في ذكرى الثورة التونسية.. كيف ينتصر الأمل على الخوف؟

تجمع شعبي في ساحة محمد البوعزيزي بمدينة سيدي بوزيد في الذكرى السادسة لاندلاع الثورة التونسية

معادلة الحلم والإمكان
كتل التدافع الثلاث
المنجز: النمو المتفاوت
كيف يتحول الخوف أملا؟

يحيي التونسيون هذه الأيام الذكرى السادسة لاندلاع ثورتهم وسط أوضاع شديدة الحراك في البلاد والمنطقة. وهي فرصة للتقييم، وللإجابة عن أسئلة من نوع: هل نحن على الطريق الصحيح؟ هل لنا مواطن تقصير؟ وهل لنا شجاعة الاعتراف بها؟ كما هي فرصة لتدقيق اتجاه البوصلة.

1- معادلة الحلم والإمكان:
منجز الثورة هو نتيجة لمخاضاتها كما لطريقة إدارتها؛ فقبل الثورة لم تكن في البلاد سياسة بل كانت هناك حُزيبات تتعيّش من دورانها في فلك السلطة، وكانت هناك تنظيمات تخوض معركة الوجود، ولم يكن يجمعها إلا الإحساس المشترك بالاختناق. أما المنظمة الشغيلة وقع تدجينها منذ زمن بعيد، والحركة الطلابية أصبحت خبرا من الماضي.

ومن حين لآخر، كانت تظهر جيوب تمرد هنا وهناك (الحوض المنجمي/ بنقردان)، ومحاولات تجمع على أساس توفير الحد الأدنى من شروط بناء حياة سياسية معقولة (تحالف 18 أكتوبر).

كل المراقبين كانوا يعتقدون أن لا مستقبل لتونس خارج التوريث والتمديد، وأن لا خطر وجوديا على سلطة لها هوامش للامتصاص الاجتماعي والاحتواء السياسي.

وهكذا فاجأت الثورة الجميع، وكانت أشهرها الأولى هي الحاسمة في مسارها. هرب رأس النظام، لكن النظام لم يسقط. والدولة في تونس عريقة بتقاليدها وإدارتها وكتلها الحاكمة، وما تقف عليه من مصالح ومواقع.

فحصل -في العمق- صراع بين إرادتين: إرادة "استثمار الفرصة" وقد مثلتها الساحة المناضلة التي كانت مشتتة ودون برنامج، ولم ير بعض مكوناتها مانعا في مد اليد إلى زين العابدين بن علي في ساعاته الأخيرة، وإرادة "الحد من الخسائر" للمنظومة القديمة ولم تكن موحدة هي أيضا، ووجدت نفسها مرتبكة لغياب الرأس في نظام شديد المركزة.

التدافع بين هاتين الإرادتين كان يمكن أن يؤدي إلى توافق ضمني بينهما، سقفه إجراء إصلاحات على منظومة بن علي، لكن هذا التوافق المحتمل أفسدته الإرادة الثالثة، الصانعة للثورة.

فالغضب الزاحف من الهوامش -وسط بهتة وربما استهانة النخبة- جر الجميع قبل الثورة، وهو نفسه الذي رفع السقف بعدها، ففرض حل الحزب الحاكم وجهاز أمن الدولة، وفرض أجندة التأسيس. وشجعته على ذلك العدوى الإيجابية التي حصلت في كامل المنطقة.

2- كتل التدافع الثلاث:
ما حصل خلال السنوات الست الأخيرة إنما هو تدافع بين وداخل هذه الكتل الثلاث:
أ- كتلة "الحد من الخسائر": ويخطئ من يظن أنها بقيت دون رأس. لنسترجع الأسماء والهيئات والميولات فسنجد خيطا ناظما، ونتأكد من وجود "عقل "ما.

الغضب الزاحف من الهوامش -وسط بهتة وربما استهانة النخبة- جر الجميع قبل الثورة، وهو نفسه الذي رفع السقف بعدها، ففرض حل الحزب الحاكم وجهاز أمن الدولة، وفرض أجندة التأسيس. وشجعته على ذلك العدوى الإيجابية التي حصلت في كامل المنطقة

والرأس ليس بالضرورة حزبا سياسيا؛ ففي عالم شديد التعقيد تتكاثر الشبكات المنبثة في شتى مواقع التأثير الإداري والمالي والإعلامي والأكاديمي والرياضي، وفيها تتداخل مصالح الداخل والخارج.

ب- كتلة "استثمار الفرصة": تبعثرت أوراقها بعد الثورة، وعادت الاصطفافات الأيديولوجية فارتبكت البوصلة.

