الإبحار عبر مراوغات ترمب

US President Donald J. Trump signs Executive Orders in the Hall of Heroes at the Pentagon in Arlington, Virginia, USA, 27 January 2017.

إنه لمن قبيل التخفيف من جسامة الحقيقة أن نقول إن إدارة الرئيس دونالد ترمب أثارت الكثير من المشاكل في أسابيعها الأولى. فقد صاحب حفل تنصيبه انطلاق احتجاجات حاشدة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة والعالَم، واستمرت هذه الاحتجاجات منذ ذلك الحين.

وفي الوقت نفسه، أعلن ترمب بالفعل الحرب على الصحافة الأميركية المعارِضة، وأجرى مكالمات هاتفية حادة اللهجة مع قادة دول صديقة.

ولكن لفهم أداء الإدارة الجديدة في مجمل الأمر، ينبغي للمراقبين المنزعجين المتحيرين داخل الولايات المتحدة وفي مختلف أنحاء العالَم أن يتبعوا المبادئ التوجيهية العامة التالية، بدلا من التركيز كثيرا على أحداث منفصلة:

– المبدأ التوجيهي الأول هو أن كل الإدارات الأميركية الجديدة تتسم بالفوضوية في البداية، فتتعثر وتخلق قدرا كبيرا من البلبلة، وتقول وتفعل العديد من الأمور التي تتراجع عنها لاحقا، أو على الأقل تندم عليها. ولن يكون بعض المسؤولين على قدر المسؤولية، وسيتركون الحكومة بعد بضعة أشهر.

قدرة الإدارة الجديدة على الحفاظ على الاستمرارية والاستقرار الدولي ستتوقف على امتناعها عن اتباع المثال الذي ضربته الإدارة السابقة. فخلال رئاسة باراك أوباما كان العديد من كبار المسؤولين مهمشين، وكانت معالم السياسة الخارجية تتحدد -في عموم الأمر- بواسطة رئيس عديم الخبرة ومعاونيه الشباب الأقل خبرة في البيت الأبيض

الواقع أن العديد من الأخطاء التي تُرتَكَب في وقت مبكر من الرئاسة تنبع من خلل يعيب النظام السياسي الأميركي. ذلك أن الرؤساء الجدد يتولون مهام منصبهم من دون فريق كامل يعاونهم، ويتعين عليهم أن ينتظروا التصديق على ترشيحاتهم للوزراء وغيرهم من المسؤولين في الحكومة، أي الأشخاص الذين يديرون الحكومة في واقع الأمر.

وخلال الأسبوعين الأولين اللذين أمضاهما ترمب في المنصب، كانت إدارته تضم عددا قليلا من المساعدين يجوبون أرجاء البيت الأبيض. ومثلها كمثل سابقاتها، ستستقر إدارة ترمب وتتدبر أمورها، دون أن تفعل.

– المبدأ التوجيهي الثاني يتمثل في مراقبة السياسة الخارجية عن كثب. فنظرا للضوابط والتوازنات المتأصلة في صلب النظام الدستوري الأميركي، يتمتع الرؤساء بصلاحيات أوسع كثيرا عندما يتعلق الأمر بكيفية التعامل مع الدول الأخرى، مقارنة بصلاحياتهم في إدارة الشؤون الداخلية.

من المؤكد أن الأسابيع الأولى من رئاسة ترمب تنذر بتغييرات مزعجة للسياسة الخارجية الأميركية. فعلى مدار سبعين عاما، عملت الولايات المتحدة على صيانة الأمن العالمي من خلال شبكة من التحالفات، وأبقت الاقتصاد الدولي نشطا بفِعل التجارة الحرة. وخلال حملته الانتخابية، هاجم ترمب هذين الدورين الحاسمين. وإذا تخلت الإدارة عن هذين الدورين بالكامل فسيصبح العالَم مكانا أكثر فقرا وأشد خطورة.

ومع هذا، تبعث أغلبية الشخصيات الرئيسية الجديدة التي عينها الرئيس لتولي إدارة السياسة الخارجية على الثقة. فوزير الدفاع جيمس ماتيس جنرال سابق رصين يتمتع بخبرة عريضة ويحظى باحترام واسع، ويتبنى منظورا أمميا.

ورغم أن وزير الخارجية ركس تيلرسون لم يشغل أي منصب في الحكومة من قبل، فإنه اكتسب خبرة واسعة من عمله مع دول أخرى عندما كان رئيسا تنفيذيا لشركة إكسون موبيل، وهي شركة كبيرة متعددة الجنسيات تعمل في مجال الطاقة.

والواقع أن قدرة الإدارة الجديدة على الحفاظ على الاستمرارية والاستقرار الدولي ستتوقف على امتناعها عن اتباع المثال الذي ضربته الإدارة السابقة. فخلال رئاسة باراك أوباما كان العديد من كبار المسؤولين مهمشين، وكانت معالم السياسة الخارجية تتحدد -في عموم الأمر- بواسطة رئيس عديم الخبرة ومعاونيه الشباب الأقل خبرة في البيت الأبيض.

