رسائل الدرس الانتخابي المغربي

رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران يصوت في الانتخابات البلدية

مكسب وطني
مؤشرات نجاح
رسائل الدرس الانتخابي

كلف العاهل المغربي محمد السادس عشية الاثنين 10 أكتوبر/تشرين الأول الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران المتصدر لثاني انتخابات شهدها المغرب، في ظل دستور 2011 بتشكيل حكومة جديدة، وفقا لمقتضيات المتن الدستوري.

محطة انتخابات نوعية بكل المقاييس عاشها المغرب، بالنظر لما شهدته من سوابق لم نعتدها في التاريخ السياسي للمغرب. فلأول مرة يجرى اقتراع تشريعي في ظل حكومة يقودها الإسلاميون. وثانيا كانت هذا الاستحقاق سابقة من نوعه، حيث عاش المغاربة على وقع نزال انتخابي قوامه قطبية حزبية واضحة (حزب الأصالة والمعاصرة/ حزب العدالة والتنمية). وثالثا اعتُبر تصويت المغاربة في هذه الانتخابات تصويتا سياسيا صرفا بعيدا عن الولاء القبلي أو الإيديولوجيا، فهم أمام لحظة لتقييم أداء خمس سنوات من التجربة الحكومية بإنجازاتها وإخفاقاتها.

مكسب وطني
لقد أفلحت القوى الديمقراطية بالمغرب في إنجاح هذه الانتخابات، وفرض الوعي الشعبي المتنامي لمواصلة مسار الإصلاح بالرغم من العراقيل الجمة (تخفيض العتبة، القوانين الانتخابية، التقطيع الانتخابي..) التي وضعت للحيلولة دون استكمال خيار التغيير الهادئ، الذي انحاز له المغاربة بعد خطاب 9 مارس/آذار 2011.

بلغت نسبة المشاركة في هذه الاستحقاق 43% من كتلة ناخبة تقدر بحوالي 16 مليون ناخب، بينما كانت النسبة في تشريعيات 2011، في عز الحراك العربي، حوالي 45% من مجموع المسجلين في اللوائح (نحو 12 مليون مسجل). وجدير بالذكر أن مجمل تدخلات وزارة الداخلية من منع التسجيل الإلكتروني والتشطيبات ومراجعات اللوائح على هواها لم تحل دون زيادة عدد المشاركين بقرابة نصف مليون مواطن.

بتعبير آخر حصد حزب العدالة والتنمية المتصدرة ما يفوق مليون و 800 ألف صوت، ما منحه عند احتساب الدوائر المحلية والوطنية مجموع 125 مقعدا في البرلمان. وجاء في المرتبة الثانية غريمه السياسي حزب الأصالة والمعاصرة ممثل المعارضة بأزيد من مليون و200 ألف صوت، أي ما يعادل 102 مقعدا برلمانيا. ثم تلاهما سليل الحركة الوطنية حزب الاستقلال، التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التقدم والاشتراكية، الحركة الديمقراطية الاجتماعية، فيدرالية اليسار الديمقراطي.

بعيدا عن لغة الأرقام وحسابات الربح والخسارة والنصر والهزيمة بين الفرقاء السياسيين التي تلي عادة كل استحقاق انتخابي، وبعيدا عن تكهنات الباحثين وتخمينات المحللين حول سيناريوهات تشكيل الحكومة المقبلة، وبعيدا كذلك عن المقاربات الضيقة التي يعتمدها كل فاعل لقراءة نتائج الواقع الانتخابي المغربي من زاويته الخاصة التي تتناسب مع موقعه، ودوره في الساحة السياسية المغربية. وكما يقال العقلاء يختلفون في تفسير الوقائع بينما يختلف الحمقى في رؤية الواقع.

بعيدا عن كل ذلك نقدم هنا أبرز رسائل الدرس الانتخابي المغربي في هذه النسخة الاستثنائية في السياقين المغربي والعربي، لأن الفوز الحقيقي في هذا العرس الانتخابي لم يكن من نصيب الإسلاميين بقدر ما هو فوز للشعب المغربي، بفرض احترام إرادته التي أودعها الصندوق، واختيار من يراهم الأجدر لتمثيلهم في المؤسستين التشريعية والتنفيذية. لكن قبل تلك الرسائل نعرج أولا على بعض المؤشرات التي تؤكد تميز هذه الانتخابات.

