ستيف بانون.. من أين جاء للصفقة مع الشيطان؟

WASHINGTON, DC - JUNE 01: Senior Counselor to the President Steve Bannon walks into the Rose Garden before President Donald Trump announces his decision to pull out of the Paris climate agreement at the White House June 1, 2017 in Washington, DC. Trump pledged on the campaign trail to withdraw from the accord, which former President Barack Obama and the leaders of 194 other countries signed in 2015 to deal with greenhouse gas emissions mitigation, adaptation and finance so to limit global warming to a manageable level. (Photo by Chip Somodevilla/Getty Images)

الأندلس الفردوس المستعاد
هروب من الغرب وإليه
الرئيس كارتر الواهن الخذول 

حتى بين الكتب تجد الكتاب السعيد. ومن الكتب السعيدة ما صدر منذ أسابيع وعنوانه: "صفقة الشيطان: ستيف بانون، ودونالد ترمب، واجتياح البيت الأبيض" للصحفي جوشا غرين. فبعد صدوره بشهر (تحديداً في 18 يوليو/تموز المنصرم) كان بانون -وهو نجمُ الكتاب وأخص مستشاري الرئيس ترمب- قد استعفى من الخدمة في البيت الأبيض. وصار الكتاب مضغة في فم محللي الأخبار وضيوف الوسائط الإعلامية.

ورغبتُ -ما دام الكتاب عرضاً لسيرة بانون- أن أعرف منه منبع موجدته الكبرى على المسلمين التي تجلت في قرارات الرئيس ترمب، فحظرت دخول المسلمين من أقطار بعينها إلى أميركا. وهي القرارات التي أثارت الثائرة المعروفة وكشف عورتَها القضاءُ الأميركي على مستوياته المختلفة.

وقفتُ من الكتاب عند ثلاث محطات في حياة بانون تقاطع فيها مع الإسلام والمسلمين، فاستشعر خطرهم على الغرب، حتى انتهز سانحة وجوده في مركز القرار التنفيذي ليستأصل شأفة هجراتهم الهادمة لأميركا.

كانت المحطة الأولى هي ما تلقاه في كليته الكاثوليكية الرومانية من معارف عن بأس الغرب ومكر المسلمين. وكانت المحطة الثانية هي تعلقه بأفكار الفيلسوف الفرنسي المسلم فريني غِيون. أما المحطة الثالثة فانطباعات ترويع مشاهد إسلامية له خلال عمله ضابطاً بالبحرية الأميركية في أعالي البحار الآسيوية.

الأندلس الفردوس المستعاد
يثير تعليم بانون في مدرسته الكاثوليكية (أو المدنية لا فرق) سؤالاً غائباً في علاقتنا بالغرب. فبقدر ما سألوا عن تعليم أولاد المسلمين الذي يحرضهم -في زعمهم- على كراهية الغرب، لم نسأل نحن بصورة منهجية عن تعليم أولاد المسيحيين الذي يحرضهم علينا كما تجسد في شرور بانون.

جاء في الكتاب أن ستيف بانون من أسرة كاثوليكية رومانية محافظة في ولاية فرجينيا، وبلغت من محافظتها أنها لم تقبل بتعديلات مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) للطقوس التعبدية الكاثوليكية، لما بدا لها من "نذر" الليبراليةفيها. واضطرت الأسرة للتحول إلى كنيسة لم تلتزم بالفاتيكان الثاني.

كانت المحطة الأولى من التي محطات التي تقاطع فيها بانون مع الإسلام والمسلمين، هي ما تلقاه في كليته الكاثوليكية الرومانية من معارف عن بأس الغرب ومكر المسلمين. وكانت المحطة الثانية هي تعلقه بأفكار الفيلسوف الفرنسي المسلم فريني غِيون. أما المحطة الثالثة فانطباعات ترويع مشاهد إسلامية له خلال عمله ضابطاً بالبحرية الأميركية في أعالي البحار الآسيوية

ودخل ستيف مع أخويْه الاثنين كلية البندكتاين (المسماة على القديس بنديكت الذي عاش في القرنين الخامس والسادس الميلاديين) في مدينة رتشموند بفرجينا. وهي مدرسة حربية خاصة بالكاثوليك الرومان. ودرس ستيف فيها مقرر الحضارة الغربية من منظور كاثوليكي، وفيه يجري التشديد على أن هزيمة المسلمين في الأندلس عام 1492 هي التي أنقذت الحضارة الغربية. فلو لم ينهزموا لاستولوا على أوروبا.

