كردستان العراق.. بين إرث البارزاني وجيل الأبناء

Iraqi Kurdish faction Kurdistan Democratic Party (KDP) leader Massoud Barzani thoughtfully walks through the martyrs cemetery in Sulaimaniya September 10 after this northern Iraqi town was captured by the KDP troops and ousted rival Kurdish faction PUK supporters. KDP leader Barzani has issued an amnesty to Talabani's Patriotic Union of Kurdistan (PUK) forces and said new elections must be organised as soon as Talabani admits defeat.

الإرث الثقيل
جيل الأبناء
المعادلة الإقليمية 

يثير تنحي مسعود البارزاني عن رئاسة إقليم كردستان العراق عقب خسارة المناطق المتنازع عليها خلال أيام قليلة؛ أسئلة كثيرة عن مستقبل الإقليم، إذ إن انتهاء عهد مسعود -على النحو الذي جرى- وضَع الإقليم أمام إرث صعب، في ظل الأزمة الاقتصادية الجارية، والانقسامات الكردية، والتصعيد الجاري من الحكومة المركزية ببغداد، والتحديات الإقليمية الكثيرة.

فالمرحلة الجديدة تبدو مفتوحة على مصراعيها إلى حد السؤال عن مصير "البارزانية السياسية"، التي شكّلت عنوانا للنضال القومي الكردي وللحكم في إقليم كردستان العراق طوال العقود الماضية.

الإرث الثقيل
لم يكن مسعود البارزاني يريد ترك منصبه على النحو الذي جرى، بل كان يريد أن يدخل التاريخ كأول زعيم كردي يؤسس أول دولة كردية مستقلة في العصر الحديث، لكن الرياح جرت عكس سفنه فاضطر إلى ترك منصبه، على وقع خسارة كركوك وانتهاء مدة ولايته الممددة أصلا.

والأهم من ذلك هو فشله في جلب اعتراف إقليمي أو دولي بنتائج الاستفتاء، فترك بذلك إرثا ثقيلا يخيم على الإقليم في الداخل، وعلى علاقاته ببغداد ودول الجوار الجغرافي. لقد كان المأمول من الاستفتاء فتح الطريق أمام شرعية الانفصال وإقامة دولة مستقلة.

لم يكن مسعود البارزاني يريد ترك منصبه على النحو الذي جرى، بل كان يريد أن يدخل التاريخ كأول زعيم كردي يؤسس أول دولة كردية مستقلة في العصر الحديث، لكن الرياح جرت عكس سفنه فاضطر إلى ترك منصبه، على وقع خسارة كركوك وانتهاء مدة ولايته الممددة أصلا

ومع أن البارزاني يستطيع القول إنه نجح في إجراء الاستفتاء ولم يتراجع عنه رغم الضغوط الكثيرة؛ فإن نتائج الاستفتاء تُشكّل اليوم أكبر تحدٍّ أمام الإقليم، فهو لا يستطيع التراجع عنها لما سيشكله ذلك من "خيانة" لإرادة أكثر من 90% من الذين صوتوا بـ"نعم" لصالح الانفصال.

وفي المقابل؛ يصعب على البارزاني التمسك بنتائج الاستفتاء مع رفض بغداد لها، واشتراطها إلغاءها قبل بدء الحوار مع أربيل، هذا فضلا عن قرار المحكمة الاتحادية العليا (أعلى سلطة قضائية في العراق) بإيقاف الاستفتاء بشأن استقلال إقليم كردستان.

ولعل الأصعب من نتيجة الاستفتاء هو الوضع الاقتصادي للإقليم، إذ إن الأخير يعاني -حسب التقارير- من مديونية ضخمة تقارب 24 مليار دولار بينها 4 مليارات لتركيا وحدها، وكذلك يعاني من شلل اقتصادي بعد هروب الاستثمارات وتوقف المشاريع، والعجز عن تسديد رواتب الموظفين وقوات البشمركة.

وما يزيد قتامة الوضع هو حجم الانقسامات الداخلية، وهي انقسامات تشمل مختلف مناحي الحياة؛ فهناك انقسام بين السليمانية وأربيل على المستوى الجغرافي والسياسي (بين الحكومة والأحزاب).

فالخلافات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وأحزاب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير والاتحاد الإسلامي، كانت سببا في وصول الأمور إلى ما يشبه الاستعصاء السياسي، مما عرقل إيجاد حل لأزمة رئاسة الإقليم، وأدى لتأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وسط تراشق سياسي واتهامات بالخيانة والفساد واحتكار الثروة والسلطة. وباختصار فإن ذلك إرث ثقيل يخيم بظلاله على "البارزانية السياسية" ومستقبل الإقليم.

