أوروبا وتركيا وما بعد الانقلاب الفاشل

European Union (L) and Turkish flags fly outside a hotel in Istanbul, Turkey May 4, 2016. REUTERS/Murad Sezer

قبل الانقلاب الفاشل
ورقة مفاوضات العضوية
المخاوف من تركيا إسلامية

يشكك الأوروبيون أحيانا في مصداقية رغبة الرئيس التركي طيب رجب أردوغان في العضوية في الاتحاد الأوروبي، ويذكّرون بأنه كان معارضا لذلك إلى أن نجح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات عام ٢٠٠٢ ، حيث مارس آنذاك "ديبلوماسية هجومية" لإنهاء المماطلة الطويلة في التعاطي مع طلب الانضمام من جانب تركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي منذ ١٩٤٩.

وقد رفض الأوروبيون مرارا الاستجابة لطلبات الانضمام، كان ذلك مثلا في عام ١٩٥٩ بشأن الانضمام إلى "السوق الأوروبية المشتركة" وعام ١٩٨٧ إلى الاتحاد الجمركي الأوروبي، وكان القبول بهذه العضوية "الجمركية" عام ١٩٩٦ أول خطوة إيجابية أوروبية، قبل أن يساهم إلحاح حكومة حزب العدالة والتنمية في استصدار قرار أوروبي عام ٢٠٠٢ ببدء مفاوضات الانضمام عام ٢٠٠٤، وقد بدأت أواخر عام ٢٠٠٥ فعلا، وما تزال جارية بصورة متقطعة وبطيئة حتى اليوم، إذ تشمل ٣٣ بندا، لم يغلق منها سوى بند واحد حول البحث العلمي، وافتتح التفاوض حول ١٨ بندا، ولا يزال ١٥ بندا مغلقا بانتظار أعوام قادمة، وقد لا تفتح البتة حسب المعطيات الحالية.

قبل الانقلاب الفاشل
مهما كانت التوقعات بشأن التعامل أوروبيا مع تركيا بعد الانقلاب الفاشل وتداعياته، فإن ما طرأ على قضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سبق ذلك بكثير، في تركيا نفسها وفي أوروبا، وقد تعكّر الإجراءات الداخلية الحالية العلاقات الخارجية مع الغرب عموما، فتتخذ موازنة المصالح أرضية سلبية جديدة، إنما الأهم من ذلك السؤال عن الآثار الداخلية، والقدرة على استبقاء التماسك بين جميع الشرائح السياسية، المؤيدة ابتداء أو لإدراكها أن القبول بالوضع الجديد هو أهون الضررين؛ فهذا التماسك من شروط استمرار نجاح المسيرة الاقتصادية، وهي بدورها ذات تأثير كبير على العلاقة بالغرب بما فيها العضوية في الاتحاد الأوروبي.

في مطلع القرن الميلادي الجديد كانت نسب تأييد الانضمام في تركيا تتجاوز ٧٠% في استطلاعات الرأي، وهبطت إلى أقل من ٥٠% (نهاية عام ٢٠١١م وفق مؤسسة AP-GfK)، مقابل صعود تركيا اقتصاديا من المرتبة ١١٦ إلى المرتبة ١٦ عالميا، أما الآن فجاء في مقال بقلم ماركو ماير في موقع "كونترا" الألماني يوم ٢٨ /٦ / ٢٠١٦ -أي قبل الانقلاب الفاشل- أن نسبة الرفض بلغت ٧٠% مقابل ٢٣% تؤيد استمرار المفاوضات، ويتركز التأييد على منطقة الأكراد حيث تبلغ نسبته ٨٣%.

في أوروبا أيضا تقول استطلاعات الرأي إن غالبية السكان في بعض الدول كالسويد وإسبانيا والبرتغال تؤيد الانضمام بينما تصل نسبة الرفض إلى ٨١ في المائة في النمسا و٦٩ في المائة في ألمانيا والغالبية البسيطة في بلدان أخرى مثل فرنسا وبلجيكا وإيطاليا، ولا تبتعد المواقف السياسية عن هذه المواقف الشعبية.

أوروبا السياسية تتعامل مصلحيا على مضض مع تركيا الحديثة، بوجهها الذي ربط مسارها الديمقراطي بإنجازات حزب العدالة والتنمية وتوجهاته، ومن المنتظر أن يستمر ذلك نتيجة توقع مزيد من التمكين لزعامة سلطته الحالية سياسيا وشعبيا أكثر من أي وقت مضى ولزمن طويل بعد الانقلاب الفاشل.