فكان درس الأندلس العميق لبانون أن تحذر عدوك بعد معرفة دقيقة بهويته. ومن رأي غرين أن بانون المستشار بالبيت الأبيض هو امتداد غير خاف لبانون الفتى بكلية البندكتاين، لم يتغير منه سوى صيرورته -وبيده مفتاح الأمر- أكثر شراسة.

ربما لم نعر اهتماما في بكائنا على "الفردوس المفقود" لفرح الغرب بالفردوس المستعاد؛ فلم تبرح حادثةُ إنهاء الوجود لإسلامي ذاكرةَ أوروبا المسيحية، فوظفوها في بيداغوجيا (نظرية وممارسة التدريس) التنصير. وجسّدوها في مسرحية "المغاربة (المور) والمسيحيون" التي تروي قصة المعركة التي دارت بين المسيحيين المسلمين، وانتصر المسيحيون فيها في خاتمة المطاف.

ففي القصة يرسل سلطان المسلمين "محما" (وواضح أنه نطقٌ ما لاسم النبي محمد صلوات الله عليه وسلامه) ليسرق الصليب من المسيحيين. ويقترب "محما" من حارس القلعة المسيحية، ويعرض عليه رغبته في أن يصبح مسيحياً، ويغريه بالشراب فالسكر، ويَنْفذ بهذه الحيلة إلى موضع الصليب فيسرقه.

وكان غرضه مع ذلك أن ينال فدية كبيرة من المسيحيين لاستعادة صليبهم. ورفض الملك المسيحي المساومة، وحارب المسلمين حتى هزمهم واستعاد الصليب غِلاباً. وقد نقل الإسبان قصة "المغاربة والمسيحيون" معهم لدى غزوهم أميركا اللاتينية، وجرى تمثيلها أمام الهنود الحمر لترويعهم من المكابرة دون الدخول في المسيحية أفواجا.

قَلّ -وذاكرةُ هزيمة المسلمين بأيدي المسيحيين في إسبانيا كما نرى- أن نظرنا لعام 1492 بغير منظار نكبة الأندلس: وآ أندلساه، مع أنه عام منعطف للتاريخ الأوروبي لم نكن نحن ضحاياه في الماضي فحسب، بل ولا نزال.

وأميز من توقف عند المركزية التاريخية لذلك العام هو محمود محمداني، عالم السياسة الأفريقي الهندي المسلم. فقال إن 1492 كان بدء انطلاق النهضة الأوروبية وميلاد الحداثة السياسية، واتصل الحدثان في رأيه بمشروعين: أولهما توحيد الدولة-الأمة على الصفاء الثقافي والعرقي، وثانيهما هو الإمبريالية الأوروبية وغزو العالم.

فقامت دولة إسبانيا القومية بفرمان فرديناند وإيزابيلا الذي قضى بطرد اليهود، حتى من تحولوا منهم إلى المسيحية (70 ألف) للريبة في خلوص دينهم الجديد، وأعملوا فيهم حدّ محاكم التفتيش. ثم جاء دور المسلمين في 1499 فخُيّروا بين التنصير ومبارحة البلاد.

وهكذا كان غير الأوروبيين ضحية مزدوجة لأوروبا: خضعوا للتطهير العرقي الثقافي لتَخلص الأمة الأوروبية صافية من كدر الآخر. وهم كذلك من طالتهم يد الإمبريالية تريد أن ترقى بهم مراقي الحضارة حتف أنفهم. وبانون هو ابن كل هذا التاريخ المشترك برموزه الشائكة، أو هو بالأحرى ابن الضفة الأخرى منه.

