موسكو وواشنطن.. بين القوة الناعمة والرسائل الخشنة

National Security Advisor Michael Flynn (C) and Senior Counselor to the President Steve Bannon (R), sit nearby as US President Donald J. Trump (L) speaks on the phone with Prime Minister of Australia, Malcolm Turnbull in the Oval Office in Washington, DC, USA, 28 January 2017. The call was one of five calls with foreign leaders scheduled for 28 January.

رسائل متبادلة
سُحُب سُود

امتنعت موسكو عن التعليق على استقالة مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين، واكتفت -على لسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف- بقولها: "إنها قضية داخلية للولايات المتحدة ولإدارة الرئيس دونالد ترمب. هذا ليس شأننا، لا نرغب في التعليق على هذه القضية بأي شكل".

إلا أن ما صرح به بيسكوف لا يعكس حقيقة ارتدادات استقالة فلين في أروقة السياسة الروسية، كما عكستها تغطية وسائل الإعلام الروسية وتصريحات العديد من المسؤولين السياسيين الروس. حيث ذهبت التغطية الإعلامية الروسية وتصريحات عديدة إلى اعتبار أن الهدف هو تخريب العلاقات الأميركية/الروسية وتقويض الثقة بالإدارة الأميركية الجديدة.

تم تناول استقالة فلين في روسيا باعتبارها رسالة خطيرة من واشنطن، وما يزيد من خطورتها هو أن فلين أُجبِر على الاستقالة، ولم يستطع الرئيس ترمب مقاومة الضغوط التي مورست عليه فخضع للمطالبين بإقالتة فلين

وأطلق رئيس لجنة الشؤون الدولية في الغرفة العليا للبرلمان الروسي كونستانتين كوساتشوف تصريحاً رأى فيه أن استقالة المستشار فلين بسبب اتصالاته مع السفير الروسي في واشنطن "ليس فقط جنون عظمة، وإنما هي شيء أسوأ".

رسائل متبادلة
ما هو السيئ في استقالة فلين بالنسبة لروسيا إذا كانت موسكو تنظر إليها بوصفها قضية داخلية أميركية؟! وكيف يمكن أن يكون هدفها تخريب العلاقات وزعزعة الثقة مع إدارة ترمب؟

تعليقات العديد من المحللين السياسيين الروس أجابت على هذا التساؤل بطريقة غير مباشرة، عبر استهجان استقالة فلين وربطها بالسبب المباشر الذي دفعه للاستقالة، والمتمثل في فضيحة إجراء اتصالات مع السفير الروسي بواشنطن في ديسمبر/كانون الأول 2016، وتضليل مسؤولين أميركيين بشأن تلك الاتصالات.

ولم تقف التعليقات عند هذا الحد، بل تم تناول استقالة فلين باعتبارها رسالة خطيرة من واشنطن، وما يزيد من خطورتها هو أن فلين أُجبِر على الاستقالة، ولم يستطع الرئيس ترمب مقاومة الضغوط التي مورست عليه فخضع للمطالبين بإقالتة فلين.

والدليل على ذلك هو التصريحات المتناقضة التي أدلى بها مسؤولون في البيت الأبيض، إذ أكدت مستشارة ترمب المقربة منه كيلي آن كونواي -بعد الكشف عن الواقعة- أن فلين يحظى بثقة الرئيس، لكن لم يمض سوى وقت قصير حتى خرج المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر ببيان كشف فيه عن أن ترمب قبل استقالة فلين.

ويعني ذلك في المحصلة -وفقاً لمحللين روس- توجيهَ رسالة قوية لروسيا فحواها التحذير من مغبة الاستهانة بقدرات المعارضين لسياساتها في واشنطن، رغم المواقف المتراخية التي عبّر عنها الرئيس ترمب تجاه موسكو، بل والمتناغمة مع سياسات بوتين في أكثر من مناسبة وقضية قبل انتخابه، وبعد فوزه ودخوله البيت الأبيض.