ورقة مفاوضات العضوية
لعل حملة الانتقادات الأوروبية تجاه إعلان حالة الطوارئ الآن تحت عنوان الحفاظ على دولة القانون، صادرة عن الخشية من إضعاف مواقع شرائح سياسية معارضة تركية لا يخفى أنها الأقرب بمنطلقاتها وأطروحاتها إلى الدول الغربية، علاوة على ارتباط الجانب "التقنيني" بالعضوية في الاتحاد الأوروبي، وقد ظهر هذا الارتباط بصورة أوضح في الموقف من احتمال تفعيل عقوبة الإعدام.

كان إلغاء العقوبة ضمن التعديلات القانوينة بتركيا في مطلع عهد حزب العدالة والتنمية كجزء من المساعي التي بلغت درجة الضغوط في اتجاه تحديد موعد مفاوضات الانضمام، ورغم تجدد الحديث الآن حول إعادة تفعيل العقوبة، من المستبعد التسرع رسميا في اتخاذ القرار، ويشير إلى ذلك حرص السلطة على ربطه بمشاركة الأحزاب الأخرى، وهو يحتاج إلى غالبية الثلثين في المجلس النيابي على كل حال.

بالمقابل يلاحظ أن التصعيد الأوروبي تجاه تركيا مركز على وسائل الإعلام وعلى تصريحات متشددة على مستوى سياسي أدنى من مستوى المسؤولين عن صناعة القرار، بينما يسود التردد عن اتخاذ إجراءات مضادة مؤثرة، فدور تركيا أطلسيا وإقليميا بالغ الحساسية، ولهذا يدفع وضع مسألة عقوبة الإعدام في الصدارة إلى التساؤل، ما إذا كان المقصود تركيز أنظار الرأي العام على ذلك، مقابل تجنب إحداث قطيعة مع بلد بالغ الأهمية في مجموع السياسات الغربية، رغم الانزعاج من المسيرة التركية مع الثورات العربية.

لعل هذا ما يفسر ذكر تفعيل العقوبة -رغم ضعف احتماله- نذيرا بوقف مفاوضات الانضمام، على لسان المستشارة الألمانية ميركل ووزير خارجيتها، وعلى لسان المسؤولة عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي موغيريني التي لم تلتفت وهي تصرّح بذلك في مؤتمرها الصحفي إلى وزير الخارجية الأميركي كيري بجانبها، وكأن عقوبة الإعدام لا تسري وتنفذ في معظم الولايات الأميركية.

على أية حال يمكن رصد درجة لا بأس بها من التخبط السياسي الأوروبي حاليا في التعامل مع تركيا، مع ملاحظة استخدام اسم أردوغان "مرادفا" للدولة كلّها، وهذا ما ينعكس على ذكر مفاوضات الانضمام والتهديد بقطعها، وكانت دوما تخطو خطوة إلى الأمام واثنتين إلى الخف، بحجج عديدة، مثل أزمة قبرص، ومشكلة الأكراد، ولم تأخذ مسألة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي حتى اليوم مسارا جادا وحاسما.

قبل مسيرة النجاح اقتصاديا في عهد حزب العدالة والتنمية ربما كان التخلف الاقتصادي -إضافة إلى الحكم العسكري وراء ستار ديمقراطي- حجة منطقية من وراء عدم الانفتاح الأوروبي على انضمام تركيا، ولكن هذا النجاح أسقط تلك الحجة.

أما على الصعيد التقنيني الأهم بالمنظور الأوروبي فقد استجابت الحكومات التركية بزعامة أردوغان ورفاقه للقسط الأكبر من الطلبات الأوروبية -بصيغة شروط- حتى فيما يتناقض مع توجهات حزب العدالة والتنمية، رغم أن كثيرا من المحللين الأوروبيين كانوا يفسرون ذلك باستغلال ورقة الانضمام للتخلص من القيود العسكرية وغيرها في تركيا.

والواقع أن مسار المفاوضات حول العضوية أصبح متركزا في الدرجة الأولى على استخدامها "ورقة" لإعطاء العلاقات صيغة تحافظ على المصالح المشتركة قدر الإمكان، دون توقع أن يصبح انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي واقعا فعليا في قادم الأيام.

المخاوف من تركيا إسلامية
بغض النظر عن خلفيات "الانقلاب الفاشل" وما يقال أو ينكشف بصدد أدوار أجنبية، لا شك أن الوضع الجديد يثير مخاوف أوروبية وغربية عموما لا علاقة لها بصورة مباشرة مع موازين المصالح المشتركة، الاقتصادية والأمنية والسياسية، بقدر ما ترتبط بسبب جوهري وراء تحول مسألة الانضمام إلى مجرد "ورقة المفاوضات حول الانضمام".

