ترمب في أوروبا

U.S. President-elect Donald Trump speaks at a rally in Cincinnati, Ohio, December 1, 2016 as part of "USA Thank You Tour 2016". REUTERS/William Philpott

الأطلسي في خطر
تحديات جديدة قديمة
أكثر من "ترمب" بأوروبا

يكاد يؤدي انتخاب ترمب رئيسا إلى نجاح بوتين -الأشبه بقيصر روسي بعد الشيوعية– في أن يزرع وتدا في حلف شمال الأطلسي بين الأميركيين والأوروبيين، وهو ما كان ليونيد بريجنيف يحلم بتحقيقه قبل سقوط الشيوعية.

في الوقت الحاضر يدق ترمب ناقوس الخطر في أوروبا عبر تلويحه بالتقارب مع بوتين وانتقاد السياسات الأوروبية أطلسيا، والسياسة "الغبية" من جانب ميركل بفتح الحدود أمام اللاجئين..وهذه صورة مقابلة لما كان الرئيس السوفييتي الأسبق بريجنيف يمارسه من سياسات "العناق الخانق" للأوروبيين، أو العروض المغرية لاستمالتهم على حساب علاقاتهم بالأميركيين.

ولكن أسلوب ترمب يتناسب مع ما يصنعه بوتين حاليا في سوريا ومن قبل عبر سيطرته على شبه جزيرة القرم، إذ تثير سياساته مخاوف الأوروبيين، وكانوا يتحركون مع واشنطن في الرد عليها، بينما أصبح الشعور بالخطر الروسي، لا سيما في شرق أوروبا، دافعا إلى مزيد من الاحتماء بالمظلة النووية الأميركية الراسخة منذ الحرب العالمية الثانية..وفجأة قلبت نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية المشهد رأسا على عقب.

التساؤلات الأوروبية بعد نجاح ترمب شاملة لميادين عديدة، أبرزها ما طرحه بصدد حلف شمال الأطلسي، والاتفاقات الدولية في مسيرة العولمة، وتصريحاته اليمينية العنصرية تجاه المسلمين والمهاجرين من أميركا اللاتينية

وكما لعب المستشار الألماني الأسبق هلموت شميدت قبل عقود دورا حاسما في تثبيت تماسك الأطلسي عبر ما عرف بقرار التسلح المزدوج، تتجه الأنظار إلى ألمانيا أيضا هذه الأيام، ويتكرر التساؤل ما إذا كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أعلنت ترشيح نفسها مرة رابعة لهذا المنصب، ستنجح وتتابع طريق زعامتها الأوروبية بهدف ترسيخ تماسك أوروبا ومكانتها السياسية والعسكرية والاقتصادية عالميا، دون حدوث شرخ أطلسي جديد.

الأطلسي في خطر
التساؤلات الأوروبية بعد نجاح ترمب شاملة لميادين عديدة، أبرزها ما طرحه بصدد حلف شمال الأطلسي، والاتفاقات الدولية في مسيرة العولمة، وتصريحاته اليمينية العنصرية تجاه المسلمين والمهاجرين من أميركا اللاتينية.

لقد تجدد سؤال غاب طويلا بعد سقوط المعسكر الشرقي، وكان يطرحه السياسيون والكتاب قبل أكثر من أربعين سنة: إلى أين يمضي حلف شمال الأطلسي؟ هذا في مقدمة ما يثير قلق الأوروبيين حاليا، مع أن محور ما طرحه ترمب ليس جديدا، وإن كان الأسلوب حادا، فقد تركز على عدم استعداد واشنطن في عهده أن تدافع عن دول أعضاء في الحلف لا تساهم كما ينبغي في تغطية النفقات، وليس هذا مجرد تفكير "رجل أعمال" دون خبرة سياسية كما قيل، فميثاق الحلف يوجب بالفعل على كل دولة عضو تخصيص اثنين في المائة من الناتج الاجتماعي الداخلي للنفقات الدفاعية، ولا يفعل ذلك سوى بضع دول أوروبية رغم المطالبة المتكررة من جانب واشنطن قبل ظهور ترمب على المسرح السياسي.

