الفساد عربيا.. أمّ المعارك أفقيا

الاقتصاد والناس - الفساد في العالم العربي

فساد أكبر وفساد أصغر
فعل الفساد ومنظومة القيم
الفساد وتجدد الموجات الثورية

الفساد واحد من أضخم الحدائق الخلفية للاستبداد وللإرهاب معا، وهو الدعامة التي تأسست عليها كل الأنظمة التسلطية المتخلفة خاصة منها تلك الواقعة تحت الفعل المباشر للاستعمار في شكله الجديد المُعولم.

لكن معضلة الفساد التي تجعل من مقاومته أمّ معارك التحرر عربيا هو أنه لم يعد يمثل ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية فقط بل لأنه تحول إلى ظاهرة ثقافية وسلوكية ذات فعل وظيفي مريع. إن تطور الفساد وتحوله من محل الاسم المستقل الدال على الظاهرة إلى محل الفعل المتعدي الدال على الحركة والمنتج للظواهر هو أخطر ما يهدد وجود الكيانات العربية الإقليمية.

فساد أكبر وفساد أصغر
درجت الأدبيات النقدية الاقتصادية والمالية خاصة على توزيع الفساد على محورين أساسيين الفساد الكبير أو الأكبر والفساد الصغير أو الأصغر.

الفساد الكبير كما يدل عليه النعت المصاحب هو مجموع الصفقات والمعاملات والأنشطة ذات الحجم المحلي والإقليمي والدولي التي تبلغ قيمتها المادية والعقارية ملايين الدولارات مثل الصفقات التجارية بأنواعها والعمولات الفلكية والسطو العقاري والتهريب المنظم والتفويت في الثروات الوطنية وتبييض الأموال.. هذا الكم من الفساد يُدار عادة بآلات ضخمة تتضمن أجهزة الدولة من وزارات وسفارات ورجال أعمال كبار ويرتبط عادة بشركات متعددة الجنسيات وبالبنوك الدولية وصناديق النقد وشبكات مختصة عابرة للقارات والأوطان والبنوك.

أما الفساد الأصغر فيرتبط بالأفراد أكثر من ارتباطه بالمجموعات فهو بذلك أصغر حجما من الأول في القيمة المادية لعملياته لأنه يتحرك بشكل فردي مجهري في كثير من الأحيان. وهو يتجلى في عمليات الرشوة أساسا والوساطة والمحسوبية التي تمس المعاملات اليومية للمواطن في علاقته بالإدارة والمؤسسات خاصة. لكن من جهة أخرى ورغم انخفاض قيمته المادية على المستوى الفردي فإن انتشاره الكثيف اليوم في الدول العربية يجعل منه ظاهرة وفعلا أخطر من الفساد الأكبر.

بناء عليه فإن التسمية التصنيفية للفساد تكشف مغالطة ضخمة تغطي الخطر الحقيقي من الظاهرة لأن الفساد الأصغر أكثر كثافة وتواترا وعمقا من الفساد الأكبر وهو أشد مقاومة لفعل الاستئصال من نظيره الأكبر. إن محاسبة مجموعة من رجال الأعمال الفاسدين هي أسهل بكثير من تطهير قطاع الخدمات الصحية من ظاهرة الرشوة والمحسوبية وتجارة الأعضاء وتهريب الأدوية وتزوير الشهادات الطبية.. مثلا.

فعل الفساد ومنظومة القيم
من يستطيع أن يُنكر في دول الربيع العربي مثلا كمصر وتونس وليبيا وكذلك الجزائر وفي دول عربية أخرى كثيرة أن الفساد تحول إلى دولة داخل الدولة ـ إن لم نقل أنه هو الدولة نفسهاـ بشكل لا يستطيع المواطن معه الحصول على الكثير من أبسط الحقوق والخدمات دون تقديم رشوة أو المرور بأحد المعارف المتنفذين أو التحيل على القانون.

فعل الفساد هو أخطر من الظاهرة نفسها بمعنى أن الفساد تحول إلى سلوك وإلى ثقافة يقبلها المجتمع بشكل ضمني وتخرج من حيز المسكوت عنه أولا إلى حيز الإكراه ثانيا ثم إلى حيز المباح العلني ثالثا.

