حكومة العثماني.. ضغط النظام وإكراهات المنظومة

عين العاهل المغربي الملك محمد السادس، مساء اليوم الأربعاء، حكومة جديدة برئاسة سعد الدين العثماني، بعدما تعذر تشكيلها من قبل عبد الإله بنكيران (رئيس حزب العدالة والتنمية) لمدة فاقت 5 أشهر

 -1-

بعد أكثر من نصف سنة من الانتظار كان خيطها الناظم مفاوضات وما هي بالمفاوضات، ترتيبات وما هي بالترتيبات، حسابات وما هي بالحسابات حقا، بعد كل هذه المدة؛ تمت المناداة على الدكتور سعد الدين العثماني لتكليفه بتشكيل الحكومة المغربية لما بعد استحقاقات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016.

لم يقدم رئيس الحكومة المكلف في حينه عبد الإله بنكيران استقالته بعد عسر في الولادة طال. ولم يعمد الملك إلى إقالته لأنه لم يكن رئيس حكومة معتمدا. ولم يعمد لا هذا ولا ذاك إلى ترك الكلمة الفصل في الأزمة للناخب.

لقد تم استبعاده بالجملة والتفصيل بعدما تبين أن كل محاولاته "باءت بالفشل"، ولم يسعفه لا تمرسه السياسي ولا ترؤسه للحزب الفائز في الانتخابات، في "جمع" الأغلبية التي من شأنها تزكية برنامجه في البرلمان، ومن ثمة منحه الثقة الضرورية لمباشرة التنفيذ الفعلي على الأرض.

انبرى سعد الدين العثماني -مباشرة بعد تكليفه بالمهمة- لاستشارة كل الأحزاب والتكتلات الموجودة، ولم يستبعد من مشاوراته لا أهل اليسار ولا أهل اليمين ولا أهل الوسط، فاستطاع في المدة الزمنية المتاحة له، أن يقدم تشكيلته الحكومية للملك بغرض تعيينها وأداء القسم الدستوري

لقد استبعدنا منذ البدء فرضية العودة إلى صناديق الاقتراع من جديد لتكلفتها المادية والسياسية المؤكدة، لكننا لم نكن نتصور -في الآن ذاته- أن يتم استبعاد بنكيران من العملية برمتها، ولا أن تتم المناداة على العثماني (رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، برلمان الحزب) لتشكيل الحكومة، ولا أن يرضى الحزب -في فرضية أخرى- بـ"التفريط" في الاشتراطات التي رفعها أمينه العام في وجه بعض الأحزاب، وكان في رفع منسوب سقفها "مقتله" المفاجئ وغير المتوقع.

بيد أن الذي جرى فعليا هو أن الحزب "الفائز" في الانتخابات لم يُبدِ أدنى تمنع جراء استبعاد قائده و"سر اكتساحه للمشهد السياسي"، لا بل ولم يعبر عن أية ردة فعل "خشنة أو غير محسوبة"، كأن يعتذر عن تشكيل الحكومة مثلا، وينتقل صوب مقاعد المعارضة، ويترك بالتالي لرئيس الدولة سلطة التقدير والتقرير.

لقد انبرى سعد الدين العثماني -مباشرة بعد تكليفه بالمهمة- لاستشارة كل الأحزاب والتكتلات الموجودة، ولم يستبعد من مشاوراته لا أهل اليسار ولا أهل اليمين ولا أهل الوسط، فاستطاع في المدة الزمنية المتاحة له، أن يقدم تشكيلته الحكومية للملك بغرض تعيينها وأداء القسم الدستوري، لتنتقل يوم الأربعاء 19 أبريل/نيسان الجاري إلى البرلمان لعرض برنامجها، ثم لكسب الثقة والتزكية والتفويض.

هذا في السياق. أما من زاوية المخرجات، فإن مواصفات التشكيلة الحكومية تبدو كما لو أنها لا تعكس بالمرة ما أفرزته الخريطة الانتخابية من نتائج وتحالفات. لا بل قل إن كل الذي كان يتمنع بنكيران في تقديمه لغرمائه قدمه لهم العثماني وعلى طبق من ذهب، وفضلا عن ذلك فإن:

– الحزب الذي ناهض بنكيران بقوة دخوله للحكومة (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) دخلها، لا بل "منحه" العثماني ثلاثة مناصب في الحكومة، حتى وإن لم تكن مناصب من العيار الثقيل، ولا كان حاملوها من الوجوه السياسية الوازنة في الحزب، فما بالك بالمشهد السياسي المغربي العام.

