إدارة ترمب وحدود الاختراق الروسي

U.S. President Donald Trump walks to the Oval Office of the White House in Washington, U.S., February 24, 2017. REUTERS/Yuri Gripas

مع ترمب أم ضد كلينتون؟
اتصالات ما قبل الفوز
اختراق مهم ولكن..!

طغت الأنباء والمعلومات عن تورط روسيا في الانتخابات الأميركية على المشهد السياسي في واشنطن وأوروبا منذ انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

وتتكشف يوما بعد آخر تفاصيل التدخل الروسي لترجيح كفة ترمب، في سابقة تعدّ الأولى من نوعها في الولايات المتحدة مما تسبب في شرخ سياسي ومجتمعي كبير، واستدعى تحذيرات من تدخلات روسية في استحقاقات انتخابية مفصلية ستشهدها أوروبا في العام الحالي.

ورغم نفي ترمب والكرملين وجود أي صلات مشبوهة مع روسيا أثناء الحملة الانتخابية الأقذر في تاريخ الولايات المتحدة؛ فإن الاستقالات بين مرشحيه للمناصب الحكومية العليا، وموجة التحقيقات في إدارته وفريقه الانتخابي، تؤكد وجود اختراق روسي مهم أثّر في نتائج الانتخابات، وأوصل الملياردير الشعبوي إلى سدة الحكم في البيت الأبيض.

ولمعرفة أهداف التدخل الروسي وحدوده لابد من الإجابة عن بعض الأسئلة من قبيل: لماذا فضلت موسكو ترمب على غيره؟ وكيف استطاعت تحقيق الاختراق؟ ومتى وكيف وعلى أي مستوى اتخِذ القرار بدعم ترمب؟

مع ترمب أم ضد كلينتون؟
بداية لم ينظر الكرملين إلى ترمب كمرشح يمكن أن يظفر بالمنصب الأهم في واشنطن، ولعل من السذاجة ربط التقارب بينهما وتفضيل ترمب بتبادل الإطراء الشخصي مع فلاديمير بوتين.

رغم نفي ترمب والكرملين وجود أي صلات مشبوهة مع روسيا أثناء الحملة الانتخابية الأقذر في تاريخ الولايات المتحدة؛ فإن الاستقالات بين مرشحيه، وموجة التحقيقات في إدارته وفريقه الانتخابي، تؤكد وجود اختراق روسي مهم أثّر في نتائج الانتخابات، وأوصل الملياردير الشعبوي إلى سدة الحكم في البيت الأبيض

ومن المرجح أن موسكو اتخذت قرارها بدعم ترمب في ربيع العام الماضي مع ازدياد المؤشرات بارتفاع حظوظه في الظفر بترشيح الحزب الجمهوري، رغم معارضة معظم الشخصيات المؤثرة في الحزب، واتساع الفجوة بين هيلاري كلينتون وباقي المرشحين الديمقراطيين.

وأشارت تقارير إعلامية عدة إلى أن الرئيس الأميركي التقى السفير الروسي لدى واشنطن سيرغي كيسلياك يوم 27 أبريل/نيسان 2016 في فندق "ماي فلاور" بواشنطن، على هامش حفل استقبال نُظم بمناسبة كلمة ترمب بشأن برنامجه للسياسة الخارجية.

وواضح أن موسكو تلقفت شعارات وبرامج الملياردير -الطامح لسدة الحكم- في السياسة الخارجية، وسوّقتها داخليا وخارجيا على أنها محاولات للتقارب مع روسيا، وتأكيد على صواب رؤيتها لبناء نظام سياسي عالمي جديد.

وفي المقابل؛ رأت النُّخب الروسية أن انكفاء دور الولايات المتحدة العالمي إلى داخل حدودها، وتراجع الاهتمام بالناتو، والمشكلات المتوقعة مع جيرانها وحلفائها على خلفية سياسات بناء الجدران والحمائية التجارية؛ تفتح المجال واسعا أمام تعاظم الدور الروسي عالميا مع عدم وجود أي قوة جاهزة لملء الفراغ الأميركي.

كما تمنح هذه التوجهاتُ موسكو فرصةً ذهبيةً لفرض شروطها على أوروبا المتعبة بعد صدمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والخلافات حول سياسة اللجوء والهجرة، وعدم التعافي الاقتصادي، وصعود اليمين الشعبوي على أبواب انتخابات هولندا وفرنسا وألمانيا

ويبدو أن موسكو اختارت المراهنة على مرشح مجهول من خارج المؤسسة الحاكمة ولا يُلمّ بقواعد وآليات اتخاذ القرارات وإدارة النظام السياسي، لأسباب عدة أهمها أنه الوحيد القادر على هزيمة المرشحة كلينتون التي تهيأت لها كل المؤهلات والأسباب لتكون أول سيدة تصل إلى حكم واشنطن.