بذلك تطور الفعل إلى شكل هيكلي مُنتج للظواهر بعد أن كان هو نفسه ظاهرة ونتيجة للنظام السياسي والاقتصادي والمالي للدولة المتخلفة التي تتميز بغياب القانون أو بالأحرى بتغييب تطبيق القانون.

إن ثقافة الفساد التي انتشرت بشكل وبائي في الدولة العربية الاستبدادية بشكل خاص تمثل أخطر تهديد لمنظومة القيم بما هي الشبكة التحتية الأساسية للبناء الاجتماعي والفردي في دولة ما.

فإذا كان بناء الدولة القيمي لا يقوم إلا بشرط العدل بما هو تطبيق للقانون ودفع للظلم ومحاربة للتسلط والاستبداد فإن انهيار هذا البناء لا يكون إلا بعكس ذلك أي بانهيار المنظومة القانونية وتفشي الفساد داخل السلطتين القضائية والتنفيذية في الدولة.

لكن الصادم في المسألة هو أن المنطقة العربية تتميز مع خلفيتها الإسلامية العقائدية الصلبة بمخزون مشرقي قيمي كثيف على المستوى النظري وعلى مستوى النصوص والأدبيات بمختلف تصنيفاتها.

فالدين الاسلامي بُني أولا على تجديد القيم الفردية والجماعية بما هي الضامن لنجاة الفرد والمجموعة في الدارين بشكل ربط فيه ربطا وثيقا بين الأخلاق وبين النجاة. هذا الالتحام الانصهاري هو الذي عبر عنه الشاعر أحمد شوقي حينما ربط بقاء الأمم وسيادتها بالأخلاق ووصل فيه بين ذهاب أخلاق الأمم وذهاب الأمم نفسها.

السؤال المركزي هنا هو كيف تنمو شروط نهاية الأمم وتتفشى في حاضنة عربية إسلامية هي الأكثر تنصيصا على القيم والأخلاق والمبادئ والفضائل بما هي شروط بقاء الأمم وازدهارها؟

الفساد وتجدد الموجات الثورية
من يستطيع أن يُنكر أن شرارة الربيع العربي كانت إعلانا رمزيا لرفض الظلم والفساد التي ترجمها محمد البوعزيزي ـ الشهيد ثورياـ بإحراق جسده ؟ من يستطيع أن يدفع شعار الثورة التونسية الأبرز "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" بما هو إعلان صريح عن التشهير بدولة الفساد لنظام بن علي الرئيس الهارب؟

الفساد هو العنوان الأبرز للدول القمعية العربية بل هو الشرط الذي من أجله أُحدثت استعماريا حتى تكون حارسا لنهب الثروات ومانعا للتنمية ولقيام دولة العدل والقانون التي قد تصنع نهضة تهدد أطماع المنظومة الاستعمارية العالمية.

لكن تطور الفساد من الشكل العمودي الأكبر إلى الشكل الفردي الأفقي يمثل تحولا من تدمير ثروة الدولة إلى تفتيت لمقومات بقاء أفرادها. فعندما يصل الفساد إلى الشكل اليومي المباشر لسلوك الفرد يتحول وجود الدولة إلى حالة سرطانية من التآكل الداخلي أشبه بالتدمير الذاتي حيث يأكل الجسد خلاياه.

بناء عليه تكون الثورات والرجات الثورية إيذانا ومؤشرا على بلوغ حالة التآكل هذه مداها ووصولها إلى مراحل متقدمة لا يستطع الجسد تحملها. الثورات إذن إعلان من خلايا الجسد على أن الوظائف الحيوية قد مُست وأن التدخل الجراحي صار ضروريا وهي بذلك نوع من الألم الإيجابي المؤشر على الداء والمُستدعي للدواء والعلاج.

الثورات العربية وربيع الشعوب العظيم هو إعلان دموي على أن الحالة المرضية للأمة بلغت مراحل متقدمة تستلزم إعادة تشكيل النظام ووظائفه. من هنا تكون الثورات المضادة وما تفعله الدولة العربية العميقة من سعي محموم إلى استعادة النظام الاستبدادي إنما هو تكريس لفعل التدمير الذاتي المهدد لوجود الأمة.

