ما وراء أكمة المصالحة

blogs المصالحة الفلسطينية

أجواء الخريف العربي
انتقام من غزة
تطويع عباس مصرياً

فجأة وبلا مقدمات؛ يتم الإعلان عن فرصة ذهبية لإتمام المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، برعاية مصرية وموافقة أميركية صهيونية على رفع الفيتو عنها.

الوجوه التي اعتادت حماس ألّا تلقاها إلا وهي متجهِّمة عابسة مكفهرَّة لبست قناعاً جديداً ارتسمت عليه ابتسامة غامضة، ولهجة التعالي والاتهام والتهديد والوعيد استحالت إلى لهجة غريبة، حَوَت مفرداتٍ جديدة تحتمل أوجهاً عديدة تزيد الغموض غموضاً والحيرة اتساعاً.

طيف واسعٌ من أبناء حماس لا يكاد يستوعب الذي يجري، وشعور بالقلق والارتياب يسيطران على الموقف، وإحساس بأن الحركة تُستدرج إلى فخٍ كبير ومصيدة كبرى؛ غير أن أحداً منهم لا يكاد يملك تفسيراً كافياً وردًّا شافياً على الذي يجري، سوى التعلُّل بحفظ الله لها ببركة دماء الشهداء ودعاء الأتقياء الأصفياء.

والتذرع بأن لدى الحركة رصيدا كبيرا من الحنكة السياسية، ومن الحيطة والحذر حيال أي محاولة من الخصوم لتقويض حكمها في غزة، ومصادرة منجزاتها التي راكمت بها مخزوناً لا يستهان به من وسائل المقاومة وأساليبها.

ولفهم السؤال الأكثر تداولاً: لماذا هذا التوقيت بالذات؟! لا بد من استعراض بعض المحطات المهمة والاستثنائية لتخمين إجابة مفترضة على ذلك السؤال.

أجواء الخريف العربي
انقضى "الربيع العربي" أو هكذا بدا للمراقبين، فأغلب الدول التي عصفت بها الثورات أُخمدت براكينها وسيق الذين تولَّوا إشعالها إلى السجون زُمَراً زُمَراً، ونُشرت قوائم للإرهاب حوت الكثير ممن دعموا تلك الثورات مادياً أو معنوياً أو إعلامياً، وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي.

كما وُصمت جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب في دولٍ لم تكن قد شهدت أي خصومة سابقة معها، وهو إجراء أريد منه بطريقة غير مباشرة تضمين حركات كثيرة استقت فكرها ومنهجها من فكر الجماعة ومنهجها الذي أرساه إمامها المؤسس حسن البنا، وبطبيعة الحال فإن حركة حماس كانت هدفاً مقصوداً ومرصوداً بذلك القرار لكونها "أحد أجنحة الإخوان المسلمين"، حسب ميثاقها القديم.

وهي في هذه الظروف تخوض معركةً سياسيةً بالغة التعقيد، منفردةً بلا ظهير يسندها ولا نصير يعينها لا من الدول والحكومات، ولا حتى من الشعوب المغيَّبة بين شقيْ رحىً دائرة تطحن الثورات والحريات والآمال والطموحات.

وُصمت جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب في دولٍ لم تكن قد شهدت أي خصومة سابقة معها، وهو إجراء أريد منه بطريقة غير مباشرة تضمين حركات كثيرة استقت فكرها ومنهجها من فكر الجماعة ومنهجها الذي أرساه إمامها المؤسس حسن البنا، وبطبيعة الحال فإن حركة حماس كانت هدفاً مقصوداً ومرصوداً بذلك القرار لكونها "أحد أجنحة الإخوان المسلمين"، حسب ميثاقها القديم

تقف حماس وحدها في مواجهة أحلاف عربية غربية صهيونية متكاتفة ضدها، متفقة على إقصائها وإجهاض تجربتها وإنهاء وجودها، والتخلص منها وإلحاقها بالثورات العربية التي تم وأدها في الخريف العربي.

وقد انطوت الانتخابات الداخلية الأخيرة لحركة حماس على أهمية كبيرة، وحظيت بمتابعةٍ واهتمامٍ بالغيْن من المحبين لها والمتربصين بها، لكونها أجريت بعد ترك رئيس مكتبها السياسي الأستاذ خالد مشعل منصبه، ولأن المرشح الأكثر حظاً بالفوز هو رئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية المحسوب جغرافياً على الداخل الفلسطيني.

