ثقافة التعايش الغائبة بين الأطراف الليبية

Members of the Libyan pro-government forces, aim a weapon during their deployment in the Lamluda area, southwest of the city of Derna , Libya June 16, 2015. Picture taken June 16, 2015. REUTERS/Stringer

سقف الضرورة بين أطراف الحوار الليبي يبدو متحركا إلى الحد الذي يجعل بعض الأطراف المتحاورة تعتقد أنه بالإمكان زحزحة هذا السقف الضروري المشترك لتحل بدلا عنه مصلحته كضرورة مشتركة يقبل بها جميع الأطراف.

ويبلغ الأمر أقصى خطورته عندما نعلم أن الوطن وما يمثله من مصلحة عامة هو ذلك السقف الذي يحاول كل طرف أن يجعل من مصلحته بديلا عنه كسقف يجب يستظل به الجميع. إن إصرار كل طرف على محاولة إلغاء الطرف الآخر، بل وتقمص الوطن، متأت من غياب ثقافة التعايش التي يفتقدها الليبيون لعدة أسباب لعل أهمها:

إن الإشكالية الأخطر تكمن في رفض وعدم قبول التعايش مع الآخر المغاير والمختلف كنِد يسعى إلى تحقيق رؤيته السياسية حسب قواعد اللعبة الديمقراطية وتحت سقف التعايش والضرورة المشتركة، لذا فإن الرفض والعداء لهذا المختلف سياسيا ليس أقل حدية وضراوة من رفض المختلف ثقافيا ودينيا

1- إرثهم الثقافي الذي يتجاوز الألف عام، فهذه الثقافة التي ورثوها جيلا بعد جيل لا تنطلق من مسلمة التعايش القائم على مبدأ المساواة، بل تقبل فقط باحتمالية التسامح المقنن المشروط، فالآخر يستمد وجوده ومغايرته من تسليمه بدونيته، واختلافه لا يعنى إلا أنه على باطل في مواجهة الحق واليقين، وبالتالي فإن هذا الاختلاف لا يجعل منه ندا يجادل ويعترض، بل عليه أن يقبل بما يمكن أن يحصل عليه باعتباره هبة لا حقا خالصا من جملة حقوق مختلف الأطراف والتي يتشكل منها سقفا يمثل المصالح المشتركة الذي تفرضه ضرورة التعايش بين أطراف الجماعة.

لاشك إن هذا الإرث هو الذي يؤطر النظرة إلى الآخر السياسي وإن كان ينتمي إلى الإرث والثقافة نفسها، لأن الإشكالية الحقيقية تكمن في رفض وعدم قبول التعايش مع الآخر المغاير والمختلف كنِد يسعى إلى تحقيق رؤيته السياسية حسب قواعد اللعبة الديمقراطية وتحت سقف التعايش والضرورة المشتركة، لذا فإن الرفض والعداء لهذا المختلف سياسيا ليس أقل حدية وضراوة من رفض المختلف ثقافيا ودينيا.

إن هذه النظرة وهذا الموقف من مفهوم التعايش ليس منبعه فقط من هذا الإرث الذي لا يقتصر على الليبيين وحدهم، بل يشاركهم فيه كل العرب، وإنما هناك سبب آخر تمثل في تلك التجربة التي عاشوها طوال أكثر من أربعين عاما.

2- تجربتهم السياسية، عاش الليبيون تجربة سياسية كانت في الواقع تطبيقا حرفيا لإرث عدم التعايش مع الآخر السياسي، فالعقيد معمر القذافي الذي استحوذ على السلطة لأكثر من أربعة عقود، كانوا يطلقون عليه عدة ألقاب من بينها أنه صاحب النظرية، فقد أتى بصيغة للحكم تناسبه أطلق عليها صفة النظرية، وهى توليفة تتطرق لموضوعات كثيرة، ولكنها تؤكد في خلاصتها أن الحكم والسلطة يؤولان لمن غلب.

وكان القذافي طوال الأربعين عاما هو الأقوى والمتغلب رغم أنه كان يطلق على طريقته في الحكم صيغة "سلطة الشعب"، وكانت كل الشعارات المرفوعة والمطبقة والهتافات التي يزأر بها أتباعه هي من أمثال، سلطة الشعب دونها الموت، والتصفية الجسدية هي آخر مراحل الصراع مع الرجعيين.

كان الآخر السياسي طوال هذه التجربة يعتبر خائنا وعميلا ورجعيا، وهو في النهاية مجرم تجب تصفيته جسديا وإلغاء وجوده المادي لكي يخلو الفضاء السياسي لـ"الأنا" التي لا تقبل التعايش مع الآخر المغاير لها والمختلف معها، فالنظرية العالمية الثالثة أتت بالحل النهائي لكل الإشكاليات المطروحة على البشرية منذ نشأتها إلى أن تقوم الساعة، ومن هنا جاءت أبدية الفاتح كثورة، أي أنه ليس أمام الأجيال القادمة إلى نهاية من خيار سوى طريق ثورة الفاتح شاءت أم أبت، ولهذا فإن من يدعى الاختلاف السياسي لا يكون إلا خائنا وعميلا ورجعيا.

إن قبول الأطراف الليبية في بداية التجربة الديمقراطية، الاحتكام إلى الصندوق الانتخابي لإنتاج السلطة السياسية، لم يكن بالنسبة لمعظمها سوى وسيلة للاستحواذ على السلطة وصنع القرار وإخراج الآخر ليس من دائرة السلطة فقط، بل أيضا من المشهد السياسي

عندما سقط نظام القذافي وسط العنف والدماء والفوضى -وهى نهاية لم يكن من المتوقع غيرها لنظام القذافي وأشباهه- تفجرت كل مكبوتات التجربة الأربعينية، وتلقفها إرث عمره أكثر من ألف عام يرفض ندية الآخر المختلف والمغاير، بالإضافة إلى مفارقة أخرى زادت من حدة اشتغال الإرث والتجربة، وهي أن القوى الداخلية التي أسقطت نظام القذافي لم يكن يقودها تيار قوى وغالب، بل كانت الخلافات التي بين بعض أطرافها لا تقل عن التناقضات التي بين أي منهم ونظام القذافي.

