العودة إلى اتفاق الصخيرات.. تغير أم استمرارية؟

اتفاق الصخيرات الذي وقعه مشاركون بالحوار الليبي، السبت 11 يوليو/تموز 2015

حملت لهجة الحديث عن اتفاق الصخيرات هذه المرة اختلافات عن اللهجة التي كان يجري بها حديث الأطراف التي شاركت في صياغته، ولا شك في أن هذا التغير لم يكن مجرد قفزة مفاجئة قام بها طرف فجاراه الطرف الآخر، بل كان -على ما يبدو- محصلة جملة من العوامل والتغيرات.

فالقرار الذي اتخذه عدد من النواب تحت قبة البرلمان بالعودة إلى الحوار كان كاشفا وليس منشئا، فقد انفرجت الستارة بعد هذا القرار عن مشهد بدا في ظاهره شبيها بالفصل السابق ولكن لغة الحوار فيها شيء من الاختلاف، مما يوحي بأن ذلك قد يقود إلى نهاية تختلف عن نهايات الفصول السابقة.

يبدو أن هذا التغير -مهما كان حجمه وحقيقته- كان خلفه متغير داخلي وعامل خارجي، كل منهما لعب دورا بحجم ما يمثله من ضغوط على واقع الأطراف المتصارعة. ولعل من الأفضل أن نحاول تبين أثر وحجم كل منهما على ما بدا أنه تغير في لغة ومواقف هذه الأطراف:

أولا، المتغير الداخلي: ليس هناك من شك في أولوية وأهمية المتغير الداخلي في أي صراع، فلا يمكن لأي طرف في صراع سياسي أن يكسب أو يفرض رؤيته ما لم يستطع إحداث تغيير في البيئة الداخلية، يؤدي إلى نشوء وقائع وحقائق يمكن أن يوظفها لمصلحته.

ساهمت الأحداث التي جرت منذ انتفاضة فبراير/شباط 2011 في إضعاف الاقتصاد الليبي الذي يعتمد على مصدر واحد هو النفط، ولذا فإن إغلاق مليشيا إبراهيم الجضران موانئ النفط ومنع تصديره ما يقارب عامين، كان ضربة قاصمة لهذا الاقتصاد الأحادي المصدر

بل إن العامل الخارجي -مهما بلغت قوته وجبروته- لا يكون فعالا ما لم يوظّف قوته لتكييف البيئة الداخلية، لتنتج وقائع سياسية اقتصادية وثقافية واجتماعية تستجيب لمصالحه، وتسوق الأحداث إلى الوجهة التي يريدها.

ولهذا فإن المتغير الداخلي في مشهد الصراع الليبي لا يمكن تجاهله، بل هو الحاسم باعتبار أن المتغير الخارجي لا يكون فعالا ما لم يؤثر في أطراف الصراع والبيئة التي يتصارعون داخلها.

تمثل المتغير الداخلي في البعد الاقتصادي لهذا الصراع المتأثر قطعا بمتغيرات أخرى، وسنكتفي به لأنه ذو أثر حاسم على بقية المتغيرات الأخرى.

لقد ساهمت الأحداث التي جرت منذ انتفاضة فبراير/شباط 2011 في إضعاف الاقتصاد الليبي الذي يعتمد على مصدر واحد هو النفط، ولذا فإن إغلاق مليشيا إبراهيم الجضران موانئ النفط الليبي ومنع تصديره ما يقارب عامين، كان ضربة قاصمة لهذا الاقتصاد الأحادي المصدر.

فقد حرمه ذلك من مداخيل العملة الأجنبية التي كانت قادرة على ستر عورات المؤسسات السياسية والإدارية المتشظية، وتمويل الفساد المالي والصراع الدائر بين الأطراف، مع بقاء قدر يسير من هذا الدخل يكفي لشراء حاجات المواطن الأساسية بالعملة الصعبة.