– "الحزب الحاكم" (أعني الفائز بالعدد الأكبر من المقاعد و"القائد" للحكومة) لم يحصل من الوزارات إلا على ما يمكن تسميته بـ"بقايا وزارات"، لكونها "ثانوية وهامشية" وذات صلاحيات محدودة، ولا يتعدى نصيبها مجتمعة 10 إلى 15% من الميزانية العامة للدولة.

صحيح أنه قد بات للحزب عشر وزارات، لكن حصتها مجتمعة -عند اقتسام ما سيقرره قانون المالية (13 مليار درهم مغربي هو أقصى ما سيعود لها = حوالي 1.3 مليار دولار أميركي)- لن تسعفها إلا في تمويل التكاليف التدبيرية الجارية، فيما لا ميزانية لديها معتبرة تجعلها تساهم في الاستثمار أو في الاقتصاد أو في القطاعات الإستراتيجية الكبرى. إنها وزارات أفقية أنشئت ربما بغرض إرضاء الحزب والقول بأن له "حصة الأسد" من المرافق الوزارية.

الصيغة التي خرجت بها الحكومة إلى العلن توحي بأنها أقرب إلى حكومة "الوحدة الوطنية" (باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي اختار صف المعارضة منذ اليوم الأول)، منها إلى حكومة عادية تنبثق وتتشكل تبعا لما تفرزه صناديق الاقتراع

– بيد أن الجزء الأكبر والأهم من "كعكة الوزارات" قد عاد لحزب التجمع الوطني للأحرار، الذي لم يحصل في الانتخابات الأخيرة إلا على أقل من ثلث ما حصل عليه "الحزب الحاكم".

فقد حاز حزب التجمع وزارة الاقتصاد والمالية، ثم وزارة التجارة والصناعة والاستثمار، ثم وزارة الفلاحة والصيد البحري، ثم وزارة الشباب، أي ما يعادل حوالي ثلثيْ الميزانية العامة للدولة.

وأصبح للحزب -الذي سيدبر أكثر من 55 مليار درهم (أي نحو 5.5 مليارات دولار)- القول الفصل في مستقبل القطاعات الإستراتيجية الكبرى، وأصبح لوزرائه الكلمة الفصل أيضا في توجيه السياسات العمومية للبلد برمته.

-2-

ليس من المبالغة القول -والحالة هذه- إن حزب رئيس الحكومة قد "رضخ" جملة وتفصيلا للاشتراطات التي تمنّع بنكيران في القبول بها، لا بل راهن بثقل مستقبله السياسي إن هي فُرضت عليه قسرا..، فخسر الرهان من حيث لم يحتسب.

ويبدو أيضا أن الصيغة التي خرجت بها الحكومة إلى العلن توحي بأنها أقرب إلى حكومة "الوحدة الوطنية" (باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة الذي اختار صف المعارضة منذ اليوم الأول)، منها إلى حكومة عادية تنبثق وتتشكل تبعا لما تفرزه صناديق الاقتراع.

لقد أضحينا بعيدين جدا عن الزخم الذي واكب تشكيل "حكومة حزب العدالة والتنمية" الأولى التي ترتبت عن الحراك الشعبي الذي سبق التعديل الدستوري لصيف 2011. لا بل قل إن البعض يعتبر أننا قد عدنا حقا وحقيقة إلى ممارسات ما قبل دستور 2011، حين كانت الحكومات تتشكل دون مراعاة لمبادئ الدستور، ولا بالاحتكام إلى وزن كل حزب في المؤسسة التشريعية.

صحيح -يقول البعض- أن مرجعية الدستور قد احترمت، وأن الملك قد عين رئيس حكومة من الحزب الفائز (والدستور لا يلزمه بتعيين رئيس أو أمين عام هذا الحزب). وصحيح أيضا -يقول بعض آخر- أن رئيس الحكومة المكلف قد مارس صلاحياته بمفاتحته لكل الأحزاب، وإبداء المرونة الضرورية لإشراك أكبر عدد ممكن منها.

بيد أن الذي لا يقل عن كل ذلك صحة وصوابا، هو حقيقة أن التشكيلة الحكومية التي خرجت لا تعكس بالمرة الخريطة السياسية المتوافرة على الأرض. إذ يعتقد العديد منا أن من الإجحاف حقا ألا يُمنح رئيس الحكومة كامل الحرية في اختيار الفريق الذي سيعمل إلى جانبه، لترجمة وعوده وتصريفها على مستوى المشاريع والمبادرات.

-3-

هذا في جانب المخرجات. أما من زاوية الأسباب والمسببات، فيبدو أن ثمة العديد من التفسيرات التي قُدمت أو تم ترويجها؛ البعض منها قد يعتد بطروحاته، فيما يبقى الكثير منها متحمسا في طرحه، أو غير مدرك بما فيه الكفاية لطبيعة التوازنات السياسية في المغرب.