الانقلاب المصري مثلا هو تدميرٌ للوجود المصري ومنع لإنقاذ الدولة وتفتيت لكيانها بشكل لا رجعة فيه ما لم تستعد الموجة الثورية الثانية مكاسب الموجة الأولى. اليوم مثلا يبلغ الدولار مستويات فلكية وتتحول مصر إلى أضحوكة دولية فيهدد العطش أبناءها ويجوع أطفالها وتتوحش الطبقة الغنية ويبلغ عجزها التجاري مستويات فلكية ويتحول الفساد إلى دولة تحكم الدولة ويقبض عليها العسكر الانقلابيون بأنياب من فولاذ.

في تونس توشك الدولة على الانهيار بعد الانقلاب الانتخابي وعودة النظام القديم برداء وأصباغ ثورية جديدة متحالفا مع أعداء الأمس من الإسلاميين الذين تنكروا للثورة ولقواعدهم باسم المصالحة الوطنية الزائفة التي لم تحاسب فاسدا واحدا بل بيضت الفساد بتعلة واهية وهي أنه ليس في الإمكان أفضل مما يكون.

الحالتان التونسية والمصرية هما أبرز مثال على أن الموجات الثورة كانت أساسا بفعل الفساد لأنهما نموذجان للدولة العسكرية الاستبدادية لنظامي مبارك وبن علي حيث وصل الفساد والظلم الاجتماعي مستويات مرتفعة فجرت الغضب الاجتماعي وهما أيضا دليل قاطع على حتمية تجدد الموجات الثورية اليوم أو غدا.

إن عدم تجدد الموجات الثورية يمثل أخطر المنوالات المستقبلية للأمة لأن في ذلك إعلانا عن انخراط الأمة في مسار التفتت والتشظي بشكل لا عودة فيه لأن فعل الفساد وغياب العدل ونهاية القانون مؤذن بخراب كل العمران.

فمطلب الحرية الذي رفعته الجماهير العربية هو الوجه الآخر لمطلب العدالة الاجتماعية ولنبذ الاستبداد بما هو عنوان للفساد وحارس له.

إن الفوضى التي صنعها النظام الاستعماري العالمي ردا على ثورات الشعوب السلمية هي الشكل المسلح الراعي للفساد والحامي له خارجيا. بناء عليه تكون التنظيمات الإرهابية الصناعية والطبيعية بما فيها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الدموي إنتاجا مباشرا لفساد النظام الاستبدادي وهي الحامي الأول لهيكل الاستبداد العربي. لا يمكن أن يكون الإرهاب من إنتاج الشعوب العربية بل لا يمكن أن يكون إلا من إنتاج الانظمة الاستبدادية والقوى الدولية الحامية لها والحامية للفساد المُوجد لها.

إن ثالوث الاستبداد والفساد والإرهاب هو الهرم الذي يشكل أخطر التحالفات الوظيفية اليوم على الأرض العربية المثخنة بجراح الانكسارات، وليس الاستبداد السياسي إلا رأس الهرم الحاد في حين يمثل الفساد بشكليه الأفقي والعمودي قاعدة الهرم الصلبة ومحوره المتين.

لقد تطاير رأس الهرم في مصر وتونس وليبيا سريعا بسقوط الواجهة المرئية للاستبداد وتهاوي عروش الطغاة لكن قاعدة الهرم الفولاذية المؤسسة على شبكات الفساد والثقافة المنتجة له نجحت في إنبات رأس جديد أشد صلابة من سابقه وهو ما يكشف بجلاء أن معركة الحرية على الأرض العربية هي معركة قاعدية أفقية أو لا تكون.

إن إحلال العدل وتحكيم القانون وتطبيق الحدود ومحاربة قيم الفساد وثقافة الإفساد هو المخرج الوحيد القادر على نسف القاعدة الصلبة للاستبداد السياسي مما يسمح بإنقاذ المنطقة العربية من جرائم الاستبداد ومن تدخل الخارج ومن الانفجارات القادمة والتي لن تكون حتما بهدوء سابقاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.