انفجار الخروج البريطاني المناهض للعولمة

Nigel Farage, the leader of the United Kingdom Independence Party (UKIP), makes a statement after Britain voted to leave the European Union in London, Britain, June 24, 2016. REUTERS/Toby Melville

ساهمت الشعبوية والنزعة القومية وكراهية الأجانب في انتصار حملة "الخروج" في الاستفتاء الذي جرى في المملكة المتحدة مؤخرا على عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ولكن هذه العوامل تطفو على سطح تغير جذري أكبر كثيرا يتمثل في تحول جوهري طرأ على العلاقة بين الدولة والسوق في مختلف أنحاء العالم.

منذ مولد الرأسمالية الحديثة، كان هذان الإطاران من النشاط البشري متعارضين في عموم الأمر. ففي حين تميل السوق إلى التوسع جغرافيا مع السعي الدؤوب من قبل المشاركين فيها إلى تحقيق منافع اقتصادية، بينما تسعى الدولة إلى فرض النظام على كل شخص وكل شيء داخل الأراضي التي تسيطر عليها. وقد يدرك تاجر ما الفرص المتاحة في بلد أجنبي، ولكنه سيصطدم بالدولة -سلطات الهجرة في ذلك البلد في المقام الأول- إذا سعى إلى اغتنام تلك الفرص.

وتُعَد كيفية إصلاح التوتر بين السوق والدولة الشغل الشاغل للاقتصاد السياسي اليوم، تماما كما كانت الحال التي عاصرها آدم سميث في القرن الثامن عشر، وفريدريش ليست وكارل ماركس في القرن التاسع عشر، وجون ماينارد كينز وفريدريش فون هايك في مناظرتهما الطويلة حول هذا الموضوع خلال العقود الوسطى من القرن العشرين.

 

ولنتأمل هنا نقيضين افتراضيين في العلاقة بين الدولة والسوق؛ الأول يتمثل في سوق عالمية سلسة حيث يستطيع الأفراد تعظيم الفوائد المادية التي يكتسبونها من دون أي تدخل من الدولة. المشكلة في هذا السيناريو أن المرء ربما يعيش في دولة معرضة لكل العواقب السلبية المترتبة على العولمة التي لا تحكمها أية قواعد، مثل خفض قيمة العملة، واستغلال العمالة، والاستهزاء بقوانين الملكية الفكرية، وما إلى ذلك.

يتمثل النقيض الآخر في عالَم يتألف من دول منعزلة تماما تتمتع بالاكتفاء الذاتي، حيث يحظى الأفراد بالحماية من القوى الاقتصادية الخارجية وتتمتع الدولة بالاستقلال الكامل في ما يتصل بالشؤون الداخلية. في هذا السيناريو، سوف نضطر إلى التخلي عن كل الفوائد الاقتصادية المعروفة جيدا والتي يتيحها التقسيم العالمي للعمل.

وبين هذين النقيضين يقع أغلب العالَم على حاله الآنية التي تتسم بمشاريع التكامل الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي أو اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا).

وبوسعنا أن نميز بعض التقلبات المهمة خلال تاريخ الرأسمالية على مدار القرنين الماضيين، سواء نحو السوق أو باتجاه الدولة. على سبيل المثال، كان إلغاء قوانين الذرة في المملكة المتحدة عام 1846 محابيا للسوق الحرة في التجارة الدولية كما ساعد في تسريع عجلة العولمة إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى.

بعد الحرب العالمية الأولى، انقلبت كفة الميزان مرة أخرى نحو الدولة.. وتملك الضَّعف من رأس المال المالي على الصعيد السياسي، واغتنمت الطبقة العاملة المتحفزة الفرصة للمطالبة بالوظائف وبرامج الرعاية الاجتماعية التي تعارضت مع منطق وقواعد السوق الخاضعة للعولمة.