مؤشرات نجاح
جاء هذا الاستحقاق الانتخابي في سياق استثنائي داخليا وإقليميا ودوليا بمتغيرات عدة، أبرزها انحسار المد الديمقراطي في كل البلدان التي شهدت حراكا ثوريا سلميا، بل وانقلب الأمر إلى معارك مسلحة للتحرير أو استعادة الشرعية في العديد منها.

ينضاف لذلك عامل الانقلابات الجذرية التي تشهدها المنطقة العربية بفعل تدخل قوى إقليمية ودولية لحماية مصالحها في هذه الدول، أو بدعوى محاربة التطرف الذي أضحى عابرا للحدود والقارات. ودون إغفال خشية دول عربية على شرعيتها من ولادة أي تجربة ديمقراطية حقيقية في الوطن العربي.

ضمن هذه السياقات المحفوفة بالمخاطر نجح الشعب المغربي بوعيه المتراكم تدريجيا في استيعاب الدرس من النموذج المصري، وتصدى لكل محاولات الإغراء والغواية التي أقدمت عليها القوى السلطوية (رفض الخروج في مسيرة الدار البيضاء مثلا) بغية الحيلولة دون الوصول إلى موعد السابع من أكتوبر.

صحيح أن اقتراع الجمعة الماضي لم يكن مثاليا؛ بما شابه من خروقات وتدخل للسلطة واستعمال للمال في بعض الدوائر، وغيرها من الأساليب التقليدية عند كل موعد انتخابي. لكنه بلا شك إعلان عن نهاية حقبة وبداية أخرى تقطع مع سابقتها. ونورد هنا بعض المؤشرات الدالة على النجاح والاستثنائية التي وسمت هذه المحطة الانتخابية؛ بالمقارنة مع التاريخ الانتخابي المغربي منذ الاستقلال السياسي:

احترام المؤسسة الملكية المغربية للمنهجية الديمقراطية، وشرعية الصناديق والاستجابة لرغبات الشعب، بتعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب الفائز بالمرتبة الأولى، وفق ما تفرضه المادة 47 من الوثيقة الدستورية الجديدة. مفندة بذلك كل التوقعات التي طرحت أكثر من سيناريو، من قبيل التحفظ على شخص زعيم الحزب عبد الإله بنكيران أو غيرها من التخمينات.

– مستوى النقاش السياسي المتميز الذي ساد طوال الحملة الانتخابية، في الشارع؛ وسائل الإعلام؛ الفضاء الافتراضي؛ المهرجانات الخطابية.. حيث استمع المغاربة لخطاب سياسي جديد -فرضته قيادات بعض الأحزاب السياسية- يتناسب وطبيعة هذه الانتخابات التي تجرى في ظل دستور جديد بمؤسسات جديدة (رئاسة الحكومة، المعارضة..)، مما يقطع مع لغة الخشب التي كانت تطغى على الانتخابات في السنوات الماضية.

– إدخال ثقافة جديدة إلى المشهد الحزبي المغربي، بعد إعلان عبد الإله بنكيران عزمه الاستقالة من منصبه إذا لم يتصدر حزبه الانتخابات. موقف نفذه عمليا صلاح الدين مزوار زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار عندما قدم استقالته من قيادة الحزب بعد تراجع حزبه على الرغم من المشاركة في الائتلاف الحكومي. مكرسين بذلك ثقافة جديدة سوف تضع حدا مع الزعامات التنظيمية حولت الأحزاب إلى زوايا لها مريدون وهم شيوخ فيها.

رسائل الدرس الانتخابي
تتعدد الخلاصات والعبر التي تقدمها هذه المحطة الانتخابية للمغاربة ساسة ومواطنين بالدرجة الأولى، ولبقية الأنظمة والشعوب العربية التي بلغتها نسائم الحرية بفضل رياح الربيع العربي بالدرجة الثانية، وثالثا لبقية الدول والقوى الفاعلة على المستوى الدولي.