رسميا تسري وثيقة "شروط كوبنهاجن ١٩٩٣" لضبط التوسع الأوروبي شرقا على المفاوضات مع تركيا أيضا، أما سياسيا فلم ينقطع التركيز على العقبة الأكبر في وجه الانضمام، وهو ما يجري التعبير عنه غالبا بالاختلاف الثقافي ويحمل أحيانا عنوانه الأصح وهو الاختلاف العقدي.

في ١٤/ ٣/ ١٩٩٧م نشرت أسبوعية دي تسايت الألمانية مقولة الرئيس الألماني الأسبق هيرتسوج للرئيس التركي الأسبق ديميريل "نحن ملتزمون بما تقرر في اتفاقية الاندماج مع تركيا من عام ١٩٦٣ بما في ذلك قابلية الانضمام، وهذا جزء ثابت من السياسة الألمانية، فأوروبا ليست ناديا مسيحيا"، لتقارن الصحيفة بين هذا التعهد قبل شهور وبين مقولة المستشار الألماني الأسبق هلموت كول بعد بضعة أسابيع فقط في مؤتمر الأحزاب المسيحية والمحافظة الأوروبي في بروكسل: "تركيا ليست جزءا من أوروبا الآن ولن تكون في المستقبل" مشيرا إلى الحواجز الكبيرة في وجه ذلك ثقافيا ودينيا.

وتوجد تصريحات مشابهة على ألسنة مسؤولين أوروبيين من فرنسا وبولندا والنمسا وغيرها، كما أنها لم تنقطع في ألمانيا، فبعد سنوات من مقولة كول، أعلن شويبلي وفق صحيفة فرانكفورتر آلجيماينه يوم ٢٤/ ١٠/ ٢٠٠٤ ، وكان آنذاك رئيس كتلة المسيحيين الديمقراطيين في المجلس النيابي الألماني، أن "الاتحاد الأوروبي لا يستطيع أن يكون لاعبا سياسيا قادرا على التصرف إلا إذا حافظ على تميزه الأوروبي وهذا التميز سيتضرر في حال انضمام تركيا إليه".

وتتكرر هذه المواقف باطراد، ومنها على لسان المستشارة الألمانية ميركل على خلفية الموقف من تركيا أثناء زيارة البابا الكاثوليكي السابق بينديكت السادس عشر، في يوليو/تموز ٢٠٠٨، وهي تعده بأن الاتحاد الأوروبي سيعزز مشروعه الدستوري بروح ثقافية بقيم مسيحية ويهودية".

صحيح أن التصريحات السياسية الرسمية في نطاق مفاوضات الانضمام لا تذكر العنصر العقدي الثقافي مباشرة، ولكنه أصبح يأخذ حيزا معتبا في العديد من المحاضرات ومن الكتب الصادرة بأقلام مسؤولين سياسيين يتناولون مستقبل العلاقات مع تركيا.

وتوضح الأمثلة آنفا أن هذا التوجه الأوروبي العام اكتسب الاستمرارية من قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ومن العسير أن يتبدل باتجاه انفتاح أوروبي أكبر بعد رصد التوجهات ذات الصبغة الإسلامية في سياساته، وانتقادها غربيا، وهو ما بلغ درجة بعيدة المدى قبل الانقلاب الفاشل.

أحد أسباب المخاوف العامل السكاني، فتركيا -إذا أصبحت عضوا- تحتل حاليا المرتبة الثانية بعد ألمانيا من حيث عدد السكان، وهو من مرتكزات تقنين اتخاذ القرارات، ويمكن أن تتحول إلى المرتبة الأولى وفق تنبؤات النمو السكاني، ومع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يكتسب هذا العنصر وزنا إضافيا، إلى جانب الوزن الإضافي لزيادة ترسيخ العامل العقدي والتوجه الإسلامي الذي بدأت التنبؤات بصدده كأحد التداعيات الحاسمة لفشل الانقلاب، ناهيك عن اتهام السلطة التركية باستغلال ذلك لتعزيز توجهاتها السياسية ذات الصبغة الإسلامية.

والحصيلة؛ أن كلا الطرفين أقرب إلى القبول بوقف المفاوضات حول الانضمام، ولكنه يريد -إذا قُطعت- إظهار مسؤولية الطرف الآخر عن ذلك، أما تداعيات الانقلاب الفاشل فلا يبدو أنها تغير كثيرا من هذه المعادلة المعضلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.