83 مقعدا) قبل انقسامه وتفرّق كتلته، بينما جاءت حركة النهضة في المرتبة الثانية (69 مقعدا) من مقاعد المجلس الـ217.

والدارج هو أن يكون الحزب الأول نواة الحكم والثاني نواة المعارضة. غير أنّ عجز الفائز عن تشكيل حكومة تحظى بأغلبيّة مريحة، وحاجة النهضة إلى تأمين وضعها بعد التغيّرات العميقة لصالح الثورة المضادّة في المجال العربي، وتواصل الفيتو المرفوع في وجه الإسلام السياسي محليّا ودوليّا؛ أفضى إلى هذا اللقاء في الحكم بين "النهضة" و"النداء". 

في تونس هناك نظامان متجاوران مختلفان رغم التقائهما؛ نظام الحزب الواحد سليل حزب الدستور وثقافة الاستبداد ويمثله حزب "النداء". ونظام يحمل وعودا ديمقراطيّة -أو هو أحد شروطها- تمثّله "النهضة" رغم ما تعيشه من أزمة بنيوية، تتمثل في عجزها عن التحرر من الخطاب الشريعي وليس من الصفة الإسلامية

وقد أفرزت الانتخابات وضعا مزدوجا في مستوييْ الحكم والمعارضة، حيث نجد نظامين في الدولة ومعارضتين في المجتمع:

1- في مستوى الحكم: هناك نظامان متجاوران مختلفان رغم التقائهما؛ نظام الحزب الواحد سليل حزب الدستور وثقافة الاستبداد ويمثله حزب "النداء". ونظام يحمل وعودا ديمقراطيّة -أو هو أحد شروطها- تمثّله "النهضة" رغم ما تعيشه من أزمة بنيوية، تتمثل في عجزها عن التحرر من الخطاب الشريعي (وليس من الصفة الإسلامية، إذ يمكن أن تكون إسلامية مضادّة للخطاب الشريعي، وهذا كلام لا يفهمه الاستئصاليون من الجهتين).

2- في مستوى المعارضة: توجد معارضتان إحداهما عضوية والأخرى وظيفيّة؛ والأخيرة تمثّلها الجبهة الشعبية. وتتحدّد الوظيفية والعضويّة هنا في الموقف من السيستم (المنظومة القديمة) سلبا وإيجابا.

ولا تحتاج وظيفيّة الجبهة إلى كثير أدلّة، إذ تكفي الإشارة إلى مشاركتها الفاعلة في اعتصام الرحيل وجبهة الإنقاذ -بقيادة الباجي قائد السبسي– لضرب مسار التأسيس في بدايته، وقطع الطريق في الانتخابات الرئاسية بالتصويت لفائدة السبسي، والتحريض على مرشح الثورة المنصف المرزوقي.

والوظيفيّة في الجبهة حالة تمتدّ إلى مرحلة الاستبداد بتحالف مكونات رئيسية فيها مع بن علي، وقد كان لتعبيرات مهمّة من اليسار الثقافي والسياسي دور فعّال في تثبيت نظام بن علي واستمراره، كما كانوا حلقة وصل -بعد الثورة- مع القديم لمساعدته على الإفلات من واجب المحاسبة إلى واقع المنافسة، بعد أن مكّن اليسارُ الأزلامَ من الحصول على صفة معارضين في اعتصام باردو.

أما المعارضة العضويّة فكانت نواتُها الصلبة حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، الذي أسّس "للمقاومة السياسيّة" بديلا عن "المعارضة السياسيّة" في مرحلة الاستبداد. وبعد الثورة، كانت المحاولات في صلب المعارضة متوتّرة بين لحظتين:

ـ لحظة "ديمقراطيّة اجتماعيّة" (الحزب الجمهوري وحزب التكتّل) هي امتداد للتيار الحقوقي المطالب بالحريات منذ السبعينيات، والذي لم يخرج -بعد الثورة- عن "المعارضة الاجتماعيّة".

 ـ لحظة "مواطنيّة اجتماعيّة" (حزب الحراك وهو امتداد لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية) ما زالت في حال كمون، وقد طرحت على نفسها -بالاعتماد على شخصية المؤسس- تطوير "المقاومة السياسيّة" إلى "مقاومة اجتماعيّة"، وهو ما كان يسمّى في أدبيّات الحراك تيار النضال الاجتماعي. ولا تزال هذه التجربة متوترة بين اللحظتين.