وبداهة فإن أي مرشح سيكون أفضل -في نظر موسكو- من كلينتون التي جاهرت بانتقاد قمع الحريات والصحافة في روسيا، واتهمت موسكو بتزوير الانتخابات البرلمانية عام 2011، وانتقدت بشدة ضم شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي في أوكرانيا.

بل وصل بها الحد إلى عقد مقارنات بين سلوك بوتين وتصرفات هتلر في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وهو ما اعتبرته موسكو إهانة قومية تتعدى الرئيس بوتين نظرا لدور الاتحاد السوفياتي في هزيمة ألمانيا النازية، وحجم التضحيات الكبيرة التي دفعتها الشعوب السوفياتية حينها.

اتصالات ما قبل الفوز
كشفت التحقيقات أن القراصنة الروس كانوا وراء تسريبات البريد الإلكتروني لحملة كلينتون الانتخابية التي كان لها الأثر الأكبر في هزيمتها. وراهنت موسكو على أن عدم وجود خبرة سياسية لدى ترمب وعقليته سيؤديان إلى تعميق الشرخ المجتمعي في أميركا بين ذوي الأصول اللاتينية والأفارقة والمسلمين -من جهة- والأغلبية البيضاء من جهة أخرى.

ووصل بعض الروس إلى المراهنة على أن أميركا على أبواب حرب أهلية يمكن أن تتسبب في تفتتها إلى دويلات، مما سيقود إلى انتهاء الحلم الأميركي. وتكشف التعليقات المباشرة للنُّخب الروسية -عقب انتخاب ترمب- جزءا مهما من أسباب دعم موسكو له.

ففلاديمير جيرينوفسكي (نائب رئيس مجلس الدوما) قال مبتهجا أمام الكاميرات في صبيحة اليوم التالي للانتخابات: "فاز مرشحنا دونالد، والجدة هيلاري يجب أن تذهب إلى منزلها".

وراهنت موسكو على أن عدم وجود خبرة سياسية لدى ترمب وعقليته سيؤديان إلى تعميق الشرخ المجتمعي في أميركا بين ذوي الأصول اللاتينية والأفارقة والمسلمين -من جهة- والأغلبية البيضاء من جهة أخرى،

أما رائدة بروباغاندا الكرملين مارغاريتا سومنيان (رئيسة تحرير وكالة سبوتنيك، وتلفزيون "RT") فكتبت -مع تقدم كلينتون في فرز الأصوات ليلة الانتخابات الأميركية- على تويتر معزية في وفاة "الديمقراطية الأميركية"، قبل أن تعود لتغرد ثانية -عقب تأكيد فوز ترمب- معزية في وفاة "المؤسسة السياسية الأميركية"، مؤكدة أنها ستنفذ وعدها بالتجوال في شوارع موسكو رافعة العلم الأميركي على سيارتها.

ويُظهر التعليقان السابقان -وغيرهما من تصريحات النخب الروسية، إضافة إلى التغطية الإعلامية عقب إعلان النتائج- أن موسكو انتشت لخسارة كلينتون في الانتخابات أكثر من نشوتها بفوز ترمب، وأنها كانت تحضّر لسيناريو آخر ينطلق من فوز كلينتون ويشكك في نزاهة الانتخابات الأميركية، ويطعن في النموذج الديمقراطي للعم سام.

كما يحرّض هذا السيناريو على المظاهرات والفوضى في الشوارع الأميركية رداًّ على اتهاماتها لواشنطن بإشعال الثورات الملونة في الفضاء السوفياتي السابق، ودعم المعارضين الروس لسياسة بوتين الداخلية والخارجية.

ويبدو أن موسكو لم تغفل عن الاستفادة بأقصى ما يمكن من فوز ترمب المفاجئ، وذلك بكشفها -على لسان سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي- عن اتصالات أجرتها مع فريق واسع من المقربين من ترمب إبان حملته الانتخابية، وتأكيدها استمرار هذه الاتصالات.

ويندرج في ذلك إعلان الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخارافا أن "وفدا من السفارة الروسية بواشنطن التقى أعضاء في حملة ترمب الانتخابية".

وواضح أن موسكو أرادت أن تكون شريكا كاملا في انتصار ترمب من جهة، وتصب النار على الاحتجاجات المتصاعدة في أميركا ضد انتخابه من جهة أخرى، وأن تبعث -في ذات الوقت- رسالة واضحة لترمب بالتعاون معها في الملفات الدولية، وإتمام التقارب مع موسكو ورفع العقوبات عنها.

اختراق مهم ولكن..!
مما لا شك فيه أن روسيا حققت اختراقا مهما أثّر في مجرى الانتخابات الأميركية وفاق حدّ توقعاتها هي ذاتها، ولكنها -على الأرجح- لا تنظر إلى هذا الاختراق كمقدمة للسيطرة على صناعة القرار السياسي الأميركي، فإمكاناتها ونموذج الحكم فيها لا يسمحان بذلك.

