السَّنة السياسية في تونس.. الفرص والتحديات

احتجاجات بالشارع رافقت جلسة التصويت على قانون المصالحة

1- الصيف القائظ: ربما لم يشهد التونسيون صيفا بمثل هذه السخونة منذ 2013؛ فخلال الأشهر القليلة الماضية تحركت أشياء كثيرة في نفس الوقت، وتزاحمت الأجندات فكأننا أمام مخاض ما.

لنسترجع الصورة كي يتسنى لنا الفهم: ففي شهر مايو/أيار حركت الحكومة ملف مقاومة الفساد، لتجد تجاوبا شعبيا في مقابل مواقف متباينة من المنتظميْن المدني والسياسي، بين متحمس ورافض ومشكك، ومتحفظ يطالب بسياسة شفافة وغير انتقائية ومنضبطة بالقوانين.

ثم يُفاجأ الرأي العام -بعد ذلك بأيام- بأن هذه الحكومة لم تنجح وتحتاج إلى تغيير، ومكثت البلاد تحبس أنفاسها أسابيع طويلة بانتظار التغيير وعمقه ومستوياته وطبيعته. هذه هي الحكومة العاشرة منذ الثورة، وهي الحكومة الرابعة منذ الانتخابات الأخيرة. وتذكر كثيرون ما حصل لحكومة السيد الحبيب الصيدمنذ سنة.

يعاد طرح "قانون المصالحة"، وهو الصيغة الملطفة للعفو عن عدد من مسؤولي العهد السابق. وتطرح مبادرات ذات طابع ثقافي (المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، زواج المسلمة بغير المسلم). في خرق لنوع من التوافق الضمني على تقديم السياسي التنموي وتأجيل الثقافي

وفي الأثناء يعاد طرح "قانون المصالحة"، وهو الصيغة الملطفة للعفو عن عدد من مسؤولي العهد السابق. وتطرح مبادرات ذات طابع ثقافي (المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، زواج المسلمة بغير المسلم).

وذلك خرق لنوع من التوافق الضمني على تقديم السياسي التنموي وتأجيل الثقافي، في مجتمع لا تنقصه محاور التقسيم بسبب التاريخ والثقافة والثروة والسلطة، وحتى الجغرافيا. كثيرون لم يكن لديهم اعتراض من ناحية المبدأ على مناقشة الموضوعين، وكان تحفظهم بالأساس حول السياق والظرفية.

وأخيرا ترتفع أصوات تحمّل النظام السياسي مسؤولية التعثر في الإنجاز؛ فتطالب بتغيير دستور لم يُستكمل تركيز هيئاته، ولا تفصيل ما جاء فيه من سلطة افتكت من المركز لصالح الجهات.

2- تزاحم القضايا المتفجرة: وهكذا نضيق على أنفسنا ونفتتح سنة سياسية جديدة تحدياتها أكبر من فرصها؛ فقد تم تأجيل الانتخابات المحلية، ويبدو أن التوافق على موعد جديد ليس سهلا.

وتم تمرير قانون لإنصاف الموظفين -تحت نظام زين العابدين بن علي– تلاحقه شبهة تبييض الفساد، بنوع من سياسة المرور بقوة، في حين لا يزال مسار العدالة الانتقالية -الذي ينصف عشرات الآلاف من ضحايا الاستبداد- متعثرا.

وتنتظر البلاد سنة صعبة في ميزانية هي بين خياريْ اللجوء إلى تداين تجف منابعه أو اللجوء إلى إصلاحات طال انتظارها، ولكنها ستكون مكلفة اجتماعيا في غياب توافق واسع عليها. ويفترض النقاش بشأن مسائل حساسة يراها الرأي العام تمس المستقر من معتقداته أو عاداته، مما يغذي مناخات الريبة والانقسام.

إن استطلاعات الرأي كلها تشير إلى ارتفاع نسبة المقاطعين للعملية الانتخابية المقبلة، وإلى ضجر الناس -وخاصة الشباب- من مجمل الطبقة السياسية الحالية.

بالطبع إذا قارنا تونس بمحيطها فيمكن أن نعتبرها استثناء إيجابيا، ولكن أهلها لا يشعرون بالضرورة بالرضا، لأن الشعوب لا تعيش بالمقارنات فقط، وإنما تقارن وضعها بما يمكنها إنجازه. الاستقرار والأمان جيدان بل حيويان، ولكنهما لا يمثلان إلا الحد الأدنى المطلوب من الحكم، وحكم لا يوفر سوى ذلك يصبح -في نظر الجمهور- غير كافٍ.

3- مفاتيح للفهم: لماذا وصلنا إلى هذه الحال من تجميع كل هذه الغيوم؟ الكلمة المفتاح التي تتيح لنا قدرا من الفهم هي كلمة: الانتقال. الثورة التونسيةفتحة في جدار التاريخ، عمقها يحدده التفاعل بين جديد يتأخر عن الولادة، وقديم يدخل العالم المحدث بنصف قدم إن لم يعارضه أصلا.

إذا قارنا تونس بمحيطها فيمكن أن نعتبرها استثناء إيجابيا، ولكن أهلها لا يشعرون بالضرورة بالرضا، لأن الشعوب لا تعيش بالمقارنات فقط، وإنما تقارن وضعها بما يمكنها إنجازه. الاستقرار والأمان جيدان بل حيويان، ولكنهما لا يمثلان إلا الحد الأدنى المطلوب من الحكم

الجديد ليس كتلة متجانسة مضمونيا، هو مزيج من الأشواق والتطلعات والأحلام التي لم تنجح في أن تتحول إلى مشروع، وهو سياسيا مزيج من القوى التي تخطئ التموقع أحيانا ليصب أداؤها في الضفة الأخرى.