كما أن كثيرا من التجهيزات العسكرية الأوروبية لا تلتزم باتفاقات أطلسية أخرى من حيث نوعية التسلح، وقد اشتكى الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ مؤخرا من أن الولايات المتحدة الأميركية تستخدم طرازا واحدا من المقاتلات الجوية للمشاة، بينما يستخدم الاتحاد الأوروبي تسعة عشر طرازا، وتوجد ثلاثة أنظمة صواريخ جو-جو أميركية مقابل ١٣ أوروبية، و٤ أنواع من الطرادات الأميركية مقابل ٢٩ أوروبية.

ثغرات الخلل العسكري هذه وسواها يتحدث عنها ساسة الحلف منذ سنوات عديدة دون جدوى، ويبدو أن الأوروبيين في حاجة لينفذوا تعهداتهم القديمة إلى ضغوط أميركية من نوعية ما ينذر به أسلوب ترمب وهو في طريقه إلى السلطة.

الضغوط ستتصاعد إذا ما تحقق التقارب بين ترمب وبوتين، ولن يقتصر الأمر على كلمات خطابية، وبالفعل بدأ الأوروبيون يؤكدون عزمهم على توجيه اهتمام أكبر لتنفيذ القسط الدفاعي المطلوب منهم أطلسيا، وهو ما ظهر للعيان فور انعقاد الاجتماع الأول لوزراء الدفاع والخارجية الأوروبيين بعد إعلان فوز ترمب بالرئاسة، ولكن مع تجنب "مواجهة مباشرة" مع الأميركيين، إذ غاب في ختام اللقاء الحديث عن إنشاء "مركز قيادة عسكرية أوروبية" كما رغبت ألمانيا وفرنسا من قبل رغم معارضة الولايات المتحدة الأميركية لذلك منذ عهد ريغان، هذا مع أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي -وكانت تعترض على تطوير القوة العسكرية الأوروبية المشتركة- يعتبر فرصة جديدة لتنفيذ ما يوجد من مخططات بهذا الصدد.

لن تتخلى واشنطن عن الحلف في عهد ترمب، ولا عن مكانتها المهيمنة فيه، فترمب ومن يختارهم لإدارته الجديدة يعلمون أن الانكفاء العسكري الذاتي لم يعد ممكنا في عصر العولمة إذا ما أرادت واشنطن الحفاظ على مواقع "هيمنتها" الأخرى عالميا

بالمقابل لن تتخلى واشنطن عن الحلف في عهد ترمب، ولا عن مكانتها المهيمنة فيه، فترمب ومن يختارهم لإدارته الجديدة يعلمون أن الانكفاء العسكري الذاتي لم يعد ممكنا في عصر العولمة إذا ما أرادت واشنطن الحفاظ على مواقع "هيمنتها" الأخرى عالميا، فهذا لا يقتصر على مجرد "حمل المسؤولية" دفاعا عن مصالح "الحلفاء والأصدقاء"، بل هي هيمنة تقوم على أعمدة مكاسب واشنطن اقتصاديا وماليا، وانعكاساته في الداخل الأميركي.

ويبقى على أية حال أن المنصب يصنع ممارسات سياسية على أيدي "خبير بعالم التجار والمال"، قد تختلف عما تصنعه معركة انتخابية، لا سيما عندما يكون الرئيس الأميركي الجديد "واقعيا وليس إيديولوجيا" كما وصفه أوباما وهو يطمئن الحلفاء الأوروبيين.

تحديات جديدة قديمة
في المرتبة الثانية تظهر المخاوف الأوروبية من التحدي الجديد في مسيرة العولمة والاتفاقات الكبرى على صعيد حرية التجارة والمناخ العالمي وغيرها، ولا تصح المبالغة هنا فالمنافسة الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية قديمة، تتغير مراكز الثقل فيها بين مرحلة وأخرى فحسب، ومن المستبعد أن يسلك ترمب بفكره التجاري السياسي، أو أن تسلك الإدارة الأميركية "المؤسساتية" الجديدة، طريقا يعرّض المصالح الأميركية نفسها للخطر، فسلاح الانكماش القاري الذي كان مجديا في حقبة ماضية أصبح سلاحا ذا حدين في عصر العولمة، أما التحدي الفعلي في حقبة العولمة أمام المجموعة الأوروبية فليس وليد الساعة، بل كان قائما طوال مسيرة الاتحاد الأوروبي، إذ لم يصل بنيانه الهيكلي يوما إلى أرضية مشتركة تتجاوز مفعول "حدود القوميات" وتسمح برفع مستوى تأثيره عالميا بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأميركية، والصين حديثا.