ولهذا بدأ الاعتماد على احتياطي العملة الصعبة المحدود لتغطية كل هذه المصاريف والحاجات، فأخذ هذا الاحتياطي بدوره يتآكل ويدق ناقوس الخطر الداهم الذي لن يبقي على أحد. وبموازاة ذلك توجد القرارات الدولية التي تجمّد رؤوس الأموال والمدخرات الليبية في الخارج.

وقد تزامن كل ذلك مع ارتفاع حدة الصراع السياسي فأدى إلى انقسام وتعددية المؤسسات السياسية والمالية والإدارية، إذ انشطرت السلطة التنفيذية إلى ثلاث حكومات، والسلطة التشريعية إلى ثلاثة مجالس نيابية.

كما فرّخت المؤسسات المالية والاقتصادية نظائر لها تخاصمها في الشرعية والصلاحيات، كحال المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، فانعكس ذلك على الفروع المالية والإدارية لهذه المؤسسات، واتسعت أبواب الفساد المالي والإداري، وازداد عجز هذه المؤسسات عن أداء وظائفها، وتعددت أجهزة الرقابة والمتابعة وتضاربت صلاحياتها.

بلغ تفاقم الوضع حدا لا يحتمل التجاهل والمكابرة من جانب أي طرف من أطراف الصراع، مهما بلغت درجة عدم قناعته بما هو مُقْدم عليه من استجابة لهذا الوضع، ولهذا فإن محاولة كل طرف إثبات أنه ليس هو المسؤول عن الوضع الكارثي للمواطن بدت ضرورية ولا بد من القيام بها

ووقعت المؤسسات المركزية لهذه الفروع -في العاصمة- تحت ضغط المليشيات والتشكيلات المسلحة، التي تحتاج الأجسام السياسية في العاصمة إلى حمايتها والاستعانة بها في مقارعة خصومها في الطرف الآخر من مسرح الصراع.

كل هذه التغيرات أفضت إلى نتائج كارثية عصفت بحياة المواطن الليبي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، فظهرت أزمة السيولة والطوابير الماراثونية من الصباح إلى المساء، وما يصاحبها من سلوكيات مشينة وشجار واعتداءات وجرائم قتل.

وصاحبت هذه الأزمةَ أزماتٌ أخرى تمثلت في ارتفاع جنوني لأسعار السلع والخدمات، وتناقص القوة الشرائية للعملة الوطنية وانحدار قيمتها أمام العملات الأجنبية، حتى وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى سبعة جنيهات في السوق الموازية.

ونظرا إلى أن الأزمة الاقتصادية لا بد من أن تتولّد منها أزمات عنقودية تنتشر في كل اتجاه؛ فقد طالت هذه الأزمة جميع مناحي الحياة وامتدت إلى العلاج والدواء والسفر والطاقة، وتعددت أوجه معاناة المواطن في جميع أنحاء الوطن، سواء كان محسوبا على الأنصار أو على الخصوم.

ولعل أهم ما يميز الأزمة الاقتصادية عن غيرها من أزمات المشهد الليبي هو أنها مست جميع أطراف الصراع، بما في ذلك القوى السياسية والعسكرية والمليشياوية التي تتصدر المشهد.

فمهما قلّ نصيبها من آثار هذه الأزمة فإنها في الواقع مهددة بفقدان مواقعها وتآكل تأييدها من مواطن تسحقه المعاناة اليومية، وتنغلق أمامه السبل يوما بعد يوم، ويستفزه عناد وتصلب من يقودون المشهد السياسي، فأخذ يفقد صبره وينظر بعين ناقدة وأخرى ساخطة.

لقد بلغ تفاقم الوضع حدا لا يحتمل التجاهل والمكابرة من جانب أي طرف من أطراف الصراع، مهما بلغت درجة عدم قناعته بما هو مُقْدم عليه من استجابة لهذا الوضع، ولهذا فإن محاولة كل طرف إثبات أنه ليس هو المسؤول عن الوضع الكارثي للمواطن بدت ضرورية ولا بد من القيام بها، وهذا يقتضي إلقاء نظرة جديدة على الاتفاق.