رسالة استقالة فلين سبقها العديد من الرسائل المقلقة أرسلتها إدارة ترمب إلى الكرملين، أهمها إعلان ترمب عزمه إقامة مناطق آمنة في سوريا، وتصنيف إيران "دولة إرهابية"، وعدم استبعاد استخدام الخيار العسكري ضدها بعد إجرائها تجربة إطلاق صاروخ باليستي.

وواصلت إدارة ترمب إرسال الرسائل المثيرة لقلق الكرملين بتأكيد وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس التزام بلاده بحلف شمال الأطلسي (الناتو) ودعمها لجهوده، وتشديده -خلال الاجتماع الأخير لوزراء دفاع الحلف في بروكسل– على أن واشنطن حريصة على استئناف التعاون العسكري مع موسكو، لكنها ستخاطبها من موقع القوة.

رسالة استقالة فلين سبقها العديد من الرسائل المقلقة أرسلتها إدارة ترمب إلى الكرملين، أهمها إعلان ترمب عزمه إقامة مناطق آمنة في سوريا، وتصنيف إيران "دولة إرهابية"، وعدم استبعاد استخدام الخيار العسكري ضدها

كما أبرزت وسائل الإعلام الروسية تغريدة للرئيس ترمب على (تويتر) بتاريخ 15 فبراير/شباط 2017، تساءل فيها: "هل كان باراك أوباما ليناً جداً مع روسيا عندما غزت القرم؟"، وسبق هذه التغريدة بيان للمتحدث باسم البيت الأبيض قال فيه "إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتوقع من روسيا إعادة شبه جزيرة القرم لأوكرانيا، وتسوية النزاعات..".

وفي المقابل؛ حذّرت موسكو واشنطن من عواقب إقامة مناطق آمنة في سوريا، كما حذر وزير الدفاع الروسي نظيره الأميركي من محاولة مخاطبة روسيا بلغة الوعيد والتهديد، وأعلنت موسكو أنها لا توافق على تصنيف إيران "دولة إرهابية"، ولا تشاطر الرئيس ترمب موقفه بشأن البرنامج الصاروخي الإيراني.

كما رد الناطق باسم الكرملين على تغريدة ترمب وما سبقها من تصريحات أميركية بخصوص القرم بقوله: "إن روسيا لا تناقش القضايا المتعلقة بأراضيها مع الشركاء الأجانب".

سُحُب سُود
القراءة الروسية لرسائل واشنطن تفيد بأن إعلان ترمب عزمه إقامة مناطق آمنة في سوريا يحمل في طياته احتمال تورط عسكري أميركي مباشر في الصراع، من غير المستبعد أن يؤدي إلى احتكاك مع روسيا.

إذ أكد الناطق باسم الرئاسة الروسية بيسكوف أنه "من الواضح مسبقاً أن روسيا لن تقبل بسهولة مثل هذه المشاريع"، وأشار إلى أن "فرْض مناطق آمنة يعني فرض حظر للطيران فيها، في حين أن الأجواء السورية تحت سيطرة الروس".

وبخصوص إيران؛ فإن من شأن مواقف إدارة ترمب حيال الدور الإقليمي لطهران والاتفاق الموقع بينها وبين مجموعة "5+1" بشأن برنامجها النووي، المسُّ بأهم شريك إقليمي لروسيا في المنطقة، ومن المرجح أن يقود ذلك نحو عملية خلط أوراق على نطاق واسع، تعيد بمقتضاها تركيا النظر في حساباتها التي فُرضت عليها بسبب سياسات إدارة أوباما، ودفعتها نحو تقديم تنازلات لروسيا في الملف السوري.

وفي إطار أشمل، تخشى موسكو من أن تتراجع بشكل ملحوظ علاقاتها مع دول الخليج العربي، بعد أن شهدت في المرحلة الماضية توجهاً خليجياً لتعزيز العلاقات معها، جرّاء خيبة الأمل من سياسات إدارة أوباما إزاء الموقف من التدخل الإيراني في شؤون البلدان العربية.