لم تحصل أية مفاجآت في تلك الانتخابات فيما يتعلق بالفائز فيها، لكن اللافت للنظر كان سماح السلطات المصرية بخروج هنية لإتمام أمور الانتخابات بسلاسة ويسر، مع إيحاءاتٍ بإمكانية تكرار السماح له بالدخول والخروج، وهو ما لم يحدث عقب دخوله غزة، بل ظهرت نوايا النظام المصري جَليَّةً بحصره في غزة، عندما لم تسمح له بالتحرك في جولة خارجية بعد وصوله إلى مصر مؤخراً.

يمكن بسهولة فهم الغاية التي كان يرنو إليها النظام المصري وراء ذلك، بأنها ببساطة محاولة جادة لانتزاع قرارات صعبة من قيادةٍ محاطة بالأسلاك الشائكة المصرية، وانتهاز فرصة الانشغال بترتيب تداول الملفات الذي يعقب أي عملية انتخابية لأي مؤسسة، بتنفيذ مخططٍ يرمي لإرباك الحركة وزعزعتها قبل أن تلتقط أنفاسها وتتكيف مع الوضع الجديد لتموضع القيادة داخليا وخارجيا.

وحسب التقييم المصري؛ فإن قيادة حماس المحاصرة في غزة غدت في القبضة المصرية، ولكي يتم استكمال الخطة المرصودة لتطويع الحركة، كان لا بد من معالجة جسم الحركة بالخارج الذي تتوزع قياداته بين قطر وتركيا، ولذلك الغرض تلاقت أيدي دونالد ترمب وعبد الفتاح السيسي والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، على البلورة الزجاجية في افتتاح "مركز اعتدال لمكافحة الفكر المتطرف".

وما هو إلا أن فُرض الحصار الرباعي على قطر الحليف الوحيد عربياً لحماس، وكانت التهمة إيواء قيادات حماس "الإرهابية"، كما أظهرت تصريحات وزير خارجية السعودية عادل الجبير وسفيرها في الجزائر.

وبدا واضحاً أن ذلك الحصار سيطول أمده وأن شظاياه ستشمل الحركة بشكل مباشر وغير مباشر، إن عاجلاً أم آجلاً. ضغطت دول الحصار بشدة على قطر لتقديم تنازلاتٍ مؤلمة، وكان جلياً أن رأس حماس إحدى أولى أولويات المطالب من قطر.

غير أن التماسك الذي أبدته القيادة القطرية والصلابة الفائقة تجاه الأهداف المعلنة وغير المعلنة لحصار قطر، والدبلوماسية المتزنة الواثقة من نفسها، إضافة إلى التدخل التركي السريع في مجريات الأحداث؛ فوَّت الفرصة تماماً على المتربصين بإمكانية إحداث اختراق جسيم كان يمكن أن ينعكس سلبياً على قيادة حماس في الخارج.

انتقام من غزة
لم تسِر الخطة المرصودة لضرب حماس على الوجه الذي أريد لها، فاستدعى ذلك تفعيل خططٍ بديلة تحمل طابع الاستعجال لدى واضعيها.

وكان أن ازدادت الإجراءات شراسةً وحِدّةً على قطاع غزة وصولاً إلى التهديد بإعلانه إقليماً متمرداً، وهو ما أنذر بتفجر الأوضاع الإنسانية فيه وثوران الشارع الغزي، خاصة أن ذلك تزامن مع حصار قطر الذي ألقى بظلاله القاتمة على القطاع، باعتبار أن قطر هي المموِّل شبه الوحيد لمشاريعه الإغاثية والإنمائية والإنسانية.

ويمكن القول إن الأمور وصلت إلى ذروة التصعيد وتشديد الحصار، خاصة أن تلك الإجراءات واكبت غلقاً محكماً لمعبر رفح، وتزامن كل ذلك مع التلويح الإعلامي بقرب ضربة عسكرية قاصمة لحماس ضمن "صفقة القرن"، التي رَوِّج لها الجميعُ رغم تناقضها -في بعض حيثياتها- مع الواقع والتاريخ وحتى الجغرافيا، مما يجعلها مجرد فرقعة إعلامية ضمن الحرب النفسية لا أكثر.