ويبدو أنّ ما عرفه حزب الحراك في الأشهر الماضية وما يدور في محيطه يجذبه أكثر إلى "الديمقراطية الاجتماعيّة"، وهي منزلة وسطى بين الوظيفية والعضويّة.

تحولات المشهد السياسي العميقة
السؤال الملحّ هو ما هي السيناريوهات الممكنة في هذا المشهد السياسي التونسي المزدوج على مستوى الحكم ومستوى المعارضة. كان هناك احتمالان لا ثالث لهما:

الازدواجيّة في الحكم وفي المعارضة جعلت التصويب (أي الرمي) والغايات السياسيّة مختلفة: فحين تصوّب المعارضة الوظيفيّة سهامها إلى منظومة الحكم -المتكونة من النهضة والنداء أساسا- فإنّها تستهدف النهضة بالدرجة الأولى. أما إذا صوّبت المعارضة العضويّة سهامها نحو منظومة الحكم فإنها تستهدف النداء أساسا

– احتواء النهضة للنداء وإعادة ترتيبها العلاقة مع السيستم؛ فتصبح النهضة هي النظام، واستيعاب المعارضة الوظيفية من قبل المعارضة العضوية، والتفرّغ لمصارعة النظام الجديد (نواته النهضة) وأساسه الديمقراطيّة التمثيليّة. ويكون دور المعارضة تطويرها إلى ديمقراطيّة تشاركيّة (صراع على أرضية الدستور والحكم المحلي).

– احتواء النداء -ومن ورائه السيستم- للنهضة، واحتواء المعارضة الوظيفيّة للمعارضة العضويّة وجرّها إلى أجندتها الخاصة. 

الازدواجيّة في الحكم وفي المعارضة جعلت التصويب (أي الرمي) والغايات السياسيّة مختلفة: فحين تصوّب المعارضة الوظيفيّة سهامها إلى منظومة الحكم -المتكونة من النهضة والنداء أساسا- فإنّها تستهدف النهضة بالدرجة الأولى (التركيز في خطابها على نواب النهضة وخيانتهم بتصويتهم في البرلمان لفائدة قانون المصالح الإداريّة وغض الطرف إلى حدّ كبير عن النداء).

أما إذا صوّبت المعارضة العضويّة سهامها نحو منظومة الحكم فإنها تستهدف النداء أساسا (اشتباك نائب الحراك مع نائب النداء بالأيدي في المجلس)، وتمثّل السيّدة سامية عبو زعيمة المعارضة البرلمانية والصوت الأقوى والأكثر انتشارا، والنائبة عن حزب التيار المنشق عن حزب المؤتمر؛ حالة خاصة. والأخيرة هويتها "الاجتماعيّة المعارضة" المعلنة لم تنجح في كبت عمقها "الاجتماعي المقاوم" الموروث عن تجربتها في حزب المؤتمر. 

ولكن ما نشهده منذ شهور هو احتداد الأزمة بين النهضة باعتبارها أحد مكونات المنظومة الحاكمة والمعارضة العضويّة، وكانت شهادة المرزوقي على العصر من بين مظاهر هذه الأزمة، رغم ما صاحب الشهادة من فضح لأردأ رموز السيستم ومحاولات الانقلاب على العملية التأسيسية. وفي الاتجاه المعاكس؛ لم تدّخر النهضة جهدا في مهاجمة المعارضة العضوية وتتفيهها وتشويهها.

لقد كان قفز النهضة في أحضان النداء فرصة نادرة لكي يتوسع مكوّن المعارضة العضويّة، ويشرع في بناء التوازن السياسي الذي تحتاجه الديمقراطية وتفرضه حالة الفراغ، لأن اللقاء مع النهضة في الحكم أو في المعارضة سيجرّ المعارضة العضوية إلى معارك تتعلق بالهوية -وهي ليست طرفا فيها- مثلما حدث في مرحلة الترويكا، ويعمد السيستم وأذنابه إلى تفجير هذه المعارك كلما أحسّ بأنّ المشهد السياسي يتجه إلى توازنات عقلانية وديمقراطيّة قد تثبت.

التحاق النهضة بالنداء كان فرصة لبناء شيء صلب، ولكن الفرصة أُهدرت، ولم تكن البداية موفّقة في تأسيس الحراك رغم حسن النوايا.