– المبدأ التوجيهي الثالث الذي يجب أخذه في الاعتبار هو أن المعارضة الأشد خطورة لترمب لن تأتي من أكثر خصومه صخبا. فلن تنجح المظاهرات العامة في إخراج إدارة ترمب عن مسارها، بل وربما تُفضي إلى تقوية عزيمتها في ملاحقة السياسات التي أثارت القدر الأعظم من الاعتراضات.

ومن الجدير بالذكر أن شعبية حركة الاحتجاج ضد حرب فيتنام كانت أقل حتى من شعبية الحرب ذاتها. ومثله كمثل الرئيس ريتشارد نيكسون، ربما يحاول ترمب استغلال النفور الشعبي من الاحتجاجات التخريبية العنيفة لحشد التأييد لسياساته.

ويشكل التيار الرئيسي في الصحافة -الذي هاجم إدارة ترمب في وقت مبكر للغاية وبقوة أعظم كثيرا مقارنة بهجومه على أي إدارة جديدة في ذاكرة التاريخ- مصدرا آخر صاخبا للمعارضة. بيد أن قدرة الصحافة على إحباط ترمب محدودة، لأنها تفتقر إلى المصداقية خارج الولايات الساحلية والمناطق الحضرية الكبيرة حيث يعارضه الناس بالفعل.

يشكل التيار الرئيسي في الصحافة -الذي هاجم إدارة ترمب بقوة أعظم كثيرا مقارنة بهجومه على أي إدارة جديدة في ذاكرة التاريخ- مصدرا آخر صاخبا للمعارضة. بيد أن قدرة الصحافة على إحباط ترمب محدودة، لأنها تفتقر إلى المصداقية خارج الولايات الساحلية والمناطق الحضرية الكبيرة

من ناحية أخرى، تعاني المعارضة الرسمية لترمب (الحزب الديمقراطي) من الضعف والانهزام والانقسام. ولكن هذه الإدارة ربما تواجه معارضة شديدة من جهات مختلفة. فبادئ ذي بدء، لا يستطيع ترمب مزاولة الحكم من دون الجمهوريين في الكونغرس، وقد يعمل كثير منهم على إحباط أي جهد يبذله في اتجاه التخلي عن تحالفات أميركا القائمة منذ أمد بعيد.

وربما يضطر ترمب أيضا إلى التعامل مع المعارضة من قِبَل كبار رجال الأعمال الذين التزموا الصمت إلى حد كبير، ولكن ربما يتملكهم الضجر من تغريداته الرعناء على موقع تويتر. ففي نهاية المطاف، يتعين على قادة الأعمال أن يراعوا واجب صيانة صحة شركاتهم، وسيحاولون منع أي سياسات تهددها.

ولن تتردد الشركات المتعددة الجنسيات -التي تدير عمليات دولية واسعة- في مقاومة المبادرات التي قد تؤدي إلى إشعال شرارة حروب تجارية. وفي كل الأحوال، لا يملك أي رئيس جمهوري -ولا حتى ترمب- ترف تجاهل قادة الصناعة الأميركية وعالَم المال.

– المبدأ التوجيهي الرابع الذي ينبغي لنا الانتباه إليه هو أن الديمقراطية الأميركية ستظل باقية. والتصريحات المخيفة حول صعود فاشية وليدة (أو فعلية) ليست في محلها. والواقع أن مؤسسات الحكم الأميركية الأساسية تمكنت من البقاء رغم تحديات أعظم من أي تحدّ قد يفرضه ترمب.

على الرغم من انقسام أميركا العميق في عام 2017، يظل الأميركيون ملتزمين بالمعتقدات المركزية للديمقراطية: الانتخابات الحرة النزيهة المنتظمة، وحماية الحريات السياسية والدينية والاقتصادية.

ومن غير المرجح أن يحاول ترمب إسقاط أي من هذه الحريات؛ وحتى إذا حاول فلن تلقى محاولاته سوى الفشل. وعندما يترك ترمب منصبه، ستكون أميركا في الأساس كما كانت عليه عندما دخل عليها: الديمقراطية الأكثر قوة في العالَم.

أخيرا، تدور مسألة أساسية تستحق أن توضع في الاعتبار؛ وهي ما إن كانت إدارة ترمب إدارة "طبيعية". فالرئيس الطبيعي يلاحق سياسات يمكن التنبؤ بها ويدعمها بشكل عام أولئك الذين صوتوا لصالحه، ويعارضها أولئك الذين لم يصوتوا لصالحه. ويتناسب مرشحو ترمب لمجلس الوزراء والمحكمة العليا مع هذا الوصف.

أما الإدارة التي تعمل خارج الحدود الطبيعية فستنتهج سياسات يعارضها حتى مؤيدوها والمتعاطفون معها، وقد تلحق ضررا جسيما بالبلاد والعالَم في عموم الأمر.

فهل تكون رئاسة ترمب طبيعية؟ عند هذه النقطة، ينبغي لنا أن ننحني احتراما لرد الزعيم الصيني الشيوعي شو إن لاي على السؤال الذي طرحه عليه أندريه مالرو حول رأيه في الثورة الفرنسية: "من المبكر للغاية أن نجزم الآن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.