هروب من الغرب وإليه
أما المحطة الثانية في احتكاك بانون بالإسلام فهي من جهة تأثره بريني غِنون (1886-1951)، وهو فيلسوف فرنسي مجاله علوم الماورائيات. واستغرب كل من قرأ كتاب غرين عن بانون هذه العلاقة التي لا تخطر لأول وهلة على بال. فغنون تحول من الكاثوليكية إلى الإسلام في مجاهدة روحية تنقل فيها بين بِيَع كاثوليكية مختلفة لم تشف غليله الروحي.

كان غير الأوروبيين ضحية مزدوجة لأوروبا بعد سقوط الأندلس؛ فقد خضعوا للتطهير العرقي الثقافي لتَخلص الأمة الأوروبية صافية من كدر الآخر. وهم كذلك من طالتهم يد الإمبريالية تريد أن ترقى بهم مراقي الحضارة حتف أنفهم. وبانون هو ابن كل هذا التاريخ المشترك برموزه الشائكة

وكاد يعتنق الهندوسية غير أنه تحول إلى الإسلام الصوفي في 1910 سأماً من المادية الغربية، وتسمى بـ"عبد الواحد يحيى". وأسلم في القاهرة على يد الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير المالكي، وعاش فيها من 1930 إلى وفاته في 1951، زاهداً في المال منصرفاً إلى كتابة تآليف عديدة.

ثم تصوّف على يد الشيخ السيد سلامة بن حسن الرضي الشاذلي مؤسس الطريقة الحامدية الشاذلية، وتزوج من بنت الشيخ محمد إبراهيم وله منها ذرية. ومنحوه الجنسية المصرية عام 1949، ومات في مصر.

ومتى عرفنا فكرة غينون عن عالمه آنذاك فلربما عرفنا كيف جعله بانون من بين آبائه الفكريين؛ فقد نعى غينون على الغرب انقطاعه عن تقليده الثقافي. وهو نعي وافق ميل بانون ومزاجه. وافترق الشيخ ومريده في واحدة: فالبادي أن الشيخ يئس من عودة الغرب إلى تقليده فارتحل إلى الإسلام، أما بانون فساقه يأسه من غربه إلى عداوة الإسلام كالخطر الماثل أمام الحضارة الغربية.

فقد طبق غينون علوم الماورائيات في تحايل أزمة العالم الحديث، وخَلص إلى أن مجتمعه الحداثي هو عالم الظلام السابق لنهاية عالمنا. فحضارته نشاز لأنها -دون غيرها- قامت على أسس مادية محضة، بينما تراجع فيها الفكر. وقال إن عزتها بنفسها عزة بالإثم لأنها في نظر غير أهلها بربرية صريحة. وأصلى غينون "انحراف" الغرب عن تقليده الثقافي نارا، وتطلع ليوم يتنادى فيه مثقفو الغرب -في ظروف ملائمة- لاسترداد الجذور الثقافية للغرب.

الرئيس كارتر الواهن الخذول
كان تقاطع بانون الثالث مع المسلمين خلال خدمته العسكرية في البحرية الأميركية نهايةَ السبعينيات؛ فقد غبنه تهافت الهجمة الأميركية على إيران في 1980 لاستنقاذ الرهائن الأميركيين الذين حصرهم الحرس الثوري الإيراني في سفارة بلادهم. فاضطربت أطراف الغزوة خلال التنفيذ اضطراباً استدعى الرئيس كارتر لفضها بعد أن خسر الأميركيون ثمانية جنود.

كان بانون وقتها على بارجة حربية أميركية حين تلقى الخبر، ورأى في الرئيس كارتر وهناً قيادياً تخلى به بانون عن ميله الواهن إلى الحزب الديمقراطي. وطبعت فيه الغزوة الفاشلة لزوم أن يفيق لحقائق العالم الخطر الذي يعيش فيه مثله، وهو الخطر الذي تمثل عنده لاحقاً في وجوب الحرب الكوكبية ضد الفاشية الإسلامية حتى مع وجود الخطر السوفياتي. وهذه عنده من العزائم الكبرى، والسبيل إليها القولُ الصريح بلا مواربة، وعدم تهيب المواجهة.