أرسلت الحركة وفدها إلى القاهرة برئاسة يحيى السنوار حيث التقى هناك بدحلان، وتم الإعلان عن تفاهمات واتفاقيات معه اشتملت على تشكيل لجنة فلسطينية مصرية إماراتية لتمويل مشاريع تنموية في غزة، وصاحبت ذلك إشاعة أجواء من التفاؤل بقرب فتح معبر رفح وانحسار أزمة الكهرباء. ولم يكن سهلاً أن يهضم أبناء حركة حماس تلك الوجبة عسيرة الهضم

قراءة تلك الظروف جعلت الدبلوماسية المصرية تنشط سريعاً وتتحرك بطريقة مفاجئة، استخدمت خلالها وسائل الترغيب والترهيب مع حماس. وحرص خلالها النظام المصري -في تلك المرحلة الحساسة جداً- على ألا يكون تواصله معها منفرداً.

فقد عمد إلى إقحام عدو الحركة اللدود بينهما، حتى بدا أن أي تسهيلات يمكن أن يتنازل النظام المصري عنها للحركة لن تكون إلا عبر قناة محمد دحلان، واستطاع النظام بذلك أن يحقق مكاسب هائلة جداً بعد أن تساهلت حماس وتجاوبت مضطرة مع المطالب المصرية.

أرسلت الحركة وفدها إلى القاهرة برئاسة يحيى السنوار حيث التقى هناك بدحلان، وتم الإعلان عن تفاهمات واتفاقيات معه اشتملت على تشكيل لجنة فلسطينية مصرية إماراتية لتمويل مشاريع تنموية في غزة، وصاحبت ذلك إشاعة أجواء من التفاؤل بقرب فتح معبر رفح وانحسار أزمة الكهرباء.

لم يكن سهلاً أن يهضم أبناء حركة حماس تلك الوجبة عسيرة الهضم، أو أن يمر مشهد ذلك اللقاء السيريالي بشكل طبيعي على من دأبوا زماناً على اعتبار دحلان مخلبَ الأعداء المسموم. ولم يكن هيناً أيضاً على حلفاء حماس أن يستسيغوا تلك الخطوة مع شخص استخدمته دولٌ معادية لهم لزعزعة أمنهم وتهديد مستقبلهم.

تسبب ذلك اللقاء في ارتباك على الصعيد الداخلي لحماس، فقد بدا وكأن هناك تبايناً وافتراقاً بين "حماس غزة" و"حماس الضفة" و"حماس الخارج"، وأسقط في أيدي الكثيرين من المتعاطفين معها، خاصة مع عدم وجود توضيحات شافية لما جرى وجدواه فعلياً في الواقع. وقد دفع ذلك حماس لتدارك الوضع بإشراك قيادات من الخارج في لقاء القاهرة، قاطعة الطريق على المراهنين على انشطارها.

وقد علل محللون سياسيون كُثر اقترابَ حماس من دحلان بأنها تمارس هجوماً مضاداً لعباس، مما جعله يستشيط غضباً ويتحرك تحركاً مضاداً بزيارته لتركيا لسحب ملف المصالحة من مصر.

أبدت تركيا استعداداً لتولي هذه المهمة وأطلقت مبادرة لإنجازها، غير أن فرص نجاحها لم تكن لتُذكر، فانبثاقها من تركيا أحدث حراكاً سريعاً مضاداً لها، إذ تلقّى عباس فورا اتصالين هاتفيين مهمين من الأمير السعودي محمد بن سلمان ومن الملك الأردني عبد الله الثاني.

تطويع عباس مصرياً
تسارعت الأحداث وأعلنت حماس من القاهرة حلّ لجنتها الإدارية في غزة، وبدا أن ذلك كان ذروة التنازلات التي قدمتها إرضاءً لمصر، وسدًّا للذرائع التي تعلّل بها عباس لتبرير إجراءاته العقابية. وهنا تدخلت مصر فساقت عباس سوقاً إلى التوقيع على اتفاق المصالحة رغماً عنه.

فهل كان ذلك مصالحة أم ترتيبات لرحيل عباس؟ هناك حدثٌ مهمٌ جداً لم يأخذ حقه إعلاميا لكونه تزامن مع ذروة أحداث المسجد الأقصى، واهتمت به الأوساط الصهيونية أكثر من غيرها، وهو تردِّي الوضع الصحي لعباس، الذي أُدخل بسرعة إلى المستشفى أواخر يوليو/تموز الماضي.