جيل الأبناء
مع ترك البارزاني لمنصبه ووفاة كل من جلال الطالباني ونوشيروان مصطفى؛ ثمة جيل جديد من القادة الكرد من أمثال نيجيرفان البارزاني (ابن شقيق مسعود) ومسرور البارزاني (ابن مسعود) ونجليْ الطالباني بافيل وقوباد.

ولعل التحدي الأكبر -الذي يواجه هذا الجيل- يتعلق بكيفية التوفيق بين السياسة التقليدية لجيل الآباء، وانتهاج سياسة جديدة تلائم متغيرات الداخل وضروارات انتهاج سياسة مغايرة، تواكب مفردات العصر ومفاهيمه السياسية والاجتماعية بعيدا عن العائلية، حيث جيل الشباب الذي يتوق للحرية والمشاركة وفرص العمل والتعبير عن الذات.

ورغم أن أصابع الاتهام في خسارة كركوك توجه إلى بافيل طالباني وصفقته مع قاسم سليماني (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) والحشد الشعبي؛ فإن ثمة من يأمل أن يكون جيل الأبناء أقل حدة في التعامل فيما بينهم، وأكثر ليونة وبراغماتية في التعامل مع بغداد وتطبيع العلاقات مع أنقرةوطهران.

لعل التحدي الأكبر -الذي يواجه الجيل الجديد من الكرد- يتعلق بكيفية التوفيق بين السياسة التقليدية لجيل الآباء، وانتهاج سياسة جديدة تلائم متغيرات الداخل وضروارات انتهاج سياسة مغايرة، تواكب مفردات العصر ومفاهيمه السياسية والاجتماعية بعيدا عن العائلية، حيث جيل الشباب الذي يتوق للحرية والمشاركة وفرص العمل والتعبير عن الذات

ولعل ما يشجع على أخذ جيل الأبناء دوره السياسي في المرحلة المقبلة هو الترحيب الذي صدر من الإدارة الأميركية بالتعامل معهم، وكذلك رغبة بغداد في التخلص من مسعود البارزاني، والتعامل مع قيادة جديدة تكون أقل حدة في التوجهات القومية الرامية إلى الانفصال عن العراق وإقامة دولة كردية مستقلة، إذ ثمة ميل عام إلى تحميل مسعود مسؤولية كل ما جرى.

ومع بقاء منصب رئيس الإقليم شاغرا؛ فإن الأنظار تتجه إلى نيجيرفان البارزاني بوصفه الرجل الذي سيدير المرحلة المقبلة، فنيجيرفان دَرَس العلوم السياسية من جامعة طهران، وهو حفيد مؤسس حزب الديمقراطي الكردستاني مصطفى البارزاني، وقد ورث معظم صلاحيات عمه وصهره مسعود، فضلا عن رئاسته للحكومة الكردية.

يبدو أن نيجيرفان رجل التوافق على المستوى الكردي والإقليمي، فخطابه يركز على كيفية إعادة ترتيب البيت الكردي بعيدا عن التجاذبات والصراعات، وعلى الحوار مع بغداد بعيدا عن الشعارات والتصريحات النارية، وكذلك على إعادة الوصل مع أنقرة والانفتاح على طهران، بعد أن وقفت العاصمتان إلى جانب حكومة حيدر العبادي في الأزمة الجارية مع الإقليم.

كذلك فإن قوباد الطالباني -الذي وُلد في العاصمة السورية دمشق عام 1977، والحاصل على شهادة الهندسة من بريطانيا، والمتزوج من سيدة الأعمال الأميركية شيري غراهام (من أصل يهودي)- يعمل نائبا لنيجيرفان في رئاسة الحكومة. وقد عُرف قوباد بالهدوء وممارسة السياسة بعيدا عن الشعارات، وكان لافتا ظهور صورته خلال اجتماع حكومي مع نيجيرفان عُقد في اليوم التالي لخسارة كركوك، وسط اتهامات لشقيقه بافيل بالخيانة.

ومن بين الأسماء الصاعدة؛ يبرز اسم برهم صالح الذي انشق مؤخرا عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وأسس حزب التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة. وصالح خريج الهندسة الإلكترونية من جامعة ليفربول البريطانية، وعمل وزيرا ومن ثم رئيسا لحكومة إقليم كردستان. كثيرا ما يوصف بأنه "ثعلب السياسة ورجل الانفتاح والاعتدال"، ويتمتع بعلاقات إقليمية ودولية جيدة.

وإلى جانب هؤلاء؛يُتداول اسم مسرور البارزاني مسؤول الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان، ونجل مسعود الذي يصعب على مؤيديه خروجه من المشهد السياسي.