وجدت موجدةُ بانون على الإسلام والمسلمين تجسيدَها الدرامي الفوتغرافي حين دخل سوق المال والأعمال، ومنها عالم هوليوود للسينما، وعمل فيها منتجاً ثم تسلل للتأليف والإخراج بعدد من الوثائقيات أشهرها "في وجه الشر" (2004). وكأن بانون بهذا الفيلم يستنفر أميركا لتخوض حرباً لا هوادة فيها ضد الإسلام

وزعم بانون أن وحشية خطر المسلمين ودنوّه من الغرب تجسّدا له بعد زيارة لكراتشي وإطلالة على إيران خلال خدمته في البحرية. وتركته التجربتان مروعاً من الكثافة الإسلامية التي رآها ونُذُر الشر في بيدائها. وحققت مجلة "إنترسبت" الإلكترونية في رواية بانون عن دخوله ميناء كراتشي ببارجته وإطلالته على إيران من عرض البحر. وانتهت من النظر إلى مانفستو البارجة إلى أنها لم تزر كراتشي وبانون فيها. وقالت إنه في أغلب الظن دخل هونغ كونغ التي من المعلوم أن بارجته غشتها.

ودليل "إنترسبت" على ترجيحها هو قول بانون إنه دخل في معاملة ما مع بعض الشباب الإنجليز في كراتشي، وهم من يتوقع المرء وجودهم في هونغ كونغ التي كانت تحت سلطان الإنجليز، لا كراتشي.  كما كذبت "إنترسبت" قول بانون إنه رأى من بارجته إيران في كامل حلل بدائيتها ورعبها الأولي، وقالت المجلة إنه لم يكن بوسعه أن يرى من بارجته أي جزء من إيران.

وختمت "إنترسبت" نقد مزاعم بانون بكلمة لا غَـناء لنا عنها، فقالت إن عداء بانون للمسلمين لم يأت من إرعاب المسلمين له، ولا بدائية صحاريهم، بل إنه ربما تولّد من جيب غاية في الإظلام بموضع ما من نفسه الثقافية.

ووجدت موجدةُ بانون على الإسلام والمسلمين تجسيدَها الدرامي الفوتغرافي حين دخل سوق المال والأعمال، ومنها عالم هوليوود للسينما، وعمل فيها منتجاً ثم تسلل للتأليف والإخراج بعدد من الوثائقيات أشهرها "في وجه الشر" (2004). وهو فيلم عن الرئيس ريغان وعزائمه التي قضت على الاتحاد السوفياتي. وكأن بانون بهذا الفيلم يستنفر أميركا لتحذو حذو ريغان فتخوض حرباً لا هوادة فيها ضد الإسلام.

والتقى في سُوح هوليوود ودوائرها اليمينية بمدون هو أندرو برتبارت، وتحابّا في حرب الفاشية الإسلامية. فلما مات عنه برتبارت؛ صار بانون رئيس تحرير المدونة التي اتخذها منبراً لترويج الخطر الذي يحدق بأوروبا وأميركا من جراء الهجرات المتلاحقة للسلمين، وهي عنده نذر منبئة بتحلل الغرب، وبدء عصر للظلام جديد في أوروبا على سنة غينون.

بدا لي دائماً قصور فكرنا عن رفع الغطاء عن الجيوب المظلمة في أمثال بانون الذين خرجوا من ثناياها للنيل منا، وبلغنا من ذلك أن حظر علينا دانيال بايب -الأكاديمي من أصل يهودي- حتى الخوض في ذلك. فقال مرة لما أزعجته كتابات بعض الأكاديميين المنصفة عن الإرهاب الموصوف بـ"الإسلامي"، إن الأكاديميين لا يحسنون تعريف الإرهاب مثل إحسان الإرهابيين له. ولا أعرف أننا جنينا -أو جنى الغرب- أي مكرمة من "احتكار" الإرهابيين لتعريف الإرهاب.. وممارسته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.