وفي الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، نشأت سياسات إفقار الجار وتفشت تدابير الحماية، فانسحبت بريطانيا من معيار الذهب عام 1931 في الاستجابة للتهافت على سحب الجنية. وأعلنت مجلة ذي إيكونوميست يوم الاثنين الموافق الحادي عشر من سبتمبر/أيلول من ذلك العام "نهاية مؤكدة لحقبة من التنمية المالية والاقتصادية في العالَم". وبعد الموافقة على الخروج البريطاني، حَذَّرت نفس المجلة من أن "بريطانيا تبحر إلى العاصفة بلا قبطان على عجلة القيادة".

ثم كان مؤتمر بريتون وودز في عام 1944 بمثابة انقلاب آخر نحو العودة إلى السوق، ولكنه هذه المرة سمح بقدر من الاستقلال الوطني. وحتى أواخر الستينيات، سَمَح توازن متناغم بين الانفتاح الدولي والاقتصاد الوطني بانتشار الازدهار على نطاق واسع.

ولكن في السبعينيات، عادت الاضطرابات، حيث تسبب النمو البطيء والأسعار المرتفعة الناجمة عن "الركود التضخمي" وأزمة الطاقة العالمية في دفع العجلة مرة أخرى نحو السوق المحررة بشكل كامل ــ التحول من أفكار جون ماينارد كينز إلى أفكار فريدريش فون هايك، والذي ساعدت في تغليبه سياسات مارغريت تاتشر في المملكة المتحدة ورونالد ريغان في الولايات المتحدة.

ويقودنا هذا إلى الوقت الحاضر؛ لقد وضعت الأزمة الاقتصادية في عام 2008، وفشل الاقتصاد العالمي في التعافي منها بشكل كامل، حدا للمشروع الذي أطلقته تاتشر وريغان. وكما حدث في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، اعتبر العمال أنهم دُفعوا دفعا إلى التخلف عن الركب بفعل العولمة، حيث حابى الزعماء السياسيون أصحاب المال والشركات الكبرى على حسابهم.. وفي حالة الخروج البريطاني، صوت معسكر "الخروج" لصالح المزيد من الاستقلال الوطني، حتى برغم التكلفة المادية الواضحة.

وقد لا تكون النسخة الأميركية من الخروج البريطاني بعيدة إذا قرر رئيس الولايات المتحدة القادم مغادرة اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، مع 11 دولة مطلة على المحيط الهادي، والتي جرى التوقيع عليها في فبراير/شباط من هذا العام. وفي وقت حيث تكاد مفاوضات التجارة العالمية تلفظ أنفاسها الأخيرة، ينبغي لنا أن ننظر إلى الشراكة عبر المحيط الهادي باعتبارها نهجا معقولا لتعزيز التجارة المتعددة الأطراف. بيد أن المرشحيْن المفترضين لرئاسة الولايات المتحدة يقولان إنهما يعارضانها، ويعدان بما قد يمثل "خروجا أميركيا" من النظام التجاري العالمي.

الواقع أننا نعيش الآن فترة من خلو العرش.. وسوف يستمر السخط الاجتماعي والسياسي في التفاقم في مختلف أنحاء العالم إلى أن نعيد العلاقة بين الدولة والسوق إلى التوازن الصحي. والمشكلة أن لا أحد يعرف ما هي أفضل طريقة لتحقيق هذه الغاية.

يقترح البعض العودة إلى حالة متناغمة من التوافق بين الأسواق الدولية والاستقلال الوطني، كما حدث بموجب ترتيبات بريتون وودز. لكن الاقتصاد الدولي في فترة ما بعد الحرب كان مبنيا لعصر ما قبل العولمة، ولا يمكننا أن نعيد الجني إلى القمقم الآن، حتى ولو كان ذلك في مقدورنا.

إن الخروج البريطاني يمثل بداية نهاية آخر عصور العولمة، ويمكن لأي شخص أن يخمن ما قد يأتي لاحقا، ولكن بوسعنا أن نتيقن من أن القادم لن يكون المقصد النهائي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.