موسكو تعير في قراءتها وحساباتها أهمية كبرى لمؤشرات أخرى لا تقل حساسية -من وجهة نظر الكرملين- عن المؤشرات في الملفين السوري والإيراني.

ما زالت التقديرات الروسية تنطلق من أنه لا يمكن القطع بأن التوجهات الأميركية السلبية حيال السياسات الروسية ستشق طريقها بسهولة، ولذلك من المستبعد في المدى المنظور -وفقاً لتقديرات موسكو- توقّع تحوّل الخشونة الإعلامية والسياسية إلى احتكاك خشن على الأرض

إذ يشكّل تراجع ترمب عن موقفه السلبي تجاه حلف الناتو، وتأكيده أن الحديث عن رفع العقوبات عن روسيا سابق لأوانه، ووصفه لضم روسيا لشبه جزيرة القرم بـ"الغزو"، نكسة للمراهنات الروسية على ما يسمى بـ"إعادة تشغيل العلاقات الأميركية/الروسية" لتحسينها. وهو بالمناسبة مصطلح رفضه ترمب بعد فوزه بالانتخابات، رغم تعبيره حينها عن تطلعه نحو اتفاق مع نظيره الروسي.

جدير بالملاحظة هنا أن موقف ترمب السلبي من حلف الناتو كان يمكن أن يسلّح موسكو بعصا غليظة في مواجهة الأوروبيين، فقد حذرت أصوات أوروبية من أن تراجع دور هذا الحلف سيضر إلى حد بعيد بالعلاقات الأوروبية/الأميركية، وسيضعف مقومات الأمن الأوروبي المشترك.

حيث إن المؤسسات الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي ما زالت تعتمد على علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي، كما أن تراجع دور الحلف سيصب في صالح قوى اليمين الشعوبية المتطرفة في أوروبا، والتي ترفع شعار تفكيك الاتحاد الأوروبي.

وأخيراً جاءت استقالة فلين -وفقاً لآراء محللين روس- لتقصم ظهر مراهنات موسكو على بناء علاقات غير مسبوقة مع واشنطن في عهد ترمب، لكون الاستقالة أكدت مخاوف روسيا من أن رياح السياسة في واشنطن تجري -بمشيئة ترمب أو رغماً عنه- بما لا تشتهي سياسات رجل الكرملين القوي فلاديمير بوتين.

ورغم ما سبق، فإن موسكو ما زالت تتعامل حتى اللحظة مع الرسائل الأميركية من منظور اعتبارها مجرد مؤشرات فقط فتحت معركة إعلامية وسياسية تتصف بالخشونة اللفظية أحياناً.

وما زالت التقديرات الروسية تنطلق من أنه لا يمكن القطع بأن التوجهات الأميركية السلبية حيال السياسات الروسية ستشق طريقها بسهولة، ولذلك من المستبعد في المدى المنظور -وفقاً لتقديرات موسكو- توقّع تحوّل الخشونة الإعلامية والسياسية إلى احتكاك خشن على الأرض في الملفات الخلافية الساخنة، لاسيما الملفات السورية والإيرانية والأوكرانية.

إلا أن على روسيا أن تضع في حساباتها التراجع خطوتين إلى الوراء، في حال قررت إدارة ترمب الانتقال من الاكتفاء بإرسال رسائل إلى تنفيذ خطوات عملية تجاه الملفات المذكورة، وهذا يتطلب انتظار مزيد من الوقت حتى تتضح الصورة.

لكن موسكو ستظل تراقب عن كثب، لأن الرسالة الأخطر التي وصلت من واشنطن هي أن حالة الفوضى في السياسات الخارجية والأمنية الأميركية خلال الأسابيع الأولى من دخول ترمب إلى البيت الأبيض؛ تنذر بأنه وكبار المسؤولين في إدارته -ولاسيما فريق الأمن القومي- لا يترددون في اللعب على حافة الهاوية، والانتقال من ضفة إلى ضفة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.