في غالب تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم تركز الصراع حول البرامج، وخاصة حول الانتقالين الاقتصادي والسياسي، ومن ضمنه معالجة أعطاب الماضي للوصول إلى مصالحة وطنية شاملة ووُجدت عادة حواضن إقليمية ودولية.

الثورة التونسية -وكذلك ثورات الربيع العربي- كانت ذات خصوصية في طبيعتها؛ فهي في حقيقتها أفق ثورات. وهي أيضا ذات خصوصية في طبيعة انتقالاتها؛ فهي انتقالات مع حضور قوي لإشكالية موقع الدين في الحياة العامة.

وهذه الإشكالية ذات حدة استثنائية في تونس، إذ لها بعد سياسي يتمثل في الصراع مع حركة النهضة التي تجد قبولا جماهيريا واسعا، ولكنها تواجه بتخوفات ونفور -وربما حتى عداوة- من دوائر شديدة التأثير في الفضاءات الإعلامية والأكاديمية والثقافية والإدارية، نتيجة التشويه الممنهج والمتواصل الذي تعرضت له طوال أكثر من عشرين سنة.

وكذلك نتيجة ضعفها في التواصل والرسائل الملتبسة التي يمكن أن تفهم من سلوكها ومن خطابها أحيانا، ولها وجه أكثر عمقا يتمثل في الجانب الفكري نتيجة تعبّد جزء من النخبة التونسية اليسارية/الفرانكفونية للتجربة الفرنسية في تعاملها مع المسألة الدينية، فلم يستطع التخلص من قوالبه الجاهزة التي منعته من الاجتهاد وقراءة الساحة في دينامياتها المتجددة.

وهذا التوجس أو حتى العداء لتأثير الدين في الحياة العامة حكم أيضا سلوك قوى إقليمية ودولية بدرجات متفاوتة.

هذه الاعتبارات مجتمعة أضعفت احتمال بناء "كتلة ثورية" تمثل القوى المناضلة والشباب الثوري، خاصة مع استمرار الثقافة وطريقة الأداء السياسي القديمين، كهيمنة الاحتجاج والتداخل بين الحزبي والجمعياتي.

ج- كتلة "الغضب الاجتماعي/السياسي": وهي نوع من الضمير المعبر عن المطالب العميقة للشعب وللثورة، تقترب أحيانا من التنظيم فتجر "العقل الحسابي"، وتتحلل أحيانا فيخلو المجال للكتلتين الأوليين. وكان لها دور محدد في الأشهر الأولى، ولا تزال تمثل ضوءا أحمر خاصة في الملف الاجتماعي والحقوقي.

إذن هو صراع معقد:
حول معنى ما حصل: فهل هو مجرد قوس يكون سقف المسار بعده مجرد تحسينات على الوضع السابق؟ أم هو هزة في المنظومة السابقة، ولكن تجذر القوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي كانت تسندها إضافة للتأثيرات الإقليمية والدولية، لا تسمح إلا بإعادة توزيع جزئية للأوراق تدمج بعض القوى المقصية في المنظومة الجديدة؟

أم هو ثغرة قابلة للتوسع فتفتح أفقا لمسار ثوري متراكم في مقابل محاولة التطبيع مع المنظومة القديمة التي لن تكون إلا بشروطها.. وكأننا أمام صياغة جديدة لنظرية الثورة المستمرة؟

وحول القيادة: فهل هي القوى الجديدة رغم الإعاقات التي حصلت لها نتيجة الاختلاف حول محور الفرز الرئيسي بين السياسي والثقافي؟ أم هي القوى القديمة تسترجع مواقعها بعد عملية تجميل بسيطة؟ أم هي توليفة غير تقليدية يتداخل فيها القديم والجديد والسياسي والثقافي والداخل والخارج؟

3- المنجز: النمو المتفاوت:
هناك محطات فارقة في مسار هذا التدافع: فانتخابات 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2011 فوضت كتلة من الجديد غلبت الالتقاء السياسي، لكنها اصطدمت بكتلة أخرى هي خليط من القديم والجديد، جمعه السياسي والمصلحي والأيديولوجي.