ولكن موسكو أفلحت في إثارة بلبلة داخل الولايات المتحدة، وفي تلطيخ صورة ديمقراطيتها، كما أثارت مخاوف حلفاء واشنطن من تغوّل روسيا في دول البلطيق، أو زيادة دعمها للأنظمة الدكتاتورية في وجه شعوبها.

وتعلم النُّخب الروسية جيدا أن الوعود الانتخابية والخطاب الشعبوي البسيط تهدف أساسا إلى جذب شرائح من الناخبين الناقمين على السلطة، وأن دوائر صنع القرار ستؤثّر في رسم سياسة خارجية وداخلية تختلف عن رؤية ترمب، الذي هو أقرب في تفكيره إلى عقلية التاجر ورئيس مجلس إدارة شركة عملاقة.

ربما استطاعت روسيا -بفوز ترمب- النيل من صورة الديمقراطية الأميركية، وإظهار حربة الكرملين الطويلة في مجال الحرب السيبرانية، لكنها بدأت تواجه انتقادات أميركية لدعمها نظام الرئيس بشار الأسد، وربما واجهت مشكلات أكبر مع ترمب قد تدفعها إلى التنازل عن بعض حلفائها مثل إيران

كما أن ترمب ما زال يواجه اعتراضات كبيرة داخل حزبه الجمهوري، وضغوطا لتبني سياسة أكثر حزما مع الكرملين، وعدم التخلي عن الحلفاء وتركهم فريسة سهلة للمطامع الروسية.

وربما ظهرت نتائج هذه الضغوط في تصريحات ترمب المتحفظة بشأن التعاون مع روسيا، وامتناعه عن تحديد موعد للقاء ثنائي مع بوتين، وتأكيده موقفه الداعم لأوكرانيا وعدم شرعية ضم موسكو للقرم، والتزامه بحلف الناتو وفق شروط تمويل جديدة، وزيادة الإنفاق الدفاعي الأميركي بنحو 54 مليار دولار، وإطلاق أكبر حملة تحديث في الجيش الأميركي.

وهذه التوجهات جميعا لا تروق بالتأكيد لروسيا التي كانت تطمح -من دعمها ترمب- لعقد صفقات تؤدي إلى إنهاء ملف القرم، وبناء تحالف مع واشنطن لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق.

وبعد ستة أسابيع من اعتلاء ترمب هرم السلطة في واشنطن؛ باتت موسكو أقل تفاؤلا بمستقبل العلاقات الروسية الأميركية، وربما قررت الانتظار حتى تنعقد قمة العشرين في هامبورغ بألمانيا في يونيو/حزيران المقبل، لكي تتضح الصورة في واشنطن بعد عاصفة التحقيقات حول دور موسكو في الانتخابات.

وفي المقابل؛ فإن التوقعات الروسية لحقبة ترمب تنطلق من أنه سيكون أضعف بسبب ما تكشف عن الاختراق الروسي، لكن خشية الكرملين تزداد من عدم قدرته على التأثير في نتائج الانتخابات بفرنسا وألمانيا لضمان فوز أنصاره في اليمين الشعبوي الذين ينادون بالدول القومية والخروج من الاتحاد الأوروبي.

كما يتبنى هؤلاء الشعبويون ذات القيم الروسية في الدفاع عن أوروبا المسيحية في وجه الإسلام واللاجئين، ويدعون إلى رفع العقوبات عن روسيا، مع أخذ كثير من البلدان الأوروبية حيطتها من البروباغاندا الروسية والهجمات السيبرانية للقراصنة الروس.

ربما استطاعت روسيا -بفوز ترمب- النيل من صورة الديمقراطية الأميركية، وإظهار حربة الكرملين الطويلة في مجال الحرب السيبرانية، لكنها بدأت تواجه انتقادات أميركية لدعمها نظام الرئيس بشار الأسد، وربما واجهت مشكلات أكبر مع ترمب قد تدفعها إلى التنازل عن بعض حلفائها مثل إيران.

وقد تجد نفسها -في حال إصرار ترمب على التعامل بحسابات التاجر مع حلفائه- أمام تحالفات عالمية وإقليمية جديدة تحدّ من نفوذ الكرملين العالمي.

ولا بد لأي تحليل منطقي ألا يغفل عن النتائج الاقتصادية التي قد تترتب على تنفيذ ترمب برامجه الانتخابية، التي ستؤدي إلى زيادة المعروض في السوق النفطية وبالتالي هبوط أسعاره، وتراجع نمو الاقتصاد الروسي، إضافة إلى هجرة جديدة لرؤوس الأموال من أسواق روسيا، وتقليص مدخراتها بسبب رفع سعر الفائدة الأميركية الناتج عن تخفيف الضرائب وتحفيز الاقتصاد الداخلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.