وماذا عن الشتات العراقي…؟

قرار ترمب يصدم اللاجئين العراقيين بلبنان

إذا كان الجاحظ -وهو الجدّ الأقدم للمثقفين العرب والمسلمين- قد دوّن في رسالته الشهيرة "الحنين إلى الأوطان" مأساة المهاجرين والمهجّرين والمنفيين، فلنا أن نتصوّر اليوم معاناة الملايين من اللاجئين العراقيين في أصقاع الأرض المختلفة مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً، بالاندماج أو بالاحتجاج، أي بالتكيّف أو الانكفاء.

فبعد أن كانت وسائل الهجرة واللجوء في الماضي محدودة، فإن العولمة جعلت منها واقعاً تعاني منه المجتمعات المصدِّرة والمستقبِلة، والأساس هو المعاناة الإنسانية الفائقة التي يعيشها اللاجئون. وغالباً ما تنشأ مشاكل اجتماعية وقانونية وثقافية ودينية بين الهويّات المختلفة، وتتخذ أحياناً طابعاً صدامياً أو عُنفياً.

1- الهجرة العراقية وإنْ لم تكن قديمة مثل الهجرات اللبنانية أو السورية (أواخر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، إلا أنها كانت هجرة كثيفة وجماعية، في حين كانت الهجرات العربية الأخرى فردية أو عائلية.

وسواء كان الشتات العراقي يندرج في أحد الأسباب الستة التي ذكرها جون سمبسون في كتابه "تأمّلات المنفيين" (والمقصود بها: الأسباب السياسية أو الدينية أو القومية أو القانونية أو الاقتصادية أو النفسية)، أو يحمل أسباباً إضافية؛ فإنه في الوقت نفسه لم يكن فردياً بقدر ما كان أقرب إلى تهجير أو ترحيل، وسواء كان قسرياً أو طوعياً أو "منزلة بين المنزلتين"، فقد كانت عوامل داخلية وأخرى خارجية قد ساهمت فيه ولعبت دوراً مهماً في حدّته واستمراره.

وتعود أسباب الهجرة الداخلية إلى عوامل بعضها تاريخي يتم تأجيجها بين حين وآخر، وبعضها يرجع إلى الصراعات السياسية التي تتخذ أحياناً طابعاً عُنفياً، كما حملت معها في العقود الأخيرة فايروساً طائفياً، خصوصاً في فترات احتدام صراعات إقليمية، أو ما بعد الاحتلال.

حيث تم استهداف فئات سكانية كاملة لأسباب طائفية وثأرية وانتقامية، أو حين احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للموصل ولنحو ثلث الأراضي العراقية، واستهدافه مجموعات سكانية بأكملها كما هو بالنسبة للمسيحيين والإيزيديين.

أما الأسباب الخارجية، فقد كانت في مقدمتها الحروب، ولا سيّما الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، وحرب الخليج الثانية ضد العراق عام 1991 بعد غزوه الكويت 1990، وفيما بعد احتلال العراق 2003، حيث شهدت المنافي اكتظاظاً لم تعرفه من قبل بهذا الاتساع.

وارتفع منسوب الهجرة واللجوء خلال فترة الحصار الدولي الجائر الذي فُرض على العراق (1990 – 2003) وكان سبباً في ذلك لتردي الأوضاع الاقتصادية، الأمر الذي اضطرّ مئات الألوف من العراقيين إلى مغادرة بلادهم واللجوء إلى المنافي.

وسواء كان الشتات العراقي يندرج في أحد الأسباب الستة التي ذكرها جون سمبسون في كتابه "تأمّلات المنفيين" (والمقصود بها: الأسباب السياسية أو الدينية أو القومية أو القانونية أو الاقتصادية أو النفسية)، أو يحمل أسباباً إضافية؛ فإنه في الوقت نفسه لم يكن فردياً بقدر ما كان أقرب إلى تهجير أو ترحيل

2- يمكن القول إن العراق شهد ست حقب زمنية لهجرات واسعة هي الآتية:

الهجرة الأولى: بعد ثورة 14 يوليو/تموز 1958 عندما غادر بعض رجالات العهد الملكي البلاد لأسباب سياسية، وامتدت هذه المرحلة لتشمل من غادر العراق بعد انقلاب 1963، ولكن الهجرتين كانتا محدودتين. وفي أعوام الستينيات ومطلع السبعينيات جرت عمليات تهجير محدودة شملت الكرد الفيليين في 1965 وخلال 1969-1971.

