حصار قطر ونهاية النظام الرسمي العربي

Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi (R) arrives with Arab leaders Sheikh Mohammed bin Zayed (C), Crown Prince of Abu Dhabi, and General Khalifa Haftar (L), commander in the Libyan National Army and members of the Egyptian military at the opening of the Mohamed Najib military base, the graduation of new graduates from military colleges, and the celebration of the 65th anniversary of the July 23 revolution at El Hammam City in the North Coast, in Marsa Matrouh, Egypt,

بداية الفعل
أدوات الفعل
مصير الفعل
دروس الفعل 

لا يمثل حصار قطر في جوهره العميق غير إعلان رسمي بأن المنطقة العربية -وخاصة الخليج منها- مقبلة على تحولات كبيرة ستُكشف أدق تفاصيلها في المستقبل القريب. وبناء عليه فإنه من الخلل المنهجي تحليليا فصل الأزمة الخليجية عما سبقها من التفاعلات الكبرى التي عرفها المجال العربي، وخاصة ثورات الربيع العربي، أو عزلها عما سيعقبها من تحولات أكبر.

إن حصار قطر هو في الحقيقة محصلة طبيعية ومتوقعة لتفاعل أحداث سابقة، وهو كذلك فاتحة ومقدمة لأحداث هامة لاحقة. إن تنزيل هذا الحدث في سياقه الحقيقي -بما هو قطعة تقع بين مكونين أكبر منها- هو الذي يسمح بقراءة الحدث قراءة موضوعية، تقطع مع الصخب الإعلامي والشحن الدبلوماسي الذي رافقها.

بداية الفعل
تقول القاعدة التاريخية إن خلق الأزمات وافتعال الوقائع الخطيرة هو في الحقيقة إعلان لبداية مشروع أكبر. إن كل أزمة مفتعلة أو صناعية هي تصريح بأن فعلا أكبر بصدد البدء، أي أن كثيرا من التحولات التاريخية -إن لم نقل معظمها- لم يكن له أن يكون دون افتعال أو خلق حدث صادم، هو بمثابة الشرارة التي تقدح آليات المحرك ليعمل.

ما كان يمكن أن يُعلَن حصار قطر من فراغ، رغم تصريح أمير الكويت أن الأمر كان مفاجئا بالنسبة له ليلة إعلان الحصار. وما كان لغزو أفغانستان وتدمير العراق ونهب ثرواته أن يكون دون حدث مثل هجمات 11 سبتمبر2001، بقطع النظر عن كل الحيثيات التي حفت بالعملية الإرهابية الأبرز على الأرض الأميركية.

تقول القاعدة التاريخية إن خلق الأزمات وافتعال الوقائع الخطيرة هو في الحقيقة إعلان لبداية مشروع أكبر، أي أن كثيرا من التحولات التاريخية -إن لم نقل معظمها- لم يكن له أن يكون دون افتعال أو خلق حدث صادم، هو بمثابة الشرارة التي تقدح آليات المحرك ليعمل

وما كان للولايات المتحدة أن تدخل الحرب العالمية الثانية دون واقعة "بيل هاربر" الشهيرة، وما كان لزين العابدين بن علي في تونس مثلا أن يبدأ بتصفية الإسلاميين وكل خصومه السياسيين في مطلع التسعينيات، دون خلق حادثة "باب سويقة" الشهيرة.

بناء عليه؛ فإن قرصنة وكالة الأنباء القطرية كانت إعلان تدشين الفعل، بل إنها كانت ضرورية لخلق سياق الأزمة وإعلان فرض الحصار وتبريره. ولا يعني هذا انفصال عملية القرصنة -بما هي حقا عمليةٌ إرهابية وجريمة إلكترونية يعاقب عليها القانون الدولي– عما سبقاها من تفاعلات سياسية ودبلوماسية، بلغت أوجها مع القمة الإسلامية الأميركية المنعقدة بالرياض قُبيل توقيت فرض الحصار.

يتضح اليوم -بعد أربعة أشهر من تفجر الوضع- أن قرار حصار قطر وحتى غزوها عسكريا كان على طاولة غرف دول الحصار المغلقة ودهاليزه السرية منذ مدة طويلة، ولم يكن ينقص خطة تركيع الفاعل القطري إلا ضربة البداية التي مكنها الراعي الأميركي من ضوئها الأخضر (أقله على مستوى الرئاسة) خلال قمته الإسلامية بالرياض.

أدوات الفعل
لم تستعمل أدوات بمثل هذه الحدة والخطورة في أزمات عربية إقليمية من قبلُ باستثناء الأزمات المسلحة، رغم أن تاريخ الأنظمة الاستبدادية العربية حافل بالمؤامرات والدسائس المتبادلة، في إطار ما يسمح به وما يوجهه الراعي الدولي لهذه الأنظمة ولهذه المؤامرات.

لكن لما كان الخيار العسكري مطروحا على طاولة المحاصرين مثلما صرّح بذلك أمير دولة الكويت؛ فإن المنطقة الخليجية كانت ستعرف مصيرا لا يختلف كثيرا عن مصير العراق اليوم، لولا السياق الإقليمي والدولي المشتعل في الجوار المباشر.

