اتفاقية وستفاليا ثانية للاعتراف بسيادة الدول

Saudi Crown Prince Mohammed bin Salman (C) poses for a photograph with chiefs of staff and defence ministers of a Saudi-led Islamic military counter terrorism coalition during their meeting in Riyadh November 26, 2017. REUTERS/Faisal Al Nasser

وُصفت الحروب قديما بأنها دينية لكون الملوك كانوا يزعمون لأنفسهم مكانة دينية تبرر سلطاتهم المطلقة، فهم إما أبناء الآلهة (مثل فراعنة مصر)، أو هم كهنتها والمتواصلون معها حصريا.

وفي ظل السلطة الإلهية للملوك، وجد بعض المتجبرين العادلين الإصلاحيين (وهم ندرة لكون السلطة المطلقة مفسدة) فائدة في نسبة قوانينهم إلى الإله، لتصبح "شرائع" تحظى بالديمومة ولا تُخرق فور وفاتهم. وأشهرها "شريعة حمورابي" التي يعتبرها البعض القمةَ في الحضارة والعدل.

ويجدر هنا التذكير بأن حمورابي أكّادي، والأكاديون عرب أتوا من الساحل الشرقي للجزيرة العربية إلى بلاد الرافدين (العراق) قبل الميلاد بأربعة ألفيات. وبعد قرون من الحروب وتأسيس مملكتهم؛ تولى حكمَهم ملكٌ عظيم هو سرجون الذي أسس أول إمبراطورية متعددة الإثنيات في التاريخ (تجسد التعايش في منطقتنا) بحدود عام 2237 ق.م. وقد امتدت هذه الإمبراطورية من "عيلام" شرق إيران إلى ساحل المتوسط غربا (لبنان وفلسطين)، ومن تركيا شمالا إلى شبه الجزيرةالعربية جنوبا.

الحروب بين الآلهة تحولت إلى اقتتال طوائف الأديان السماوية، وبما يخالف أهم تعاليم اثنتين منها هما المسيحية والإسلام. فالإسلام يؤكد حرية العقيدة وأنه لا إكراه فيه، وهذا منصوص عليه بقوة في أكثر من آية كريمة

ومن أسطورة شائعة في عهد سرجون استُمدت أبرز القصص التوراتية وهي قصة ميلاد النبي موسى، لكن بنسبة هذا الحدث لعام 1271 ق.م بحسب مؤرخي اليهودية، أي بعد الرواية الأكادية بألفية، وهو أمر هام لجهة تفنيد المزاعم اليهودية بأقدمية وجودهم في فلسطين على وجود العرب فيها. 

الحروب بين الآلهة تحولت إلى اقتتال طوائف الأديان السماوية، وبما يخالف أهم تعاليم اثنتين منها هما المسيحية والإسلام. فالإسلام يؤكد حرية العقيدة وأنه لا إكراه فيه، وهذا منصوص عليه بقوة في أكثر من آية كريمة. والفتوحات الإسلامية -التي بدأت في عهد النبي (ص) بمعركة اليرموك- كانت فعل دولة ردا على انتهاك لحق لها.

وكان سيدنا محمد يرأس دولة أسسها المؤمنون برسالته؛ ولكنه كرسول وخاتم للأنباء والرسل كان مكلَّفا بدعوة البشرية جميعا سادتها وعامتها، ولهذا سير الرُّسل إلى أكثر من حاكم. ولكن ملك الغساسنة قتل رسولَ رسولِ الله إلى هرقل "عظيم الروم". وهذا في عرف ذلك الزمن -كما الآن- إهانة بل وإعلان حرب؛ فسير الرسول جيشا لقتال الروم ردا على هذا.

أما الفتوحات -التي تلت في عهد أبي بكر وعمر بن الخطاب- فقد كانت حروب دولة حررت أرضا عربية من احتلال روماني، وامتدت إلى ما وراءها كما تفعل كل دولة تقوى وتحسب حسابات أمنها ونفوذها أيضا، والذي كانت وسائله في تلك العصور عسكرية أولا وأخيرا؛ فلا "أمم متحدة" ولا "قانون دولي" ولا "مجلس أمن"، ولم يستقر أي منها تماما إلى يومنا هذا، ولم تثبت حيدته ليُركَن إلى عدله.