الهجرة الثانية: كانت في نهاية السبعينيات، حيث شملت عشرات الآلاف من العراقيين، بمن فيهم بضع مئات من خيرة المثقفين بسبب حملة القمع التي تعاظمت في تلك الفترة والخلافات السياسية الحادة، وكانت غالبيتهم من اليساريين والإسلاميين.

الهجرة الثالثة: وقعت خلال الحرب العراقية الإيرانية، وشملت تهجير عشرات الآلاف من العوائل العراقية إلى إيران، وانتقل قسم غير قليل منهم إلى البلدان العربية ومنها إلى المنافي البعيدة، والقسم الآخر استوطن إيران إلى اليوم. وخلال هذه الفترة هاجرت أعداد كبيرة من المسيحيين والأكراد.

الهجرة الرابعة: حدثت بعد غزو القوات العراقية للكويت وحرب قوات التحالف ضد العراق، وبالأخص خلال فرض نظام العقوبات الدولية ضد العراق 1990-2003، وشملت مئات الآلاف من العراقيين، وكانت الأسباب متنوّعة ومختلفة، وكذلك الفئات المهاجرة.

الهجرة الخامسة: وكانت أوسع هجرة جماعية في أقصر فترة زمنية، وقد بدأت بعد احتلال العراق 2003 واصطبغت بألوان طيف طائفي ومذهبي، مع أنها شملت مئات الآلاف من العراقيين من جميع الفئات السكانية والعمرية، بما فيهم آلاف من المثقفين والأدباء والعلماء والأكاديميين والأطباء والمهندسين والعسكريين.

خصوصاً في الفترة التي كان يتم فيها "القتل على الهويّة"، ولكن الغالبية من السياسيين كانت من البعثيين الذين استهدفهم "قانون اجتثاث البعث"، ولاسيّما بعد تفجير مرقديْ الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء عام 2006.

الهجرة السادسة: بدأت بنزوح داخلي لاسيّما للمسيحيين من البصرة وبغداد وكركوك باتجاه كردستان العراق، واستقرّ القسم الأكبر منهم في عينكاوة (المسيحية)، ومنها توجهوا نحو الخارج، واتسعت هذه الهجرة بعد احتلال داعش للموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، حيث هاجر ما يزيد على نصف المسيحيين العراقيين.

وتظهر أرقام غير رسمية أن عددهم قبل الاحتلال كان نحو مليون مسيحي وكان عدد السكان حينها نحو 23 مليون إنسان، أما حالياً فيقدّر عددهم بأقل من 350 ألفا، في حين أن عدد السكان يزيد على 35 مليون عراقي.

والأمر كذلك بالنسبة للمجموعات الثقافية الأخرى، فلم يبق من الصابئة المندائيين سوى ستة آلاف، في حين كان عددهم يربو على 60 ألفا في السبعينيات من القرن الماضي، وهناك هجرات شملت التركمان، والأكراد الفيلية بشكل خاص والأكراد بشكل عام، إضافة إلى الإيزيديين الذين تعرضوا لتنكيل جماعي عقب احتلال داعش للموصل وسُبيت نساؤهم، وشمل الأمر الأرمن والكلدانيين والسريان والشبك والكاكائية وغيرهم.

3- بقدر ما يرتبط موضوع الهجرة بالخصوصية الثقافية (الدينية والقومية واللغوية والسلالية) فإنه يطرح موضوع الهويّة، ولاسيّما مسألة الاندماج وتفرّعاتها.