وبعد إزاحة الخيار العسكري جاء قرار سحب السفراء وغلق البعثات الدبلوماسية وغلق المجالات الجوية والبرية والبحرية، علما بأن دولة قطر لا تملك إلا معبرا بريا واحدا يقع على حدودها مع السعودية.

كان القرار مفاجئة كبرى لم يصدقها كثير من المراقبين في البداية، وكان الهدف منها إصابة الدولة المستهدَفة بالشلل اقتصاديا واجتماعيا، وعزلها عن كل ما يمكنه أن يسمح لها بفك الحبل الذي وُضع حول رقبتها. إن "الشلل بالصدمة" كان هو وسيلة المحاصِرين وأداتهم الأولى في إرباك الفاعل القطري.

كان قرار قطع العلاقات وفرض الحصار على قطر مفاجئة كبرى لم يصدقها كثير من المراقبين في البداية، وكان الهدف منها إصابة الدولة المستهدَفة بالشلل اقتصاديا واجتماعيا، وعزلها عن كل ما يمكنه أن يسمح لها بفك الحبل الذي وُضع حول رقبتها. إن "الشلل بالصدمة" كان هو وسيلة المحاصِرين وأداتهم الأولى في إرباك الفاعل القطري

إثر ذلك تحركت الآلة الإعلامية الجبارة لكل دول الحصار فجُنّد الإعلام السعودي الداخلي والخارجي -وكذلك الأذرع المصرية والاماراتية والبحرينية- من أجل التغطية الإعلامية للحصار. وإضافة إلى هذا حُشدت مئات الآلاف من الحسابات الافتراضية للكتائب الإلكترونية لإسناد الإعلام الرسمي، وتفعيل الشائعات بشكل يكشف مخططا للتغطية على محاولة انقلابية بصدد الإنجاز.

أما ثالثة الأدوات التي وظفت في عملية الحصار فكانت الأداة الدبلوماسية والسياسية، إذ تحركت الأذرع الدبلوماسية خارجيا لكيل أنواع التهم الجاهزة للدولة المحاصَرة، وهي تُهَم تتراوح بين "التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية عامة والخليجية خاصة"، و"الإرهاب تمويلا وتجنيدا وتنفيذا ودعاية"، بل وتصل حدود الاتهام الرسمي لقطر "برسم الحزن على وجوه الناس"، كما صرح بذلك مسؤول إماراتي رفيع!

ورابعة أدوات فعل الحصار كانت أداة الانتقام والترهيب داخليا وخارجيا، حيث عمدت الأطراف السياسية إلى تجريم كل تعاطف مع قطر تجريما يصل حدود العقوبة بالسجن المشدد لمجرد إبداء الرأي، وفي اتجاه آخر فرضت على الجميع المشاركة في شيطنة الخصم لتأكيد الولاء للوطن.

وشمل الانتقامُ والترهيبُ عائلاتٍ كاملة وحجاجا ومعتمرين وزوارا وتجارا، وحتى دعاة وشيوخا رفضوا المشاركة في الحصار أثناء رمضان، بل طال الحصار إبلاً في الصحراء تُركت لتموت عطشا!

لم تقتصر أدوات الفعل على ما سبق ذكره؛ بل تعدته إلى وسائل كثيرة تم استدعاؤها من تسييس الحج إلى شراء المواقف الدولية، وتنظيم مؤتمرات للمعارضة القطرية في الخارج، وإيجار صحف ومنابر إعلامية وشراء مقالات رأي باللغات الأجنبية، لفرض طوق سميك على كل محاولة لفك الحصار.

وكانت الأداة الأخيرة والأشد خطورة هي استدعاء القبلية وتوظيف العامل القبلي في صراع هو في الحقيقة صراع إخوة ما كان له أن يكون أصلا. إن استدعاء العامل القبلي -بشكل يقفز على المكون العقائدي- يكشف أن الأزمة قد بلغت أخطر مستوياتها، ووصلت إلى عمق المكون الاجتماعي والعائلي لدول الخليج بشكل ينبئ بتصدع النواة الصلبة للمكون الخليجي خاصة والعربي عامة.

مصير الفعل
يمكن القول -بناء على المسافة التي تفصل تدشين الحدث عن حصاده اليوم- إن الحصار فشل، بل وأدى إلى نتائج عكسية لم تكن متوقعة بالمرة. ولا يتمثل هذا الفشل في قدرة قطر على امتصاص الصدمة الأولى وفضح المؤامرة الإقليمية، بل يتمثل أساسا في هذا المكسب العظيم للوعي العربي الذي يتجلى في المزيد من انكشاف المشهد الإقليمي، وانكشاف طبيعة الأدوار داخله.