في الواقع، وبغض النظر عمن سيفوز برئاسة إقليم كردستان لقيادته خلال المرحلة المقبلة؛ فإن ثمة قناعة بأفول نجم القيادات السابقة من أمثال مسعود البارزاني وهيرو إبراهيم أرملة الرئيس الراحل جلال الطالباني، وغيرهما من القادة الذين أوصلت سياستُهم التقليدية الإقليمَ إلى انتكاسة سياسية.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف ستخوض الأحزاب الكردية المرحلة المقبلة في ظل البنى التقليدية العائلية والعشائرية والمناطقية؟ سؤال ربما يمكن ملاحظته من حل الاتحاد الوطني لمكتبه السياسي وإعلانه عقد مؤتمر عام في مارس/آذار المقبل، وهو أمر ربما ينسحب على أحزاب أخرى بعد أن أظهرت التطوراتُ تكلّسَ بناها، والانفصام بين قيادتها والجيل الجديد.

المعادلة الإقليمية
الثابت أنه لا يمكن تصور أي تغير سياسي في المشهد السياسي بكردستان العراق -سلبا أو إيجابا- بعيدا عن عامل اللاعبين الإقليميين وتحديدا تركيا وإيران، نظرا لتأثير وتداخل العوامل الأمنية والسياسية والاقتصادية، وليس غريبا أن أحد أهم أسباب ما جرى للإقليم مؤخرا هو موقف الدولتين الداعم لبغداد، مع اختلاف نظرة كل طرف إلى مستقبل العراق.

ثمة معادلة قديمة/جديدة وهي أن السليمانية ومجموعة الأحزاب التي تتخذ منها معقلا تقعان في فلك إيران، بينما كانت أربيل في تحالف مع تركيا قبل أن تتعرض العلاقات بينهما لانتكاسة بسبب الاستفتاء. لكن محددات اقتراب كل من إيران وتركيا من الإقليم مختلفة، خاصة أن الطرفين في صراع تاريخي على الدور والنفوذ في العراق والمنطقة عموما.

ثمة معادلة قديمة/جديدة وهي أن السليمانية ومجموعة الأحزاب التي تتخذ منها معقلا تقعان في فلك إيران، بينما كانت أربيل في تحالف مع تركيا قبل أن تتعرض العلاقات بينهما لانتكاسة بسبب الاستفتاء. لكن محددات اقتراب كل من إيران وتركيا من الإقليم مختلفة، خاصة أن الطرفين في صراع تاريخي على النفوذ

وهو ما يجعل التحالف الذي نشأ بينهما ضد الاستفتاء الكردي مؤقتا وقابلا للتغيير، خاصة بعد أن تلاشت إمكانية قيام دولة كردية على الأقل في المدى المنظور. وربما تحس إيران بأنها المنتصر الأكبر في كركوك، لا بسبب إفشالها قيام دولة كردية على حدودها فحسب، بل ولضم المناطق التي خسرها إقليم كردستان إلى نفوذ بغداد، والحديث عن اتفاقية مع الحكومة العراقية لتصدير نفط كركوك إلى إيران.

وفي المقابل؛ فإن تركيا رغم موقفها الرافض للاستفتاء لاعتبارات أمنها القومي، فإنها تحس بخسارة كبيرة إزاء إقليم ظل حليفا لها منذ الغزو الأميركي للعراق وكان منفذا اقتصاديا قويا لها، ولعل أنقرة تفكر في إعادة وصل ما انقطع لا سيما في ظل تصدر نيجيرفان البارزاني الذي يعد حليفا قويا لها المشهد السياسي.

وبغض النظر عن اختلاف محددات الموقفين التركي والإيراني؛ فإن من سوء حظ الكرد أن العامل الإقليمي يقف دوما في الموقف المضاد لمصالحهم القومية العليا، إذ إن هذا العامل أصبح من أهم أسباب الخلافات والانقسامات الكردية/الكردية، ولا يبدو في الأفق ما سيغير هذه المعادلة.

وعليه؛ يمكن القول إن الصراع بين أربيل والسليمانية سيبقى قائما في المرحلة المقبلة وإن بدرجة أقل، كما أن أربيل قد تجد نفسها في مواجهة مع السليمانية وقنديل معاً، خاصة أن مسألة القضاء على نفوذ قنديل (معقل حزب العمال الكردستاني التركي) تبقى أهم محددات العلاقة بين تركيا وأربيل.

ختاما، يبدو إقليم كردستان العراق بحاجة إلى إصلاح جذري بعيدا عن التفكير في رئاسة الإقليم كغنيمة سياسية، إصلاح يعيد ترتيب البيت الداخلي للإقليم ومؤسساته بعيدا عن حكم العائلة والمحاصة الحزبية، واتباع سياسة تتخطى المفاهيم التقليدية، وفي مقدمتها تلك التي تقول: لا صديق للكرد سوى الجبال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.