بقدر ما يرتبط موضوع الهجرة بالخصوصية الثقافية (الدينية والقومية واللغوية والسلالية) فإنه يطرح موضوع الهويّة، ولاسيّما مسألة الاندماج وتفرّعاتها. وهو الأمر الذي يرتفع الحوار والسجال حوله بصوت عالٍ في الغرب، اشتباكاً مع الإرهاب الدولي وانخراط مجموعات من أصول عربية ومسلمة -وإنْ كانت تحمل جنسيات

وهو الأمر الذي يرتفع الحوار والسجال حوله بصوت عالٍ في الغرب، اشتباكاً مع الإرهاب الدولي وانخراط مجموعات من أصول عربية ومسلمة -وإنْ كانت تحمل جنسيات أوروبية أو أميركية- في الجماعات الإرهابية والتكفيرية، سواء ما تقوم به من عمليات استهداف للغرب، أو دعمها للنشاط الإرهابي ورفده بعناصر جديدة في البلدان التي تعاني من الإرهاب.

ومثل هذا الأمر أصبح بنداً يكاد يكون ثابتاً في مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية الغربية: العسكرية والأمنية والثقافية والاجتماعية والتربوية والنفسية، وفي دراسات الهجرة وتأثيراتها، وعلى أساسه صاغ صموئيل هنتنغتون نظريته المعروفة باسم "صدام الحضارات".

وأصبح البحث عن عدو خارجي -لاسيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية– أمراً مطلوباً، ولم يكن ذلك سوى "الإسلام". ومثلما انطلق هنتنغتون من صراع الحضارات، فإن فرانسيس فوكوياما استند إلى فكرة "نهاية التاريخ" التي حاول تعميمها، مشيراً إلى خطر اللاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى دول الشمال الغني، ارتباطاً بخطر الإرهاب الدولي العابر للقارات والمُعَوْلَم.

ورغم الانتقادات التي وُجّهت إلى النظريتين، فإن الموجة الشعبوية اليمينية في أوروبا وأميركا -خاصة بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى دست الحكم- تدفع بمثل هذا الاتجاه الذي تبلور بشكل كبير بُعيد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة.

وتزايد في ما تبعها من أعمال إرهابية أخرى لا تزال مستمرة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا والعديد من دول أوروبا والعالم، بما فيها بلاد العرب والمسلمين ضحايا الإرهاب قبل غيرهم، لكن الرئيس جورج دبليو بوش وجد في "الإرهاب الدولي" ذريعة لاحتلال أفغانستان (عام 2001)، وفي أسلحة الدمار الشامل حجة لاحتلال العراق (عام 2003).

4- إن الشتات العراقي اليوم يشمل نحو أربعة ملايين عراقي، وهو موزّع على النحو الآتي (الأرقام تقريبية): الولايات المتحدة: 360 ألفا، وبريطانيا: 450 ألفا، والسويد: 280 ألفا، وألمانيا: 190 ألفا، وهولندا: 150 ألفا، وبلجيكا: 90 ألفا، والدانمارك: 150 ألفا، وسويسرا: 40 ألفا، والدول الاشتراكية السابقة: 20 ألفا، وأستراليا: 50 ألفا.

وفي نيوزيلاندا: 25 ألفا، وكندا: 70 ألفا، وفرنسا: 10 آلاف، والنرويج: 35 ألفا، وفنلندا: 20 ألفا، ومصر: 150 ألفا، والأردن: 400 ألفا، ودول الخليج: 40 ألفا واليمن (قبل الحرب الأهلية): 70 ألفا، ولبنان: 50 ألفا، وليبيا وشمال أفريقيا عموماً: 30 ألفا، وإيران: 300 ألفا، وبلدان أخرى متفرقة 100 ألف.

وبين هؤلاء المهاجرين كفاءات عراقية نادرة، إذ يزيد عدد الأطباء في بريطانيا وحدها على سبعة آلاف طبيب، ويوجد أكثر من هذا العدد في أوروبا وأميركا.

وفي تعليق لأحد البريطانيين قال: لو قرّر الأطباء العراقيون مغادرة البلد -وبينهم اختصاصيون نادرون- فستحدث أزمة طبية حقيقية في بريطانيا، إضافة إلى شتى الاختصاصات العلمية، مثلما بينهم عدد كبير من المستثمرين وأصحاب المشاريع في مختلف المجالات.