إن أهم نتائج الأزمة على الإطلاق هي تعرية الفعل السياسي الرسمي العربي كاملا، وهو الفعل الذي أصبح يمثل -بالدليل الملموس- أخطر ما يمكن أن يهدد سلامة البناء الحضاري للأمة، بشكل لا يقتصر على منطقة الخليج فقط.

وثانية هذه النتائج تتمثل في انكشاف زيف المؤسسات العربية الرسمية المنكشفة أصلا، حيث تحولت من أطر للفعل السياسي والاقتصادي والحضاري المشترك إلى مجالات للنفوذ وتصفية الحسابات البينية، ومطية لتحقيق أحلام الزعامة الواهية.

كانت ثورات الربيع العربي مؤشرا صارخا على وصول النموذج الاستبدادي إلى حده الأقصى، بمعنى أنه صار غير قابل للتجدد ولا للبقاء، وهو ما يفسر سقوط كل الأنظمة المشمولة برياح التغيير وتأزم وضع البقية الباقية. وبناء عليه؛ فإن أزمة الخليج وحصار قطر إنما دليل على وصول البناء السياسي الرسمي العربي إلى نهايته

فمجلس التعاون الخليجي -الذي يملك آلية التدخل في فض الأزمات الداخلية كما ينص على ذلك بيانه التأسيسي- لا يزال إلى اليوم مغيبا عن المشهد، وكذلك جامعة الدول العربية وغيرها من الأوعية والأطر الجوفاء التي بان زيفها وزيف وظيفتها.

وهناك نتيجة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتيها، وهي تعرية الدور الخطير للمرفق الإعلامي العربي وقد صار أداة سياسية بامتياز، لا تتمثل وظيفتها في الإعلام والإخبار بقدر ما صارت منصة للإشاعات والتشهير والتزييف، وشيطنة الخصوم بشكل يسعى إلى جعل المشاهد جزءا من معركة لم يكن سببا فيها. 

لا يمكن بيان مصير الأزمة الخليجية الأخطر دون الإشارة إلى أن الغائب الأساسي عن هذه الأزمة -سواء في تشكيل أسبابها أو صياغة أطوارها- هي الجماهير الخليجية والعربية عموما. هذه الجماهير المغيبة عن الفعل هي التي ستدفع في النهاية ثمن مغامرات أنظمتها ثمنا باهظا جدا.

فبقدر ما يمثل الحصار اعتداء خطيرا على اللُّحمة الاجتماعية والثقافية والحضارية وحتى الأسرية العائلية لسكان دول الخليج؛ فإن شعوب المنطقة تبدو في محل المفعول به ولا تملك حتى خيار الصمت، فما بالك بالتعبير.

دروس الفعل
وبناء على ما تقدم من نقاط مختزلة لأزمة لا تزال أطوارها تتفاعل كل يوم؛ فإن دروسا كثيرة وهامة تفرض نفسها على كل أطراف الأزمة. وأول هذه الدروس يتجلى في ضرورة الوعي بالخطر الذي صار يمثله النظام السياسي العربي على نفسه وعلى شعوب الدول التي يحكمها.

لقد كانت ثورات الربيع العربي مؤشرا صارخا على وصول النموذج الاستبدادي إلى حده الأقصى، بمعنى أنه صار غير قابل للتجدد ولا للبقاء، وهو ما يفسر سقوط كل الأنظمة المشمولة برياح التغيير وتأزم وضع البقية الباقية. وبناء عليه؛ فإن أزمة الخليج وحصار قطر إنما هما نموذج ونتيجة، ودليل على وصول البناء السياسي الرسمي العربي إلى نهايته.

إن الانتصارات الظرفية التي تحققها الثورة المضادة إنما تحققها بالانقلابات الدامية أو الناعمة -سواء في مصر أو في تونس أو ليبيا- بدعم من دول الحصار نفسها وعلى رأسها الإمارات والسعودية؛ ويتجلى ذلك في حجم الدعم المالي الذي قُدّم خاصة للنظام الانقلابي العسكري في مصر وفي ليبيا، وإلى خلايا الثورة المضادة في تونس.

هذه الانتصارات ليست في الحقيقة إلا محاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الانفجار التونسي الكبير. إنها محاولة محمومة لإحياء جثة النظام الاستبدادي العربي التي أطاحت بها جماهير المسحوقين، وسعيٌ إلى رفض إعلان موت النظام الرسمي العربي ورفضٌ لتجديده.

ليس انقلاب مصر وحصار قطر ومحاولة الانقلاب على السلطة الشرعية فيها، وليست محاولة الانقلاب التركية الفاشلة، ولا رائحة الموت التي تنبعث من مساحة الربيع في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن؛ إلا جزيئات من عملية واحدة هدفها دفن حلم الجماهير في التحرر والانعتاق.

إنها جميعها إعلان عن رفض النظام السياسي العربي الرسمي تجديد نفسه، والخروج من دائرة الموت التي بدأت في هدم أهم الأعمدة التي يرتكز عليها، وهو ما يكشف أن ثورات الربيع وعودة الثورة المضادة وحصار قطر ليست إلا مقدمات لما هو أهم وأعظم وأخطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.