المغالبة والإقصاء في المشهد السياسي الليبي

A member of the force assigned to protect Libya's unity government stands on a road leading to where the government has their offices, in Tripoli, Libya March 31, 2016. REUTERS/Ismail Zitouny TPX IMAGES OF THE DAY


تتسارع أحداث المشهد الليبي على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي، ويزداد الانخراط الدولي والإقليمي في أحداث هذا المشهد، وتواكب ذلك تحليلات وقراءات سياسية واقتصادية وعسكرية، بينما تغيب القراءة الثقافية التي يمكن أن تكشف عن جانب من خلفيات سلوك وتصرفات الكثير من المشاركين في صناعة هذا المشهد العبثي.

لاشك أن هناك اختلافا كبيرا بين الحلم السياسي لكل طرف من هؤلاء، فبعضهم يحلم بدولة مدنية يتساوى فيها الجميع وتحترم فيها حرية التعبير والاعتقاد ويحتكم فيها إلى صناديق الاقتراع، وبعضهم الآخر يحلم بإمارة تقوم على اللاهوت السياسي تعادى الحرية ويغيب فيها العقل، ولكن بما أنهم أبناء ثقافة واحدة سواء كانت كلية أو فرعية، فإنه من المتوقع أن يتشابه سلوك كل طرف في مواجهة الآخر.

لعل من أهم هذه المشتركات الثقافية التي تحكم العلاقة بين الأطراف ما يلي:

أولا: النظرة الإقصائية، وهى كما يبدو إحدى تجليات إرث ثقافي تأسس على يقينية مطلقة أثرت في الذهنية التي تشكل صورة الآخر المغاير وتحدد الأفعال وردود الأفعال على هذه الغيرية والاختلاف، ومن هنا فإن هذه النظرة الإقصائية تنطلق من الثقة المطلقة في موقف الذات لأنه مبنى على حقيقة يقينية لا تحتاج إلى أدلة تثبت صحتها، بل محاولة البحث والتساؤل عن ما يثبت صحتها يعد تصرفا موجبا لعقاب رادع مخيف، وهذا يعنى ضرورة بأن رؤية الآخر المختلفة عن رؤية الذات تعد باطلة وعاطلة ولا يمكن القبول بفكرة تعايشها مع الحقائق ولا يمكن تصور إمكانية دخولها في جدلية معها بقصد إثبات احتمالية أنها هي الأفضل.

لا تتشارك الأطراف الليبية في النظرة الإقصائية للآخر فقط؛ بل هي المشترك الأكبر بينهم وبين القذافي، فهو أيضا مثلهم كانت لديه خطوط حمراء لا يقبل تجاوزها، وحقائق دونها الموت لا يقبل التشكيك فيها بل كان ضحية نظرته الإقصائية التي مارسها بعنف طيلة أربعة عقود

هذه النظرة الإقصائية لا تتشارك فيها الأطراف التي تصدرت المشهد الليبي بعد سقوط القذافي، بل هي المشترك الأكبر بينهم وبين القذافي، فهو أيضا مثلهم كانت لديه خطوط حمراء لا يقبل بتجاوزها، وحقائق دونها الموت لا يقبل التشكيك فيها بل كان ضحية نظرته الإقصائية التي مارسها بعنف طوال أربعة عقود.

ثانيا: التصلب والعناد، وهذه الحالة ليست من إفراز ثقافة اليقينيات ولكن هذه الأخيرة في حاجة للتصلب والعناد من جانب الفرد لأن ذلك يولد لديه الإصرار، وهو سلاح ضروري للدفاع عن كل ما يعتبر يقينيا، غير أن التصلب والعناد هو سلوك متعلق بالذات وبالتالي فهو أيضا سلاح للدفاع عن نرجسية الذات كيف ما كانت صحة موقفها، وهذه الحالة لا يخلو منها مشهد الصراع الليبي.

لعل ما يميز حالة التصلب والعناد هو أن الاختلاف في ظلها يتحول إلى خلاف ثم يصير صراعا لا يجد مبرراته في تضاد المواقف حول الرؤى والقضايا العامة فقط، بل يتغذى على كل ما يتجلى من نرجسية الذات.

في ظل روح التصلب والعناد لا ينظر إلى نتائج التنافس الحر من خلال التسليم بمبدأ الاكثرية والأقلية، بل ينظر إليها على أنها مغالبة وتغلب وهذا المصطلح لا يحيل إلى تنافس الأفكار وجدلية الحجج، بل يجد معناه الحقيقي في صراع وقوده الرجال والسلاح والخيل منذ ما قبل داعس والغبراء.
سادت عقلية المغالبة والتغلب التي تستدعى التصلب والمعاندة في المشهد الليبي منذ بدايته وتمثل ذلك في جملة من الوقائع ما تزال تعيد إنتاج نفسها ولعل أهمها:

1- كانت انتخابات المؤتمر الوطني العام هي أول انتخابات تجرى بعد سقوط نظام القذافي الذى ظل متغلبا طيلة أربعين عاما، ولكنها كشفت أيضا عن ترسخ عقلية المغالبة لدى معظم الأطراف التي شاركت في الانتخابات حيث لم تكتف معظم هذه الأطراف بنتائج الصندوق ولاسيما تلك التي لم تكن راضية عن ما حصلت عليه من مقاعد، فعملت على تبنى مليشيات تحت مسميات ثورية وأيديولوجية لتكون أذرعها المسلحة في ساحة المغالبة الحقيقية التي تعول عليها بعض هذه الأطراف في فرض إرادتها بقوة السلاح بعد أن سفهتها الإرادة العامة للناخبين.