 ستكون لاستعادة هؤلاء كلياً أو جزئياً -بمعنى عودتهم النهائية أو زيارتهم لبلدانهم وتقديم خبراتهم ونقل تجاربهم- فائدة عظيمة على العراق، وسيكون عامل تفاعل وعنصر تسامح في الاتجاهين، لاسيّما ما اكتسبوه من ثقافة ومعرفة وخبرة.

على الدولة العراقية -أياً كانت الحكومة- الاهتمام ليس بجيل المهاجرين أو اللاجئين فحسب، بل بالجيل الثاني والثالث وشدّهم إلى الوطن والإبقاء على علاقاتهم والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، ومن العلوم التي حصلوا عليها في بلدان الشتات

ولكن ذلك يحتاج إلى استقرار سياسي وتوفّر إرادة سياسية وتوافق وطني، ووضع حد للإرهاب والعنف، وتشريع قوانين تحرّم الطائفية وتحظر الدعوة للكراهية وكل ما له علاقة بالعنصرية والتعصّب والتطرّف، خصوصاً أن الأمر يحتاج إلى إنهاء نظام المحاصّة الطائفية والإثنية الذي يقوم على الزبونية والغنائم.

وهذا يعني العمل على تعزيز الهويّة الوطنية العراقية الجامعة مع احترام الهويّات الفرعية، وتقديم الوطن والمواطنة على غيرهما من الانتماءات الأخرى، وإعادة النظر في الدستور وخصوصاً ما سُمّي بـ"المكوّنات" التي وردت في الدستور ثماني مرّات.

فالدولة ينبغي أن تقوم على اتحاد مواطنين أحرار وليس اتحاد مكوّنات، هي التي أوصلت البلاد إلى حالة من الفوضى والفساد السياسي والإداري والمالي.

إن توفير الشروط الموضوعية للاستفادة من أصحاب الكفاءات من اللاجئين والمهاجرين يعزّز استعدادهم لخدمة بلدانهم (الأصلية)، وتعاطي كلّ من موقعه -بحسب ظروفه وإمكاناته- بما يمكن أن يعزّز مسيرة التنمية في العراق.

خصوصاً إذا ما ساد الشعور بأن الوطن للجميع، ولا أحد يعلو على القانون الذي ينبغي أن يحكم الجميع ويحتكم إليه الجميع، فالقانون على حد تعبير مونتسكيو: "مثل الموت يسري على الجميع ولا استثناء فيه".

وعلى الدولة العراقية -أياً كانت الحكومة- الاهتمام ليس بجيل المهاجرين أو اللاجئين فحسب، بل بالجيل الثاني والثالث وشدّهم إلى الوطن والإبقاء على علاقاتهم والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، ومن العلوم التي حصلوا عليها في بلدان الشتات، ومن المواقع المهمة التي يشغلونها في البلدان المستقبِلة وتقديم حوافز مادية ومعنوية لهم.

وحسبي هنا أن نستفيد من تجارب "عدوّنا" بتكوين "لوبيات داعمة لحقوق العراقيين والعرب"، والدفاع عنها في بلدان الشتات العراقي.

إن أمر استعادة اللاجئين قد يصبح صعباً وحتى غير منطقي مع مرور الأيام، لكن أمر الاستفادة من وجودهم سيكون ممكناً بسياسة مرنة وجاذبة، وبإعطائهم ما يستحقونه من تقدير ومكانة، لتعزيز ارتباطهم بالوطن الأم وإقامة علاقات معه وزيارته بين حين وآخر.

ولا بد من الاهتمام بهؤلاء اللاجئين وشدّهم إلى قضايا وطنهم وأمتهم العادلة بجعلهم يشعرون بأنهم -حتى بالهويّات الجديدة اللقاحية- امتداد لوطن وحضارة وثقافة ولغة جميلة، وجزء من كونية مستمرة ومتواصلة، وستكون المسألة أكثر حساسية للمثقفين والمبدعين منهم بشكل خاص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.