إرث كريموف الثقيل ومستقبل أوزبكستان

Uzbekistan President Islam Karimov attends a wreath-laying ceremony at the Tomb of the Unknown Soldier by the Kremlin wall in Moscow, Russia, April 26, 2016. REUTERS/Sergei Karpukhin

الطريق إلى الحكم المطلق
فزاعة الخطر الإسلامي
الخلفاء المحتملون
ما بعد كريموف

طوت وفاة رئيس أوزبكستان إسلام كريموف صفحة طويلة وثقيلة في تاريخ الجمهورية السوفياتية السابقة. وبعد انتهاء هذا الحكم الدكتاتوري الذي استمر لأكثر من ربع قرن يصعب التكهن بمستقبل البلد الذي عاش طويلا في ظل استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي هش، نتيجة عوامل تتعلق بالجغرافيا السياسية، وبنية المجتمع، وطريقة الحكم بالحديد والنار في واحدة من أكثر الدول انغلاقا وتضييقا على مؤسسات المجتمع المدني والمعارضة والصحافة في العالم.

الطريق إلى الحكم المطلق
بدأ كريموف حياته في دار للأيتام، واستطاع إكمال دراسته. وفي شبابه انضم إلى الحزب الشيوعي وتدرج فيه ليصبح أمينا عاما للحزب في أوزبكستان ورئيسا للجمهورية السوفياتية السابقة في نهاية الثمانينات قبل أن يقود بلاده إلى الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي بداية سبتمبر/أيلول1991 والمحافظة على الحكم حتى وفاته.

وعرف كريموف بقسوته في قمع معارضيه السياسيين، وتغييب وتهميش أي حراك مجتمعي، واستطاع اللعب على تناقضات النظام العشائري والتنوع العرقي في أوزبكستان من أجل تثبيت حكمه المطلق داخليا.

وعلى الصعيد الخارجي أحسن استغلال موقع بلاده الجغرافي، رغم افتقاره لأي منافذ بحرية، واستغل التغيرات السياسية العالمية لضمان شرعية دولية، أو بأدنى حد الصمت عن قمعه وحكمه الدكتاتوري لبلاده. ونسج كريموف علاقات مع الشرق والغرب على حد سواء، وحفل تاريخ حكمه بتغيرات كثيرة في تحالفاته الدولية، وإن حافظ على "شعرة معاوية" دائما في علاقاته مع روسيا، وسعى إلى تجنب نقمة الغرب، واستغل الصعود الصيني للخروج بأكبر المكاسب الاقتصادية.

فزاعة الخطر الإسلامي
وانتبه كريموف باكرا إلى حساسية موضوع الخطر الإسلامي لدى روسيا والغرب والصين، حيث خاض منذ منتصف التسعينات حربا لا هوادة فيها مع الحركات الإسلامية مثل حزب التحرير، وحركة أوزبكستان الإسلامية، والحركات الأخرى على اختلاف توجهاتها وأدواتها في التغيير. واستغل "الخطر الإسلامي" من أجل ابتزاز الأطراف الخارجية، وتوطيد حكمه، وإنهاء جميع أنواع المعارضات في بلد معظم سكانه من المسلمين وعاش نحو سبعين عاما في ظل حكم شيوعي غيب الديانات.

وضرب كريموف بيد من حديد الهبة الشعبية ضد حكمه في 2005 والتي أتت على خلفية الأوضاع الاقتصادية المتردية وضمن موجة الثورات الملونة في البلدان السوفياتية السابقة، واستطاع تجنب الكثير من الانتقادات لتصويره الحراك على أنه مدعوم من منظمات إسلامية رغم تقارير رسمية عن مقتل 180 شخصا في أحداث إنديجان وخمسة أضعاف هذا العدد حسب تقارير دولية مستقلة.

ويصعب تقدير حجم قوة ما يعرف بالتنظيمات الإسلامية المتطرفة وخطرها في أوزبكستان بسبب طبيعة النظام المغلق، وعدم وجود صحافة حرة.

واستطاعت الأجهزة الأمنية طرد "حركة أوزبكستان الإسلامية" منذ نحو عشر سنوات من البلاد لتتمركز في شمال أفغانستان لكن خبراء لا يستبعدون إمكانية عودة الحركة إلى أوزبكستان بعد مبايعة أميرها عثمان غازي "الدولة الإسلامية" في سبتمبر/أيلول من العام الماضي. ولم تكشف التحقيقات الرسمية حتى الآن المسؤولين عن رفع علم تنظيم الدولة الإسلامية على أحد الجسور الرئيسة في العاصمة طشقند رغم مرور أكثر من سنة على الحادثة.