وأشارت مصادر أمنية لصحيفة "هآرتس" إلى أن الانطباع لدى مصادر "إسرائيلية" وفلسطينية أنه "طرأ تدهور ملموس على وضعه الصحي، وأنّ من شأن استمرار ذلك أن يسرّع عمليات تغيير في الحكم والسلطة الفلسطينية".

يمكن تفسير التوق المصري لإنجاز المصالحة باستعجال أخذ الموافقة من حماس على ترتيب انتخابات رئاسية بشكل عاجل، أو التوافق على تعيين نائبٍ يخلف عباس بعد رحيله، ذلك أن بقاء غزة تحت السيادة المطلقة لحماس يُعيق تشريعياً وقانونياً أي تداولٍ سلميٍ للسلطة، يمكن أن يقي السلطة الفلسطينية من الانهيار. وبالكاد يستطيع أبو مازن الوقوف في وجه الرغبة المصرية المدعومة أميركيا وصهيونياً

وأشارت القناة العاشرة إلى أنَّ رحيل عباس سيؤثر على الكيان الصهيوني والمنطقة، وأنَّ "هناك -في المجلس الوزاري المصغر- من يرى ضرورة الاستعداد للأمر، وأنهم يجرون مناقشاتٍ حثيثة بشأن ذلك".

يمكن القول إن ما جرى بعد 31 يوليو/تموز وحتى اليوم كان محاولة لترتيب أوضاع السلطة الفلسطينية حال غياب رئيسها عباس، وإنقاذها من الانهيار التام؛ الأمر الذي يعني تعزيز سيطرة حماس واستلامها زمام الأمور، خاصة في الضفة المحتلة.

وعليه؛ فيمكن تفسير التوق المصري لإنجاز المصالحة باستعجال أخذ الموافقة من حماس على ترتيب انتخابات رئاسية بشكل عاجل، أو التوافق على تعيين نائبٍ يخلف عباس بعد رحيله، ذلك أن بقاء غزة تحت السيادة المطلقة لحماس يُعيق تشريعياً وقانونياً أي تداولٍ سلميٍ للسلطة، يمكن أن يقي السلطة الفلسطينية من الانهيار.

بالكاد يستطيع أبو مازن الوقوف في وجه الرغبة المصرية المدعومة أميركيا وصهيونياً، وهم يضعون اللمسات الأخيرة لحفل وداعه ومراسيم جنازته؛ ولذلك فالمتوقع أن يواصل تصعيد لهجته وحجم طلباته التعجيزية من حماس أملاً في دفعها للانقلاب على المصالحة وإفشالها.

وعلى المدى القريب؛ فإن ذلك قد يخدم رعاة المصالحة لتشعر حماس بأن عليها أن تدفع ثمناً مؤلماً مقابلها، غير أن تلك المطالب العالية ستتقلص إلى ما يمكن أن تحسبه حماس أمراً لا يمسّ مشروعها المقاوم، وهو القبول بإجراء ترتيبات تتعلق بإعادة هيكلة السلطة، بحيث يُرفع الفيتو عن دحلان وتياره ويجري تمكينه على الأرض كخليفة محتمل لعباس.

والكرة الآن في ملعب حماس، فإن هي فطنت لما يُدبّر لها وتمنَّعت عن التجاوب مع محاولات تطويعها ترغيباً وترهيباً؛ فستُبطل مخططاً جهنميّاً يراد به إخراج السلطة الفلسطينية من غرفة الإنعاش وهي تلفظ آخر أنفاسها.

إنها بذلك ستحرم النظام المصري من فرض واقعٍ جديد فشل سابقاً في فرضه على غزة بالحديد والنار وتشديد الحصار. وستجني الحركةُ وحلفاؤُها ومشروعُ المقاومة والشعبُ الفلسطيني مكاسبَ إستراتيجية على المدى البعيد.

أما إذا ابتلعت الطُّعم المصري بإبداء أية مرونة في هذه المرحلة الدقيقة، وتساوقت مع مطالب في ملفات قد تبدو غير حساسة؛ فإن ذلك سيؤدي إلى اهتزاز السنارة هناك في القاهرة لتبدأ مرحلة تنصيب خليفة عباس الجديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.