ويبدو لنا أنه بالإمكان التوقف -ولو بعجالة- عند ثلاثة من أهم التفسيرات المقدمة:

– التفسير الأول -وهو الرائج بقوة- يكمن في القول بعدم رضا الجهات العليا (والملك على وجه التحديد) عن الطريقة التي أدار بها بنكيران عملية التفاوض لتشكيل الحكومة. ويقول أصحاب هذا التفسير أن مواقف الرجل كانت "متصلبة" لدرجة تعذرت معها سبل النقاش والتفاوض التي تستوجب المرونة والقابلية المتبادلة للتنازل.

ليس من وارد احتمالات الأحزاب ولا الدولة أن تترك حزبا يتوسع حتى يتجبر ويتغول، ويبدأ في فرض اشتراطاته ومفاصل أجندته. الدولة هنا تسلك سلوك التشريعات الأميركية التي تعمد كلما تغول فاعل في السوق إلى تقويضه وتقزيمه، نزولا عند أحكام المنافسة وطقوس الليبرالية التي يستوجبها السوق

لقد اعتد بنكيران -إلى درجة "الغرور" ربما، يقول أصحاب هذا الرأي- بعدد مقاعده في البرلمان، وبات "مترفعا" للغاية إلى درجة دفعت الأحزاب المحتمل تحالفه معها للتبرم منه والمناورة من أجل تجاوز اشتراطاته.

وهو تفسير لا يخلو من صواب، إذ لم يكن اعتكاف بنكيران في منزله واضطرار زعماء الأحزاب السياسية لزيارته عند كل مستجد، أمرا مستساغا ولا محبذا من لدن العديدين.

ثم إن "تقزيمه المتعمد" لغرمائه السياسيين، وإبداء التبرم من البعض الآخر، جعله يقف وحيدا في جهة، وجعل كل "أعدائه القدامى والجدد" في الجهة الأخرى. وهي أمور قد تبدو جانبية وثانوية، لكنها جوهرية من زاوية تقنيات التفاوض.

– التفسير الثاني يذهب إلى أن استبعاد بنكيران وتعويضه برجل هادئ ومهادن و"طيع"، من شأنه ليس فقط استمالته بسهولة واستبعاد سبل الاصطدام معه، بل أيضا اتخاذه مطية لتمرير رسالة مفادها أنه إذا كان للحزب "الفائز" حساباته، فللأحزاب الأخرى -ناهيك عن الدولة- حساباتها هي الأخرى.

فليس من وارد احتمالات الأحزاب ولا الدولة، أن تترك حزبا يتوسع حتى يتجبر ويتغول، ويبدأ في فرض اشتراطاته ومفاصل أجندته. الدولة هنا تسلك سلوك التشريعات الأميركية التي تعمد كلما تغول فاعل في السوق إلى تقويضه وتقزيمه، نزولا عند أحكام المنافسة وطقوس الليبرالية التي يستوجبها السوق.

وهو تفسير لا يخلو من صواب أيضا، لا سيما أن بنكيران ذاته بدأ "يدعي" شرعية شعبية لا يمنحها الدستور مبدئيا إلا للملك، وللملك حصريا، بحكم وزنه ومكانته في العمران السياسي المغربي العام.

– أما التفسير الثالث فيكمن في الاعتقاد بأن الدولة باتت تراهن على الأحزاب التي تتوافر على الخبرات وتكتنز الكفاءات.

والكل هنا -بمن فيهم حزب العدالة والتنمية نفسه- لا يختلفون في "حقيقة" أن حزب العدالة والتنمية لا يتوافر على الأطر والكفاءات التي من شأنها مواكبة المشاريع الاقتصادية والاستثمارية التي يباشرها الملك في الداخل، أو يراهن عليها في أفريقيا وغيرها. ولعل مواصفات وزراء القطاعات الإستراتيجية الكبرى تؤكد هذا الاعتقاد وتزكيه.

هي كلها تفسيرات واجتهادات تضمر بعضا من جوانب الصواب، وبعضا من عناصر المبالغة أو المزايدة أو الغلو في استقراء المعطيات أيضا.

بيد أن المؤكد حقا -فيما نتصوره- هو أنه لا بنكيران ولا الأمانة العامة لحزبه قد استحضرا كل عناصر المشهد. لقد تصورا معا أن المفاتيح باتت بين أيديهما دون سواهما من الفاعلين أحزابا ودولة. في حين أن المفتاح الأقوى هو الذي يستطيع استحضار هؤلاء لأنهم هم النظام وهم المنظومة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.