لا شك أن البلاد بحاجة إلى توافق إدماجي واسع يستمر سنوات، يوازن بين التنافس والتكامل، ويرسم خريطة طريق لإصلاحات عميقة، من خلال إبرام توافقات كبرى سياسية واجتماعية تغير نوعية حياة المواطنين. هذه مهمة المرحلة: بذل كل الجهود لملء الفراغ القيادي بتشكيل توافقات واسعة

توازن القوى بين الكتلتين أوشك أن يدفع -وخاصة في سياقات الانقلاب المصري- إلى الاحتراب أو تعطيل المسار جملة حيث لا رابح أصلا، مما اضطر الجميع إلى "التوافق السياسي" الذي أفضى إلى هدنة استثمرها الجميع لمحاولة التغيير الجوهري لميزان القوى خلال انتخابات 2014.

غير أن جميع الرهانات اصطدمت بذكاء التونسيين لما صوتوا للكتلتين بصورة متقاربة، فأكدوا بحثهم عن التوازن. فلا الأول أمكنه أن يتفرد، ولا الثاني أمكنه أن يختار المعارضة. وبذلك ينتقل التوافق من الاختيار السياسي إلى الاضطرار المؤسساتي.

غير أن التوافق -بما هو الوصفة السياسية لإدارة وضعيات الانتقال أو الوضعيات الصعبة، وبما هو لجم لقانون السوق السياسي- يجب ألا يلغي التنافس، بل يجب أن يكون موازنة بين التنافس والتكامل.

فهو هدية "للخصم" من أجل المحافظة على الملعب أصلا؛ فنتائج الاقتراع ليست أكثر من عامل واحد في معادلة إدارة الحكم، كما أن القدرة على التعويق ليست شيئا صعبا في فضاء لم يعتقلن فاعلوه بعد. غير أن التخلي عن التنافسية قد يولد "توافقا عقيما"، وهو ما يخشاه أكثر من مراقب.

ضمن هذه السياقات، يمكن أن نُحَوْصِلَ المنجز الوطني في المسارات الكبرى للثورة:
أ- فالإنجاز الأكبر للتونسيين كان في المسار السياسي/التأسيسي؛ فهم لم يصلوا بعد إلى حالة اللا رجعة، ولكنهم فخورون بانتخاباتهم النزيهة، وبدستورهم الذي كفل لهم كل أجيال الحقوق الفردية والجماعية، وبنظامهم السياسي المتوازن، وبالهيئات المستقلة المعدلة، وبالسلطة الموكلة للجهات.

ب- غير أن الإنجازات في مسارات:
– التنمية ومعالجة الإخلالات الجهوية والفئوية.
– إصلاحات المنظومات الكبرى للدولة: الأمن، القضاء، الإدارة.
– العدالة الانتقالية ومعالجة مظالم الماضي.
– مقاومة الفساد.
– الثقافة، والتربية، وبناء الإنسان الجديد الذي يقدر قيمة العمل، ويوازن بين نيل الحقوق وأداء الواجبات.

إن المنجز في كل هذه المسارات كان دون المأمول، بل دون ما كان متاحا تحقيقه.

4- كيف يتحول الخوف أملا؟
التونسيون هم اليوم بين الخوف والأمل:
– فالتحديات الأمنية والتنموية والجيوستراتيجية واضحة للجميع.
– وخريطة الإصلاحات الكبرى -بما يضمن تدارك ما لم ينجز من برنامج الثورة- واضحة على الأوراق.
– والمزاج الشعبي عقلاني ومتفهم.
– والأطراف الدولية مشجعة أو غير معترضة على المسار التونسي لأسباب متعددة.
– ورغم جريمة الاعتداء الصهيونية على الأمن القومي باغتيال المهندس التونسي محمد الزواري الناشط في كتائب القسام يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2016، فإن تونس تبقى بعيدة نسبيا عن التقلبات الكبرى في المنطقة.

وقد جاءت هذه الجريمة في خضم إحياء التونسيين لذكرى ثورتهم لتذكيرهم بواجب الوحدة تجاه المخاطر التي تهددهم، ولتحيي معاني الانتماء القومي/الإسلامي. إن التونسيين اليوم أمام فرصة تجديد روح الثورة، من خلال معالجة السبب الأساسي لتواضع الإنجاز في بعض المسارات، وهو الخلل القيادي.

لاشك أن البلاد بحاجة إلى توافق إدماجي واسع يستمر سنوات، يوازن بين التنافس والتكامل، ويرسم خريطة طريق لإصلاحات عميقة، من خلال إبرام توافقات كبرى سياسية واجتماعية تغير نوعية حياة المواطنين. هذه مهمة المرحلة: بذل كل الجهود لملء الفراغ القيادي بتشكيل توافقات واسعة؛ فبذلك يغلّب التونسيون جانب الأمل على جانب الخوف، وهم قادرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.