والقديم ليس كتلة متجانسة؛ بل هو مزيج من المخاوف والحنين والتقاليد الراسخة في المجتمع والإدارة وطرق التسيير. وهو مزيج من القوى المتباينة في طريقة تفاعلها مع الأفق الجديد، بين عقلانية تجرؤ على قدر من النقد الذاتي، وغريزة تفر إلى الأمام وتعتبر الثورة قوسا يجب أن يغلق.

الانتقال هو صراع بين الكتلتين، وترتيبات متماشية مع موازين القوى تتراوح بين حدّيْ التعايش والتنافي. وقد راكمت البشرية خبرة في الانتقالات محصلتها تأثرها بالبصمة المحلية، وتلازمهما مع دفع أثمان وتضحيات نفسية ومادية. والانتقالات الناجحة هي أقلها تكلفة وأقربها لتحقيق الأشواق الجديدة، وليس أكثر.

الأشواق الجديدة في تونس عبّر عنها دستور 2014 الذي كان مسكونا بفكرة توزيع السلطة في المركز أولاً، وبين المركز والجهات ثانياً، كما كان مسكونا بفكرة العدالة وبمنظومة حقوقها الاجتماعية والبيئية ثالثاً. لعله دشن جيلا جديدا من الدساتير. يبدو أن التدافع التونسي راهنا هو بين تنزيل الدستور والالتفاف عليه وشفط مكامن طرافته.

التوافق السياسي في البلاد شيء جيد؛ فقد جنب البلاد خطر الاحتراب، ولا تكشف استطلاعات الرأي المتعاضدة تغيرا نوعيا في موازين القوى، ولذلك هو بالتحديد توافق الاضطرار، فلم تتحقق الثقة بين أطرافه، بل يوشك أن يصبح توافقا عقيما يحافظ على الاستقرار، ولكنه لا يفلح في تحقيق حزمة الإصلاحات الاقتصادية والإدارية الكبرى، أي البوابة الوحيدة لتحقيق الكرامة التي هي شقيقة الحرية في سردية الثورة.

لا أحد من العقلاء يرى بديلا عن التوافق، خاصة وهو آلية قابلة للتّشكّل في أكثر من صورة من حيث الطبيعة والأطراف والأوزان والغايات، ولكن كثيرين يَرَوْن في المبادرات الأخيرة خطوات مدروسة ضمن إستراتيجية متكاملة لهيكلة المجتمع، وإعادة صياغة المشهد لتحسين الموقع التفاوضي بعد انتخابات 2019. الحسابات مقبولة في الصراع السياسي، ولكنها قد تجر إلى مخاطر كثيرة عندما تكون خاطئة أو متعجلة.

4- الفرص: في هذه الأجواء الغائمة يفكر كثيرون في تقديم عرض سياسي جديد لتجميع العائلة الوسطية الديمقراطية، أو لإعادة صياغة اليسار بعد أن تأبّى كثيرا على المراجعة والنقد الذاتي والإصلاح.

الجميع مطالب ببذل الجهد؛ فحزب نداء تونس مطالب بتوحيد صفوفه على قاعدة الديمقراطية وتجاوز أحلام "الاستعادة"، وحزب النهضة بإطلاق الخيال لمبادرات أوسع والخروج من مربع الحذر، واليسار بمغادرة ثورية السبعينيات، والقوى الوسطية بتجاوز صدمة نتائج الانتخابات الماضية

هي محاولات للتموقع في أروقة فارغة. قد تحرك الساحة، وقد لا تضيف جديدا لشباب يحتاج إلى غير المعتاد في الوجوه والبرامج والمرجعيات.

ولكن الثابت أن المطلوب هو أن توضع في نفس الحزمة كلُّ التحديات والاستحقاقات (المعضلة التنموية والإصلاحات الجوهرية لإطلاق الآلة الإنتاجية، واستكمال البناء المؤسساتي، والالتزام بمواعيد الاستحقاقات الانتخابية، والعدالة الانتقالية والمصالحة الحقيقية والشاملة، والحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد، والتحصن من آفة الإرهاب).

وأن يتم تجميع كل القوى حولها، ومعالجتها من مشكاة واحدة انطلاقا من اهتمامات وانشغالات التونسيين، لا من اهتمامات نخبة تعيش توحدا مرضيا. ولا بديل عن التوافق إلا توافق جديد.

الجميع مطالب ببذل الجهد؛ فحزب نداء تونس مطالب بتوحيد صفوفه على قاعدة الديمقراطية وتجاوز أحلام "الاستعادة"، وحزب النهضة بإطلاق الخيال لمبادرات أوسع والخروج من مربع الحذر، واليسار بمغادرة ثورية السبعينيات، والقوى الوسطية بتجاوز صدمة نتائج الانتخابات الماضية، واتحاد العمال بإبداع رؤية نقابية متلائمة مع مناخ الإصلاحات الكبرى، ورأس المال بمجازفة أكبر في الاستثمار.

لا أحد يقبل بتسطيح الحياة السياسية، فللحُكم دوره ومسؤولياته، وكذلك المعارضة، والمجتمع المدني، والشارع، والإعلام…، ولكن هذه الأدوار والمسؤوليات -على تباينها- تختلف جوهريا عن مثيلاتها في ظل الاستبداد…، العناوين هي نفسها ولكن المضامين تتغيّر…

بالرؤية المشتركة والإرادة المشتركة يمكن أن يستعيد التونسيون ثقتهم في مسارهم وفي ثورتهم على أبواب الذكرى السابعة لفاتحة الربيع العربي، وحينها يمكنهم أن يفاخروا إخوانهم العرب بأن ثمرات الثورة لا تقتصر على الاستقرار. ودون ذلك سيكون الشتاء أكثر حرارة من الصيف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.