هذا ما يجعل تهديدات ترمب -إن أصبحت واقعا قائما- نذير خطر للأوروبيين، إذ تعيد العلاقات المالية الدولية إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي رصدت تقارير الأمم المتحدة عنها لاحقا أن "حصيلة" تيارات حركة الأموال عالميا، بما يشمل القروض وسدادها والمساعدات وشروطها والاستثمارات وعائداتها والتجارة ورسومها.. هذه الحصيلة كانت تزيد من تركيز "الثروة العالمية" باستمرار في الشمال على حساب الجنوب عالميا، أما في نطاق الشمال فكانت دوما لصالح الولايات المتحدة الأميركية على حساب أوروبا.

بالمقابل يشهد تشكيل مجموعة العشرين ولا سيما نهوض الصين أن هذه المعادلة لم تعد تخضع للمعطيات التي سادت قبل نصف قرن وأكثر، كما أن الدول الأوروبية لم تعد بمعايير الاقتصاد والمال دولا متوسطة بالمقارنة مع أميركا والصين، وتزداد توقعات الخبراء بصدد تراجع الموقع الأميركي اقتصاديا إلى ما وراء الصين وألمانيا بعد سنوات معدودة. ولئن كان للتهديد بالانكماش القاري أثره في الماضي عندما كان يستند إلى عامل "الاستهلاك المحلي"، فإن ازدياد هوة الفقر والثراء في الولايات المتحدة الأميركية أضعف مفعول هذا العامل، مع عدم إغفال وجود تطور مشابه في أوروبا، دون أن يبلغ مستوى ما يواجهه الأميركيون.

التحدي الأكبر الذي طرحه فوز ترمب على الأوروبيين هو مضاعفة خطر صعود اليمين المتطرف والمتشدد في أوروبا، بعد أن وصل إلى مواقع متقدمة من قبل الانتخابات الأميركية، بل يمكن القول إن فوز ترمب يؤكد أن هذه الظاهرة غربية ولا تخص بلدا لوحده

كذلك يمكن اعتبار العامل الاقتصادي هو الأهم من وراء تمسك الأوروبيين بالاتفاق النووي مع إيران وقد أصبح مهددا بالفعل في عهد ترمب، وهذا ما تؤكده بدايات تشكيل إدارته، فما يجنيه الأوروبيون من سيل الاتفاقات الجديدة مع إيران أكبر مما يجنيه الأميركيون، إذ لا يزال من العسير سياسيا وشعبيا في إيران أيضا تمرير سياسات التعاون المكثف مع من كان في موقع "الشيطان الأكبر" قبل فترة وجيزة.

أكثر من "ترمب" بأوروبا
التحدي الأكبر الذي طرحه وصول ترمب للرئاسة على الأوروبيين هو مضاعفة خطر صعود اليمين المتطرف والمتشدد في أوروبا، بعد أن وصل إلى مواقع متقدمة من قبل الانتخابات الأميركية، بل يمكن القول إن فوز ترمب يؤكد أن هذه الظاهرة ظاهرة غربية ولا تخص بلدا دون آخر، وقد استكملت مسيرتها في أميركا بعد عدد من البلدان الأوروبية، وكانت قد قطعت شوطا كبيرا في عهد بوش الابن ومن ورائه المحافظون الجدد.

في أوروبا انتشرت ظاهرة اليمين المتطرف أو المتشدد ووجدت تأييدا شعبيا وفق الانتخابات واستطلاعات الرأي حتى وصلت إلى نحو خمسين في المائة في النمسا (قبيل الانتخابات الأخيرة) وبعض البلدان الأوروبية الشرقية وأكثر من خمسة وعشرين في المائة في فرنسا وناهزت خمسة عشر في المائة في ألمانيا، وساهمت في ازدياد حدة المواقف السياسية لدى الأحزاب اليمينية التقليدية، وقد اعتمد زعماء اليمين المتطرف والمتشدد على ما يسمى الخطاب الشعبوي، وهذا ما يجعل فوز ترمب بخطابه الشعبوي مصدر خطر أن يترك أصداءه في أوروبا لا سيما حيث أصبحت الانتخابات العامة على الأبواب كما في فرنسا وألمانيا.