تصدّر المعارضة الوظيفية للمشهد
بعد انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 التي رشّحت القوى المحسوبة على الثورة لقيادة مرحلة التأسيس الدستوري وبناء النظام السياسي الجديد؛ ساد اعتقاد بأنّ المعادلة الديمقراطيّة في الحكم والمعارضة ستكون من الجديد. ولكنّ تعثّر هذه المرحلة والخروج منها بالحوار الوطني إلى ما صار يعرف بمرحلة الانتقال الديمقراطي، جعل هذا الاعتقاد يهتزّ ليحلّ محلّه تقديرٌ يرى أنّ معادلة الديمقراطيّة ستكون مرحليّا بين القديم والجديد. 

ومع انتخابات 2014 وفوز حزب نداء تونس بها، اضطرب التقدير بين رأي يذهب إلى أنّ هذه العودة هي المقدّمة السياسية لطي صفحة الثورة، ورأي آخر يعتبر أن عودة القديم القويّة ستكون هي تعبيرَه السياسي الأخير قبل الاضمحلال النهائي، ما بقي سقف الحريات عاليا. وقد يجد هذا التقدير بعض المصداقيّة في انشقاقات الحزب الفائز وتشتت كتلته البرلمانيّة، وعجز منظومة الحكم عن مواجهة الأزمة المالية والاقتصاديّة المتفاقمة. 

الاتجاه العام في المشهد السياسي هو احتواء النداء للنهضة، والمقاومة الوظيفية للمقاومة العضويّة (تأثّر الحراك والتيار بأجندة الجبهة). فأصبح المشهد العام موجّها في المعارضة بمزاج الجبهة وفي الحكم بمزاج النداء. والنداء والجبهة غير منفصلين عن السيستم رغم تباين علاقتهما به

واليوم، فإنّ الاتجاه العام في المشهد السياسي هو احتواء النداء للنهضة، والمقاومة الوظيفية للمقاومة العضويّة (تأثّر الحراك والتيار بأجندة الجبهة). فأصبح المشهد العام موجّها في المعارضة بمزاج الجبهة وفي الحكم بمزاج النداء. والنداء والجبهة غير منفصلين عن السيستم رغم تباين علاقتهما به. وهو ما يجعل المشهد العام يميل يمينا بلقاء "اليمين الماركسي" و"اليسار التجمعي" اللذين يجتمعان على اعتبار النهضة والمرزوقي عدوا.

ويأتي احتواء النهضة وتواصل خسارتها الأخلاقيّة والسياسيّة الفادحة في سياق مرحلة متقدمة من تصفية الإسلام السياسي بتونس، وتلك رغبة عامة لدى أوروبا ودول خليجية متصهينة ودونالد ترمب وجماعته.

وهذا الوضع سيجعل المعارضة العضويّة عنوانا صغيرا في معركة الكبار، وهو ما يستدعي تأسيسا جديدا لها بأفق مواطني اجتماعي غير متردد، ومجاوز لهويات الانتظام الحزبي الفاشلة، ومنتبها إلى أن "السياسي" يبحث له حثيثا عن مجال غير تقليدي وانتظام أفقي فاعل.

هذا المزاج العام الذي تميل فيه الكفة للنداء في الحكم والجبهة في المعارضة؛ إنّما هو من فعل السيستم واشتغاله على متغيرات المشهد جميعا، ويُخشى -في ظل هذا المزاج العام- من جرف بعض التعبيرات الشبابية الواعية (مثل "مانيش مسامح") إلى "المربع الوظيفي" من بوّابة الأيديولوجيا وعناوينها الغلاّبة.

السيستم ينجح -إلى حدّ الآن- في إعادة إنتاج المشهد السياسي بالكيفيّة التي تؤبّد المصالح القديمة الجديدة، وتجعل البلاد متوترة بين أفقين: ديمقراطيّة فاسدة ودكتاتورية جائرة.

والخلاصة الأشدّ تكثيفا هي أنّ يسار الدولة -في تجربة ما بعد الثورة- لا يختلف عن يمينها، بل هما اليوم يؤسسان لهذا اليمين الهجين، ويبقى "يسار التاريخ" إمكانا ووعدا في "سرديّة الكرامة" الماضية والمصرّة على صياغة نصها رغم العثرات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.