لكن، وحرصا على الاختصار، لن نستغرق في كافة التفاصيل المتعلقة بهذه التجربة الانتخابية النوعية؛ سياقا ودلالات. لذا سنكثف الحديث ليقتصر فقط على الرسائل الكبرى التي تستخلص من هذه الانتخابات.

أولا: رسالة من المغرب إلى القوى الدولية المكابرة التي تنظر إلى شعوب المنطقة العربية على أنها قاصرة، وبحاجة إلى وصي شرعي يرتب لها الأوراق، ويرسم لها الخطط في "السلم" و"الحرب" ويحدد لها برنامج الأولويات. لقد أكد المغاربة حكومة وشعبا للقوى المتدخلة في أكثر من دولة عربية الآن بأن العرب، شأنهم شأن باقي الأمم، قادرون على إدارة شؤونهم وتدبير أمورهم، ونحت مسارهم الديمقراطي ممزوجا بخصوصية محلية على شاكلة باقي شعوب العالم بعيدا عن أي وصاية أو تدخل أجنبي.

ثانيا: رسالة من المواطنين المغاربة إلى النخب السياسية بأن عزوف المواطن عن المشاركة السياسية مجرد أكذوبة وشعار بلا مضمون، إذ بمجرد ما شعر المغاربة بخطاب سياسي جديد، وإشارات دالة على الرغبة في الإصلاح والتغيير حتى هبوا للانخراط في العلمية كل من موقعه. وفي مقدمتهم الشباب الذين ارتفعت نسب مشاركتهم، لتكون العبرة من ذلك بأن الساسة بخطابهم ونقاشهم وبرامجهم هم من يخلقون الحدث، ويؤثرون في نسب المشاركة والتصويت.

ثالثا: رسالة من المغاربة إلى الدولة المعروفة في المغرب بلفظ "المخزن"، تفيد بأن زمن التحكم في مصيرهم انقضى بلا رجعة، وأن عهد السلطوية ولى وإلى الأبد. وعليه بات لزاما على الراسخين في دهاليز الدولة العميقة أن يضعوا حدا لأساليب الزمن الغابر حيث كانت تتدخل وفق حساباتها ومنطقها الخاص، مما يحول العلمية الانتخابية في النهاية إلى مجرد ملهاة أو مسرحية محكمة الإخراج ومحددة النهاية سلفا.

رابعا: رسالة عقاب بواسطة صناديق الاقتراع من المغاربة إلى بعض الأحزاب السياسية التاريخية؛ وتحديدا إلى حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية صاحبي التاريخ النضالي العريق في الذاكرة السياسية المغربية، ومعهما حزب فيدرالية اليسار المشارك لأول مرة، تحمل في طياتها دعوة للقيادة والقواعد الحزبية على السواء إلى إعادة النظر في المواقف، ومراجعة الخيارات ومواقع الاصطفاف في المشهد المغربي، ولزوم إعمال النقد الذاتي وتجديد النخب داخل هذه الأحزاب بغية أداء أدوار حقيقية في هذه التجربة المتفردة في المنطقة، والعمل على إنجاحها كل من موقعه، لا أن تتحول لمجرد "كراكيز" تحركها أياد خفية وراء الستار لا تريد اللعب على المكشوف.

خامسا: رسالة من النخبة السياسية المغربية إلى النخب السياسية العربية تحث على اعتماد مبدأ التدرج في الإصلاح، لأن خطط الإصلاح المبنية على الانقلابات الجذرية في ظل دولنا العربية القائمة على أساس لوبيات المصالح وشبكات العلاقات، والمفتقدة إلى مقومات الدولة الوطنية غالبا ما تفضي إلى انكسارات عميقة وشروخ غائرة في المجتمع، يصعب تجاوزها على مدى عقود من الزمن (التجربة الجزائرية مثلا، والتجربة المصرية في الطريق).

تمكن المغاربة أخيرا من قلب المعادلة في المشهد السياسي رأسا على عقب، وتحول المواطن النكرة الذي كان يُنظر إليه صفرا على اليسار، إلى عنصر جوهري في العملية بأكملها. فقد فرض المواطن البسيط نفسه على الأحزاب السياسية وحتى على المؤسسة الملكية، حين أضحت إرادة المواطن محط اعتبار من لدنها، وبذلك أصبح الرقم الأصعب في المعادلة السياسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.