ومن الواضح أن طبيعة النظام السياسي القمعية، إضافة إلى الفساد والفقر والتضييق على الحريات الدينية تساهم في شكل كبير في نمو خطر التطرف وانضمام مزيد من الشباب إلى صفوف الحركات الإسلامية التي توصف بالمتطرفة في أوزبكستان.

الخلفاء المحتملون
ينحصر التنافس على خلافة كريموف في ثلاث شخصيات رئيسة، كما يجب عدم استبعاد بروز ابنته الكبرى جلنار التي كانت حتى 2014 المرشحة الأوفر حظا لخلافة أبيها، لكن تشبيهها كريموف بستالين، وحديثها عن ممارسة أختها وأمها الشعوذة أقصاها ووضعها حسب مصادر مختلفة قيد الإقامة الجبرية في بلادها، أو اضطرها إلى مغادرة أوزبكستان إلى إسرائيل. وأخيرا لا يمكن استبعاد أن يبرز الصراع بين النخب شخصية أخرى من الدرجة الثانية لتصعد إلى سدة الحكم.

ويتصدر رئيس الوزراء شوكت ميرزيايف قائمة المرشحين، ويعزز من حظوظه ترؤسه لجنة مراسم الدفن، وحسب العادات السوفياتية فإن من يتولى هذا المنصب غالبا ما يكون الخليفة المحتمل. وتولى ميرزيايف منصبه منذ 2003، وهو كغيره من الخلفاء المحتملين لا يتمتع بشعبية كبيرة، وظهرت للمرة الأولى صورة واضحة له في الإعلام منذ ثلاث سنوات فقط.

ويبلغ ميرزيايف من العمر خمسين عاما، وكان حاكما لمقاطعة سمرقند، وهز إداري متميز، لكنه غير محبوب جماهيريا نظرا لتكليفه بالمهمات التي لا تحظى برضى السكان مثل فرض مشاركة الأطفال والطلبة والنساء الإجبارية في جمع محاصيل القطن. ووفقا لبعض المصادر اعتدى بالضرب وكال الشتائم النابية ضد مرؤوسيه أكثر من مرة. وتدور أحاديث عن علاقات عائلية تربط الرجل مع زوجة كريموف وابنتيه.

ويذهب البعض في دوائر مقربة من الحكم إلى أن رئيس الوزراء هو نسخة من كريموف وهو ما يبرر طول خدمته في منصبه مقارنة مع غيره، وصمت كريموف عن تصرفاته؛ ولكن ما يزيد حظوظ ميرزايايف هو علاقاته الوثيقة مع مرشح محتمل آخر في بورصة الأسماء وهو رئيس جهاز الأمن الوطني في أوزبكستان والمسؤول عن عمليات القمع في إنديجان رستم إينوياتف.

وأغلب الظن أن إينوياتف يرغب في القيادة من الظل، وهو يبلغ من العمر 72 عاما، واستطاع استغلال أحداث إنديجان للتخلص من كل خصومه وبسط سيطرته على معظم مفاصل الأمن والجيش في البلاد بعد استقدام رجاله وتعيينهم في وزارتي الدفاع والداخلية. ويحب إينوياتوف العمل في الظل والصورة الوحيدة له التقطت أثناء زيارة له في الصين في عام 2014، ويدور حديث عن مصالح تجارية، وصفقات فساد تجمع ميرزيايف مع رئيس مجلس الأمن القومي، ويشاع أن ميرزيايف كان يعمل لحساب إينوياتوف في محيط الرئيس، ويتصرف بناء على تعليمات من الأجهزة الأمنية، للتأثير على قرارات كريموف.

وأما المرشح الثالث لخلافة كريموف فهو النائب الأول لرئيس الوزراء ووزير المالية رستم عظيموف، ويتنظر إليه على أنه ممثل للنهج الليبرالي رغم أنه لا يختلف كثيرا عن المسؤولين الأوزبك الآخرين إلا في تلقيه تعليما عاليا في جامعة أكسفورد، وتأسيسه لأول مصرف تجاري في البلاد عقب استقلاله عن الاتحاد السوفياتي.

وتذهب تحليلات إلى أن الإعلان عن وفاة كريموف جاءت بعد تسويات ضمن النخب الحاكمة من أجل اظهار تماسكها وتأخير الصراع على السلطة إلى مرحلة لاحقة، وعزز هذه التحليلات الكشف عن وفاة كريموف من قبل أطراف خارجية، وسرعة إتمام مراسم الدفن في ساعات قليلة. ومن المؤكد أن الأشهر المقبلة سوف تكشف حقيقة ما دار ويدور في أوساط النخب.