الاضطراب السياسي أو المخاوف السياسية نتيجة من نتائج ظاهرة اليمين المتطرف والمتشدد، وليست سببا في ولادتها وانتشارها، إلا في حدود مسؤولية السياسات الرسمية عن جملة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية السلبية، تحت تأثير العولمة تخصيصا، وقد ازداد معظمها حدة بعد سقوط المعسكر الشرقي وانسياح الرأسمالية المتشددة في بلدانها الغربية وشرقا، جنبا إلى جنب مع غياب ملامح ما كان يعرف باليسار الأوروبي، وسبق أن ظهرت تحركات شعبية عديدة مناهضة للعولمة وما سببته من ازدياد هوة الثراء والفقر، وتراجع الضمانات الاجتماعية للفئات الأضعف ماليا، بينما فقدت حجج سياسات الأحزاب التقليدية مفعولها شعبيا، إذ اضمحلت مثلا مصداقية فرضية "إيجاد أماكن العمل والحدّ من الفقر عبر ازدياد ثراء أصحاب المال والأعمال وبالتالي الاستثمارات".

مازال الإدراك العام منتشرا في أوروبا أن "الخطاب الشعبوي" لا يحل إشكاليات مالية واقتصادية واجتماعية معقدة، ولكن لم يعد يكفي أن يعتبر السياسيون التقليديون التأييد الشعبي لذلك الخطاب مجرد "تأييد تذمر واحتجاج وغضب"

مازال الإدراك العام منتشرا في أوروبا أن "الخطاب الشعبوي" لا يحل إشكاليات مالية واقتصادية واجتماعية معقدة، ولكن لم يعد يكفي أن يعتبر السياسيون التقليديون التأييد الشعبي لذلك الخطاب مجرد "تأييد تذمر واحتجاج وغضب"، وعلى أي حال لا يفيد ذلك في الانتخابات ما دامت الحصيلة تكشف عن ازدياد ذلك التأييد.

إن القلق الأوروبي من هذا التحدي الإضافي عبر انتخاب ترمب، يعود إلى أنه قد يثير اضطرابات اجتماعية، فترمب -كاليمين المتطرف والمتشدد في أوروبا- لم يطرح حلولا بل ساهم في نشر التخوف لدى المتضررين اجتماعيا تجاه فئات جعل منها "كبش فداء" مستهدفا اللاجئين والمشردين وأقليات سكانية، وتجاوز ترمب حدود بلاده كما صنع مثلا عبر وصف سياسة "الحدود المفتوحة" من جانب ميركل بأنها سياسة غبية، وربط بينها وبين إعلاناته المثيرة حول بناء جدار على حدود المكسيك ومنع المسلمين من دخول بلاده وما شابه ذلك، حتى أن المحرر روس دوناث اعتبر في مقال له في نيويورك تايمز أن ميركل "أكثر الساسة الغربيين الذين دعموا فوز ترمب"، وكانت سياستها "دون شعور بالمسؤولية" وفق تعبير ديفيد فروم في جريدة "أتلانتيك".

هنا يأخذ المسلمون في الغرب، من مواطنين مقيمين قديما أو مشردين ولاجئين حديثا مكانة الصدارة بين الفئات المستهدفة باضطرابات اجتماعية محتملة في أوروبا والغرب عموما، حيث لا تفيد الحجج المنطقية وأرقام الدراسات الرصينة في إقناع عامة الناخبين بأن تردي الأوضاع اقتصاديا واجتماعيا وماليا على حساب الفئات الأضعف في المجتمعات الغربية نشأ وتفاقم لأسباب لا علاقة لها بالمسلمين ولا الأحداث الجارية في بلادهم، ويمكن أن تستمر بوجودهم وغيابهم، ما لم تجد حلولا إبداعية جديدة للتعامل مع ما صنعته مسيرة الرأسمالية ثم الرأسمالية المتشددة في حقبة العولمة.

التحدي الحقيقي في أوروبا الآن هو عدم وجود تلك الحلول أو عدم طرحها، وهذا شبيه بالوضع في الولايات المتحدة الأميركية، وقد ساهم في فوز ترمب.. فهل يساهم في انتخاب أكثر من "ترمب مصغر" في أوروبا أيضا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.