ثانيا، العامل الخارجي: وهو يتعلق بتأثير أفعال القوى الدولية على المشهد السياسي الليبي، وهذه حالة ماثلة للعيان. ولعل من نافلة القول إنه لا يوجد كيان سياسي في المنظومة الدولية مهما بلغت قوته لا تشمله التفاعلات الدولية، سواء أخذت شكل اعتماد متبادل أو تبعية.

غير أن الوضع الليبي يغري أية قوة دولية ذات مصلحة بالتطلع إلى زيادة وتعظيم مصلحتها، نظرا لقابلية هذا الوضع للاستجابة لأفعال التكييف التي تمارسها هذه القوى على بيئته الداخلية حسب ما تمليه مصالحها.

أدى تمكن القوى الدولية من بناء علاقات دعم وسيطرة مع معظم القوى المتصارعة إلى الإمساك أيضا بمفاتيح الأزمة الاقتصادية التي تطحن المواطن، وذلك عبر حالة الانقسام التي تسود المؤسسات الاقتصادية والإدارية، والتي تسمح لهذه القوى بإضفاء الشرعية على بعضها ونزعها عن البعض الآخر

ولعل مقولة أن لا حلّ عسكريا للوضع الليبي تلخص الحالة التي أضحى عليها هذا المشهد بعد ست سنوات من الصراع، مارست خلالها القوى الدولية أفعال تكييف البيئة الداخلية لهذا الصراع.

حيث تبنّت كل منها ما وجدته من قوى متصارعة على الأرض، فمكنتها من القوة التي تجعلها قادرة على تعطيل أي حل لا ترضى عنه، وتكون في الوقت نفسه شوكة في حلق أي قوة قد تتطلع إلى فرض حل عسكري شامل عند انسداد الأفق أمام الحلول السياسية.

لقد أدى تمكن القوى الدولية من بناء علاقات دعم وسيطرة مع معظم القوى المتصارعة إلى الإمساك أيضا بمفاتيح الأزمة الاقتصادية التي تطحن المواطن، وذلك عبر حالة الانقسام التي تسود المؤسسات الاقتصادية والإدارية، والتي تسمح لهذه القوى بإضفاء الشرعية على بعضها ونزعها عن البعض الآخر.

وهذا يعني تحديد مَنْ يحق له مِنْ هذه الأطراف المتصارعة التصرف في الأموال والإيرادات، وهذا التمييز يذكي بالضرورة جذوة الصراع بين هذه الأطراف للتحكم في موارد الثروة، ولعل أبلغ دليل على ذلك هو ما حدث بعد إخراج الجيش الليبي مليشيات إبراهيم الجضران من الهلال النفطي وتمكينه المؤسسة الوطنية من استئناف تصدير النفط.

فمنذ تلك اللحظة لم تنقطع محاولات غزو هذه الموانئ من قبل مليشيات وتشكيلات مسلحة تحت مسميات مختلفة، ولكن هدفها جميعا هو نقل السيطرة عليها إلى حوزة طرف آخر يريد أن يثبت أنه هو الأجدر بثقة الشرعية الدولية.

لقد استطاعت القوى الدولية -حسب قوتها وحجم مصالحها- تكييف بيئة الصراع المحلي، فتحكمت في المتغير الداخلي إلى الحد الذي يمتنع معه الوصول إلى حل سياسي دون حدوث توافق بين هذه القوى على حجم وطبيعة مصالحها.

ولعل ما طرأ من تغيرات في خطاب ونظرة الأطراف الرئيسية في الاتفاق كان نتيجةً لضغوط المتغير الداخلي المتمثلة في وضع اقتصادي كارثي، وامتثالاً لضغوط القوى الدولية التي تدفع المشهد نحو حل سياسي تشارك فيه كل الأطراف التي تقبل بالعيش معا في ظل دولة مدنية، تحترم التزاماتها الدولية وتحافظ على مصالح هذه القوى بعد أن تم تحديد طبيعتها وأحجامها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.