كان الإصرار المبيت على فرض الإرادة عن طريق المغالبة من بعض الأطراف التي تسيدت المشهد في تلك المرحلة، سببا أساسيا في تغول المليشيات واستمرارها حتى هذه اللحظة التي أصبح فيها وجود الدولة الليبية مرتبطا باختفاء هذه المليشيات.

كان لتيار الإسلام السياسي النصيب الأكبر في تمويل وتبنى هذه المليشيات، وذلك لعدة اعتبارات منها أن معظم الذين شاركوا في الحرب ضد نظام القذافي عادوا إلى بيوتهم، بينما ظلت المليشيات المؤدلجة دينيا محتفظة بمعسكراتها وأسلحتها لأن لدى بعضها مشروعا إيديولوجيا للحكم لا يمكن أن يتعايش مع أطروحات الدولة المدنية التي يعتبرها بعض منظري هذه المليشيات كفرا بواحا ومفسدة ما بعدها مفسدة، ولكن قوى الإسلام السياسي في المؤتمر الوطني والمؤسسات السياسية الأخرى وجدت في هذه المليشيات أداة وذراعا مسلحا تحت تسمية كتائب الثوار لتستخدمها في فرض ما تريده مغالبة عندما لا تسعفها قواعد اللعبة السلمية في تحقيق ذلك.

ولهذا فقد تبنتها ودافعت عنها ويسرت أسباب تمويلها من الخزانة العامة فترتب على ذلك عدة أمور: أولها تغول هذه المليشيات؛ حيث استحلت مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤتمر الوطني فغدت كلها بما فيها تلك التي أنتجتها إرادة المجتمع مجرد مؤسسات كرتونية تجوس فيها عصابات مسلحة معلنة سيادة قانون المغالبة المسلحة رغم أنف كل الليبيين الذين اختاروا هذه المؤسسات.

كان الإصرار المبيت على فرض الإرادة عن طريق المغالبة من بعض الأطراف التي تسيدت المشهد بعد سقوط القذافي سببا أساسيا في تغول المليشيات واستمرارها حتى هذه اللحظة التي أصبح فيها وجود الدولة الليبية مرتبطا باختفاء هذه المليشيات

أما ثاني هذه الأمور فهو أن تبنى هذه المليشيات من قبل قوى الإسلام السياسي خلق شروطا وأسبابا لتنامى المليشيات الجهوية والمناطقية وعصابات الجريمة المسلحة على حساب مفهوم الدولة التي تحتكر العنف الشرعي والسلاح، أما ثالثة الأثافي فهي تحول هذه المليشيات المؤدلجة دينيا إلى حواضن ليبية للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود من أجل أن تستقوى بها هذه المليشيات في صراعها مع القوات المسلحة النظامية أو أية قوة وطنية مسلحة ترفض وجود هذه المليشيات وحلفاءها العابرين للحدود.

لقد أدخلت هذه المليشيات وحلفاؤها ليبيا إلى دوامة الحرب العالمية على الإرهاب فأصبح الليبيون ضحايا ردات فعل الجماعات الإرهابية الفارة من ميادين الصراع في بلدان أخرى.

2- الواقعة الثانية التي تجلت فيه عقلية المغالبة المسلحة جاءت بعد انتخاب البرلمان حيث لم تسفر هذه الانتخابات عن نتائج مرضية لقوى الإسلام السياسي في الوقت الذى تعالت فيه صيحات نصر مبالغ فيه من جانب الأطراف المحسوبة على التيار المدني، ولم تول هذه الأطراف الأهمية المطلوبة لمسألة التسليم والاستلام مع المؤتمر الوطني، ثم انتقل البرلمان إلى مدينة طبرق نظرا لهيمنة المليشيات المؤدلجة على مدينة بنغازى، كل ذلك فتح الباب مرة أخرى أمام نهج المغالبة فأعلنت قوى الإسلام السياسي تشكيل حكومة أمر واقع في العاصمة تحت حماية المليشيات، وقبل أن يصدر حكم المحكمة المختلف على تفسيره بخصوص البرلمان، فأدى ذلك إلى تشظى السلطة في الدولة الواحدة إلى عدة حكومات وبرلمانات يستظل معظمها بشرعية المغالبة والأمر الواقع.

فلما جاء المجلس الرئاسي بكل ما يحمله من إعاقات بنيوية، كان الكثيرون يأملون منه أن يخرج الوطن من مأزق تشظى السلطة السياسية وتعددها، ولكنه في حقيقة الأمر لم يوجد لنفسه موضع قدم على الساحة السياسية التي تشغلها قوى الأمر الواقع والمغالبة المسلحة، فلم يستطع إخراج المليشيات من العاصمة، واكتفى بالحصول على سكن بجانبها في إحدى القواعد البحرية، ولم تتمكن تشكيلته الحكومية من الحصول على ثقة البرلمان الشرعي، فاتبع سبيل من سبقوه وانتهج نهج المغالبة والأمر الواقع مستقويا بالقوى الدولية التي يبدو أنها أشارت عليه وشجعته على ذلك، فاصطف إلى جانب من سبقوه وتحول إلى سلطة أمر واقع لها خطابها وأعداؤها وحلفاؤها في مشهد يتغذى على المغالبة والمعاندة والإقصاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.