فبعض هؤلاء ثاروا على القذافي لأنه بنظرهم كافر وزنديق ولم يراع حدود الله، وبالتالي فقد رأوا بعد سقوط القذافي في كل من لا يقاسمهم هذه الرؤية علمانيا كافرا وعداؤه للإسلام ودولته لا يقل خطرا عن الطاغوت القذافي، بينما ثار البعض الآخر على القذافي لأنه يرى فيه كائنا سياسيا قمع حرية التعبير والاعتقاد وصادر حق الاختلاف والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، ورأوا في من لا يقاسمهم هذه الرؤية طاغية ومستبد، هو والقذافي سواء بسواء.

انطلق الاتجاهان كل حسب وجهته، وبقناعة من يؤسس طريق الحق الوحيد المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ودون أن يأبه بأن شركاءه الآخرين قد اختاروا طريقا مختلفا عن طريقه.

طبقا للإرث والتجربة الأربعينية، فإن كلا منهما (التيار المدني والتيار الديني) يرى في نفسه البديل الصحيح عن نظام القذافي، البديل الذي طال انتظار الناس له، بينما الآخر مجرد وجود شاذ أتت به ظروف الفوضى والانفلات التي فتحت الباب أمام كل من يريد أن يشارك في إسقاط نظام القذافي بما في ذلك قوى دولية كثيرة شاركت تحت مظلة قرارات الأمم المتحدة.

طبقا للإرث والتجربة الأربعينية، فإن كل طرف يرى نفسه على حق والآخر على باطل وهالك لا محالة، طبقا للإرث والتجربة، فإن كلا منهما لا يسلم بجواز خطأ بعض مما يعتقد بصحته، بل بعضهم ولاسيما التيار الإسلامي يرى في القول بنسبية الحقيقة كفرا بواحا يوجب إقامة الحد على قائله.

لهذا كله فإن قبول هذه الأطراف في بداية التجربة الديمقراطية، الاحتكام إلى الصندوق الانتخابي لإنتاج السلطة السياسية، لم يكن -على الأقل بالنسبة لمعظم الأطراف- سوى وسيلة للاستحواذ على السلطة وصنع القرار وإخراج الآخر ليس من دائرة السلطة فقط، بل أيضا من المشهد السياسي، فالديمقراطية بالنسبة لبعضهم صندوق يمكنه من الظفر بالسلطة وإبعاد المنافس، وليست منظومة من القيم والمبادئ والمفاهيم التي تؤطر السياسة والثقافة والفكر وترسم حدود العلاقة بين الفرد والمجتمع.

لقد ظلت الأطراف الليبية طوال سنة في حوار ينطلق من فرضية التوافق بين المختلفين، ولكن ثقافة رفض التعايش والاختلاف ظلت تقود العقل السياسي للمتحاورين فجعلت كل طرف منهم لا يرى في التوافق سوى مرادف آخر لمفردة الإقصاء

إن هذا التناقض قد يكمن سببه في أن انتفاضة السابع عشر من فبراير أفرزت تغيرات سياسية، ولكنها لم تمس الإرث الألفي (ألف سنة) ولا التجربة الأربعينية، فهما اللذان قلبا التنافس السياسي السلمي على السلطة إلى صراع مسلح، وذلك عندما فشل أحد الأطراف في الحصول على السلطة من صندوق العجائب الانتخابي فامتشق السلاح، وحينما رأى الفائز في فوزه استبعادا لخصمه من السلطة والمشهد السياسي معا.

لاشك أن هذا التناقض يتغذى على إرث ثقافة رفض التعايش التي كانت حتى الآن خلف الفشل في تطبيق بنود الحوار، فبعد أن عجزت هذه الأطراف عن التحاور فيما بينها انطلاقا من مبدأ التعايش السياسي وتحت سقف الوطن، هبت الأمم المتحدة لرعاية هذا الحوار، ولكنها أيضا وجدت نفسها أمام تناقضات وتعنت الأطراف التي لا يقبل أي منها بالاتفاق إلا إذا تضمن كل مطالبه، كما أن بعضها لا يريد أن يرى محاوره شريكا له في المؤسسات المنبثقة عن الحوار، وبعضها الآخر يخشى صدور فتاوى تكفره فينتظر حتى يتبين له الخيط الأبيض من الأحمر ويعرف ما هو محرم وما هو حلال في بنود الاتفاق.

لقد ظلت هذه الأطراف طوال سنة في حوار ينطلق من فرضية التوافق بين المختلفين، ولكن ثقافة رفض التعايش والاختلاف ظلت تقود العقل السياسي للمتحاورين فجعلت كل طرف منهم لا يرى في التوافق سوى مرادف آخر لمفردة الإقصاء.

لعل الخوف من تهاوى سقف الوطن فوق رؤوس الجميع ورغبة كل منهم في الاستحواذ على الوطن بكامله، هو ما يدفعهم إلى التخفيف من تعنتهم حتى يخرج الوطن من محنته موحدا، غير أن ما يدعو للخوف هو أن هذه الأطراف يوجد بينها من يطمح إلى وطن أكبر من ليبيا، بينما هناك بينهم أيضا أقلية أخرى لديها تصور لوطن أصغر من ليبيا بكثير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.