لكن الواضح أن وفاة كريموف وضعت أوزبكستان عند مفترق صعب، وكما الحال في جميع أنظمة الحكم الفردي المطلق فإن انتقال السلطة لا يمر بسلاسة. وحسب الدستور فإن رئيس مجلس الشيوخ يجب أن يتولى الحكم إلى حين إجراء انتخابات جديدة في غضون ثلاثة أشهر.

ومن المؤكد أن أي خليفة محتمل سوف يواجه تحديات جمة لعل أولها فرض هيبته بعد السطوة الكبيرة التي كان يحظى بها "الزعيم المؤسس" على المجتمع والدولة. ويصعب على أي رئيس جديد الاستمرار في وسائل كريموف للإمساك بالسلطة نظرا لتقادمها وتراجع فعاليتها، وفي ذات الوقت فإن طرح شعارات قومية للأوزبك يمكن أن يثير قلاقل عرقية مع المجموعات الإثنية الأخرى التي تزيد نسبتها عن خُمس عدد السكان.

ويحتاج أي رئيس جديد إلى تحقيق توازن دقيق بين مختلف المكونات وخاصة العشائرية التي يتوقع أن تعود إلى الواجهة مع غياب رجل البلاد القوي، وخاصة في وادي فرغانة المتاخم للحدود مع قيرغيزستان وطاجكستان. ويجب على أي خليفة محتمل التعامل مع مشكلات اقتصادية صعبة في بلد يبلغ عدد سكانه نحو 30 مليونا 40% منهم تحت 25 عاما. ورغم التقارير الرسمية بتحقيق معدلات نمو جيدة قدرت بنحو 6.8% في العام الماضي فإن مستوى الأجور يتراوح بين 150 و350 دولار في الشهر، ما يضطر نحو ثلث القوى العاملة إلى السفر خارج البلاد للعمل في روسيا وكازاخستان وغيرهما.

ما بعد كريموف
وربما يدفع التنافس بين المرشحين في حال عدم التوافق على خليفة محدد إلى إنعاش آمال الأوزبك في إنهاء الحكم الفردي وانتشار الديمقراطية، وقد تشكل العوامل السابقة حافزا لبعض الخلفاء المحتملين لطلب شرعية من الشعب عبر خوض انتخابات تنافسية، ما قد يمهد لمحو إرث كريموف الثقيل الذي صادر الحياة السياسية والحزبية، وحقق استقرارا هشا يمكن أن ينهار في أي لحظة.

ظاهريا أفلحت النخب المقربة من كريموف في إظهار نوع من التماسك على المدى المنظور في ظل عدم وجود مخاطر عليها من تحركات جماهيرية واسعة بسبب سياسة القمع والبطش للحاكم السابق.

وعلى المديين المتوسط والبعيد فإن المخاطر تتعلق بنمو ما يعرف بحركات التطرف، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والخلافات بين العشائر المختلفة التي ضبط إيقاعها كريموف ولعب على تناقضاتها.

وعلى الصعيد الخارجي فإن علاقات طشقند وموسكو لن تتأثر كثيرا نظرا للمصالح المشتركة في قضايا محاربة الإرهاب والتطرف، ومصلحة روسيا في المحافظة على الاستقرار في دولة تضم أكبر كتلة بشرية في آسيا الوسطى لمنع أي موجات هجرة إليها تضاف إلى ملايين الأوزبك الذين يعيشون أصلا في روسيا، كما تسعى موسكو إلى عدم حصول تقارب بين طشقند وواشنطن يمكن أن يحكم الحصار عليها في ساحة الاتحاد السوفياتي السابق، وربما كانت الصين من أكبر المستفيدين نظرا لتركيزها على قضايا الاقتصاد الذي سيحظى باهتمام أي رئيس مقبل.

وأخيرا فإن على أي رئيس مقبل لأوزبكستان التعامل مع إرث ثقيل لرجل خرج من العباءة السوفياتية لينقلب عليها، واستطاع أن يمنع انتقال الثورات الملونة إلى بلاده وحكمها بقبضة حديدية لنحو ثلاثة عقود، لكنه فشل في بناء مؤسسات دولة، ولم يقدم على أية إصلاحات هيكلية في الاقتصاد، ولم يسع إلى بناء مجتمع متماسك بل لعب على تناقضاته واختلافاته لتوطيد حكمه ما يجعل البلاد عرضة للانفجار الاجتماعي في أية لحظة في حال استمرار ذات السياسات السابقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.