وما يُثبت أن تلك الفتوحات لم تكن حروبا دينية؛ أن أحدا من أهل البلاد المفتوحة لم يُكره على ترك دينه والدخول في الإسلام، بل إن العهدة العمرية توثّق أرقى درجات احترام العقائد وحريتها، ومن دخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد دخلوه طوعا لا ترهيبا.

وأكثر منهم بكثير من دخلوا الإسلام في جنوب شرقي آسيا بحيث أصبحت تلك الدول "مسلمة" لاحقا لكون غالبية شعوبها أسلمت، مع أن من نقلوا الإسلام إلى هؤلاء أو قاموا بالدعوة إليه تجار مسلمون وليسوا عسكريين. 

والمسيحية رسالة سلام ومحبة، ولكن معاناة المسيحيين الأوائل -التي انتهت عام 313 ميلادية عندما اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول المسيحية وجعلها دين الدولة- عادت في صورة اقتتال بين طوائف مسيحية، بل وقتلٍ وتعذيبٍ شرسيْن لأجل السلطة بتُهم الهرطقة والسحر وبالدفاع عن العروش أو زعمه، على يد الكنيسة وليس فقط السلطة الحاكمة، فيما أسمي "التحالف غير المقدس" بين الكنسية والملوك.

وصل الاقتتال الطائفي إلى حروب عمت أوروبا كلها تقريبا مدة 131 عاما، كان أهم أطرافها ذات "الإمبراطورية الرومانية" التي أصبح وصف "المقدسة" يلحق باسمها هذا، إذ خاضت أشرسها وهي حرب الثلاثين عاما (الحرب الأخيرة) التي استخدمت فيها جيوشا مرتزقة، مما أدى إلى جرائم حرب فادحة

ووصل الاقتتال الطائفي إلى حروب عمت أوروبا كلها تقريبا مدة 131 عاما، كان أهم أطرافها ذات "الإمبراطورية الرومانية" التي أصبح وصف "المقدسة" يلحق باسمها هذا، إذ خاضت أشرسها وهي حرب الثلاثين عاما (الحرب الأخيرة) التي استخدمت فيها جيوشا مرتزقة، مما أدى إلى جرائم حرب فادحة بحيث قُتل في بعض المناطق ما يناهز ثلثيْ سكانها.

ولم يُفِد هذا أياً من الأطراف التي اضطرت لتوقيع اتفاقية وستفاليا عام 1648 التي أنهت الحروب الدينية بين الطوائف المسيحية، والأهم أن المعاهدة أدخلت إلى أوروبا نظاما مبنيا على مبدأ سيادة الدول. 

وبقيت عند الأوروبيين مشكلة اليهود الذين أصبحوا يعيشون في "غيتو" نفسي، لكون عقيدتهم تعتبر قتل وإيذاء وخداع وسلب "الأغيار" -بكل الوسائل الوحشية وغير الأخلاقية- واجبا دينيا، لا لعداء ظهر منهم بل لمجرد أنهم ليسوا يهودا. وذلك ليس كنتيجة لتشريد اليهود، بل لعنجهيتهم باعتقادهم أنهم أعلى من البشر، وغيرُهم مثل البهائم. وهذا ما يقوله التلمود -بل وتوراتهم- صراحة.

ولكن لأن التلمود كان الشريعة اليهودية الشفوية التي دُوّنت لاحقا في مجلدات، فإن من يُسمَّوْن اليهود الإصلاحيين -والذين ظهروا في النصف الثاني من القرن العشرين- يحاولون نفي أن يكن التلمود نزل على النبي موسى في سيناء. وهو أمر لن يفيد الآن لأن هذه التعاليم هي ما يكرره ويفصله حاخاماتهم.

وأحدث نسخة منه كتاب "توراة الملك" لحاخامين ومؤيَّد من حاخامات آخرين، ونُشر في إسرائيل عام 2009، ويمثل كتيبا (مقارنة بالتلمود الضخم) إرشاديا للفظائع التي على اليهودي فعلها بـ"الأغيار". و"عقيدة" كهذه تعني أن اليهود لا يستطيعون العيش في سلام.

