الخروج البريطاني والضربة التي يسددها للعولمة

مظاهرة بلندن رفضا للخروج من الاتحاد الأوروبي


كان الاستفتاء الذي أجري في المملكة المتحدة على "الخروج البريطاني" من الاتحاد الأوروبي سببا في زعزعة أركان أسواق الأسهم والأسواق المالية في العالم. وكما حدث في وقائع سابقة من الاضطرابات المالية المعدية، دفع التصويت لصالح "الخروج" المستثمرين إلى الملاذات الآمنة المعتادة، فارتفعت سندات الخزانة الأميركية، والدولار، والفرنك السويسري، والين الياباني بشكل ملحوظ مقابل الجنيه الإسترليني.

عندما بات من الواضح أن معسكر "البقاء" خسر المعركة، بدا الأمر وكأن انحدار الجنيه يسلك نفس مسار انخفاض القيمة التاريخي الذي بلغ 14% في أزمة الإسترليني عام 1967، ولكن النتائج "الأفعوانية" التي نشهدها الآن في أسواق رأس المال العالمية لا تتفرد بها نوبة الخروج البريطاني.

ما هو فريد حقا، وبعيد المدى بشكل خاص، هو السابقة التي يخلفها الخروج البريطاني للدول (أو المناطق) الأخرى، والتي تشجعها على "الخروج" من الترتيبات السياسية والاقتصادية التي تشارك فيها حاليا ــ سواء كانت أسكتلندا وشمال أيرلندا في المملكة المتحدة، أو كاتالونيا في أسبانيا، بل وربما يُعاد رسم حدود دول قومية قائمة أو تُزال حدودها بالكامل إذا خضعت الدول الأعضاء للنزوات القومية الداخلية وتخلت عن تجربة دامت عقودا من الزمن في الوحدة الأوروبية. (وكما تُظهِر حملة دونالد ترامب الرئاسية في الولايات المتحدة، فإن هذه النزوة تمتد إلى خارج أوروبا).

الواقع أن الخروج البريطاني يشكل انتكاسة كبرى للعولمة، بما يحمله من تأثيرات سلبية على التمويل والتجارة وحرية تنقل العمالة، ربما لا تنتشر تداعيات الخروج البريطاني بنفس السرعة التي تنتشر بها الأزمات المالية الصريحة، مثل الانهيار المالي في عام 2008 أو الأزمتين الآسيويتين في عام 1997 ثم في عام 1998. ولكن التأثيرات الثانوية أيضا لن تخمد في أي وقت قريب.

الواقع أن ترتيبات المملكة المتحدة التجارية والمالية وتلك الخاصة بالهجرة أشد تعقيدا ورسوخا من أن يجري التفاوض بشأنها بسرعة، وفي غضون ذلك، من المرجح أن يتم تعليق العديد من الصفقات العابرة للحدود في السلع والخدمات والأصول المالية. وحتى إذا لم نشهد لحظات "خروج" أخرى في أوروبا، فإن فترة مطولة من عدم اليقين في أسواق رأس المال العالمية تبدو احتمالا مرجحا.

من الأهمية بمكان أن نتذكر أن العولمة لم تبدأ مع الجيل الحالي، فقد كان الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، على الرغم من قصوره تكنولوجيا، عصر ارتفاع التجارة العالمية. وقد تسببت موجات كبرى من الهجرة في تنويع التركيبة الديموغرافية في الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من أميركا الشمالية والجنوبية بشكل جذري، وكانت لندن المدينة التي استضافت صناعة مالية عالمية سريعة النمو، كما كانت حالها منذ خرجت بريطانيا منتصرة من الحروب النابليونية.

ثم أنهت الحرب العالمية الأولى هذه الموجة المبكرة من العولمة؛ وحتى بعد العودة إلى السلام، لم يتعاف العالم بشكل كامل حقا. فكان الكساد الاقتصادي في عشرينيات القرن العشرين في بريطانيا، ثم في الثلاثينيات في بقية العالم، إيذانا بقدوم موجة عالمية من تدابير الحماية، والسياسات المحلية البحتة، وخفض القيمة تنافسيا على غرار مبدأ إفقار الجار. ثُم دُقّ المسمار الأخير في نعش العولمة حتى قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

ورغم أننا لا نستطيع أن نزعم أن صناع السياسات كانوا السبب الأصلي أو الوحيد وراء الركود الذي عم مختلف أنحاء العالم، فهناك اتفاق واسع النطاق بين الاقتصاديين والمؤرخين على أنهم في ذلك الوقت جعلوا الوضع السيئ أشد سوءا إلى حد كبير.

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ التكامل العالمي من جديد أخيرا، أولا في عالَم التجارة ثم في عالَم التمويل، منذ ثمانينات القرن العشرين. خلال ذلك الوقت، أفاق المركز المالي في لندن من سباته الطويل وساعد المملكة المتحدة لكي تصبح واحدة من ركائز اقتصاد سياسي دولي جديد يتسم بالتكامل العميق.

قبيل اندلاع الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، بلغت أغلب مؤشرات التجارة العالمية والتمويل ارتفاعات غير مسبوقة، وساهمت الوحدة الأوروبية في ذلك إلى حد كبير. ولكن مع اندلاع الأزمة، انكمش التمويل عبر الحدود في أوروبا عندما بدأت اقتصادات منطقة اليورو التي أفرطت في الاعتماد على الاستدانة تفقد قدرتها على الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية، وأصبحت المخاوف بشأن الإعسار في القطاعين الخاص والعام في صدارة الاهتمامات.

أسفرت الأزمة المالية عن أشد تراجع متزامن في التجارة العالمية منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين. وحتى يومنا هذا، لم تتمكن التجارة العالمية من استعادة مسارها السابق: فمنذ عام 2008، ارتفعت أحجام الصادرات بنحو نصف متوسط المعدل السنوي في فترة ما قبل الأزمة (3.1%). وكان التباطؤ في أوروبا ذاتها أكثر حدة.

لقد وجهت الأزمة المالية العالمية ضربة قوية للعولمة، وخاصة في مجال التجارة والتمويل. والآن سدد إليها الخروج البريطاني ضربة أخرى، مضيفا تنقل اليد العاملة إلى القائمة.

إن الأسواق المالية غير بارعة في التعامل مع حالات عدم اليقين. وفي حين يواجه العالَم بالفعل النمو الهزيل وانخفاض مستويات الاستثمار، فإن أي خطة مناسبة لاحتواء الأضرار والسيطرة عليها لابد أن تتضمن القرار العاجل بشأن قواعد اللعبة الجديدة لبريطانيا وعلاقتها بالاتحاد الأوروبي.

وسوف يؤدي أي تأخير إلى المزيد من الإحباط وارتفاع احتمالات انتهاج سياسات انتقامية من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وآخر ما يحتاج إليه أي شخص الآن هو الطلاق السياسي على مبدأ العين بالعين، والذي لن يؤدي إلا إلى تعميق خطوط الصدع المتسعة بالفعل في جسد الاقتصاد العالمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.