والآنإسرائيل تعلن أنها غير معنية بأي حل للقضة الفلسطينية، وأنها لن تقبل أية سيادة على الأرض بين البحر والنهر لغير اليهود، وأنْ لا إزالة لمستوطنات فيها ولا عودة لفلسطينيين إليها. والأهم أنها تقول -بحسب تصريح لنائبة وزير الخارجية الإسرائيلية- إن "رئيس الحكومة يضع قضية إيران على رأس جدول الاهتمام، ويرفض أن يحتل مكانَها الصراعُ الإسرائيلي/الفلسطيني".

إيران التي كانت حقل نفط محتلا وقاعدة عسكرية واستخباراتية بريطانية/أميركية، سبق أن جربت أن تستعيد ثرواتها وبعض استقلالها "مدنيا" وديمقراطياً عبر حكومة محمد مصدق المنتخبة، فدبرت بريطانيا و"سي آي أي" انقلابا عليه. وهو ما دفع بصورة شبه حتمية لأن يكون الحراك التالي (الثورة الإيرانية) بتأييد شعبي عقائدي؛ فأصبحت إيران جمهورية إسلامية.

إسرائيل بتهديداتها تنبح ولكن لا تعضّ، كما يقول المثل الإنجليزي. وأي تحالف معها يعني أن يقوم الحلفاء بالمغامرة الحربية بدلا منها، وإن تحركت إسرائيل فستعطي إيران الذريعة والفرصة ربما لتحرير القدس، مما سيضع التاج الإسلامي على رأس إيران الشيعية الفارسية؟ لا يهم حينها

وهي لا تزعم احتكار تسمية الدولة الإسلامية، ولا قيادة العالم الإسلامي السني في غالبيته الساحقة، ولا مصداقية لزعم أنها تحاول تشييع السنة لأن هذا برنامج لا يمكن استكماله في قرون. والعكس هو القائم، فالتطرف السني هو مشكلة الدول السنية الآن وليس التشيع.

ولكن من حق -بل وواجب- النظام الإيراني إقامة تحالفات تضمن أمنه. والخطوة الأولى البدهية أن تعلن تأييدها لحقوق الشعب الفلسطيني ضد المحتل الإسرائيلي لأرضه ومقدسات تصل لمكانة أولى القِبلتين. والثانية أن تُطوِّر قدراتها لتصبح خارج منال مستعمريها السابقين وذراعهم إسرائيل، وهي كذلك الآن.

ومن هنا؛ فإن إسرائيل بتهديداتها تنبح ولكن لا تعضّ، كما يقول المثل الإنجليزي. وأي تحالف معها يعني أن يقوم الحلفاء بالمغامرة الحربية بدلا منها، وإن تحركت إسرائيل فستعطي إيران الذريعة والفرصة ربما لتحرير القدس، مما سيضع التاج الإسلامي على رأس إيران الشيعية الفارسية؟ لا يهم حينها. ألم يرفع العرب والمصريون ذاتهم صورة حسن نصر الله إلى جانب صورة جمال عبد الناصر؟

والأرجح ألا يحدث أي من هذا لأن أحدا لن يجازف بالتصدي عسكريا لإيران أو لحزب الله، أو لأي من أصدقاء أو حلفاء إيران الجُدد. وما سيجري قد يكون استنزافا للدم العربي المسلم السني بينيًّا في اقتتال وتفجيرات ليست كالذي يجري في اليمن وفشل ويُلزم بمخرج، بل كالذي يجري في مصر؛ فالدول الكبرى مساحة لها أكثر من خاصرة ضعيفة.

إنها حروب كالتي أهلكت أوروبا من قبل ولم تكن اليهودية بريئة منها، ولن تكون بريئة من نسختها العربية؛ فهي داعمة تنظيم (داعش) المتبقي. وفي النهاية، سيسعى الكل منهَكين إلى "اتفاقية وستفاليا" عربية إسلامية والتسليم بسيادة الدول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.