تحديات الانتقال في أزمة الإخوان المسلمين

المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة

تشهد الفترة الحالية خلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين، ويلاحظ أنها انحصرت في الأبعاد التنظيمية، وهنا تبدو تساؤلات مهمة تتعلق بمدى قدرة الجماعة على استيعاب هذه الأزمة، والاستفادة منها في تحقيق انتقال يساهم في صياغة مساراتها الداخلية والخارجية. ورغم أهمية مساعي الخروج من الأزمة، فإن الخروج منها دون وضوح المسار سوف يؤدي لإعادة إنتاجها، مما يخلق تحديات أخرى، ترجع للافتقار لمعايير التغيير وشروطه الضرورية.

فقد اندلعت الأزمة على خلفية الترتيبات التنظيمية التي جرت أحداثها في فبراير/ شباط 2014، حيث تشكلت لجنة لإدارة شؤون الجماعة، وتم الترويج لها في ذاك الوقت على أنها مقدمة للتغيير وتجديد الأجهزة والمستويات التنظيمية، لكنه مع ظهور الأزمة برزت خلافات حول حقيقة ما حدث في تلك الفترة، وما إذا كان يمثل نقلاً للمسؤوليات أم مجرد صلاحيات تسييرية، وهي مسألة تبدو على قدر كبير من الأهمية، وذلك من وجهة صناعة القرار وسياسات التفويض، وقد شكلت هذه المسألة قلب المناقشات والمنازعات التي ظهرت مع نهاية عام 2015.

وقد اقترحت "مبادرة البرلمانيين" تبني قواعد جديدة كالمحاسبة والشفافية وإجراء انتخابات شاملة، وهي اقتراحات تعد أكثر تطورًا من الاجتهادات الأخرى، حيث تسعى لوضع إطار شامل لتجاوز الأزمة الحالية، لكن إجراء الانتخابات على كل المستويات لا يؤدي وحده للدخول في مرحلة إصلاحية، بل من المهم صناعة رؤية تساعد على سد فجوة القيادة وتقود لمرحلة إصلاحات داخلية، ولعل اقتراح "البرلمانيين" قد تجاوز الخلافات الإدارية واللائحية واقترب من تجديد الشرعية والأخذ بقيم المساءلة، وهي قواعد تشكل جوهر وخصائص الحركات الناضجة.

الأزمة الحالية داخل الإخوان المسلمين هي نتيجة تراكم لمشكلات على مدى ثلاثة عقود، دون وضوح إطار لتسويتها على أساس الرضا والقبول. ويمكن القول إن اهتزاز قواعد إدارة الخلاف وقت الأزمة، يشكل أهم تحديات الوصول إلى توافق على الانتقال لمرحلة جديدة

غير أن البيانات والمبادرات الأخرى اتخذت طابعًا دفاعيًّا وتبريريًّا يتسم بالاستقطاب، حيث استغرقت، خلال الشهور الماضية، في الحديث عن الحاضر، وخلقت حالة من الخلاف الإداري، مما يشير إلى وجود مشكلة في إدراك التحديات الخارجية التي تواجه الجماعة وواقعها الراهن، فقد صارت المواقع التنظيمية تستحوذ على جانب كبير من المناقشات، وهو ما يدل على تراجع فرص الحل وتفاقم التعقيدات، فالبيانات التي تصدت للدفاع عن المواقع التنظيمية ومشروعيتها، تجاوزت الأعراف الفكرية لحركة الإخوان المسلمين، وأهمها إنكار الذات والتجرد، مما يشير لتراكمات سلبية تشكل فجوة في التكوين القيمي داخل الجماعة.

ويمكن القول إن الأزمة الحالية هي نتيجة تراكم لمشكلات على مدى ثلاثة عقود، دون وضوح إطار لتسويتها على أساس الرضا والقبول، وإن اهتزاز قواعد إدارة الخلاف وقت الأزمة يشكل أهم تحديات الوصول إلى توافق على الانتقال لمرحلة جديدة، تتبلور عبر المبادرات الجماعية وإطلاق الطاقات البشرية لتكون قاطرة التغيير وبديلا عن سياسات التحيز والانتقائية والولاء التي شكلت ملامح فترة طويلة، ويمكن النظر إلى الاحتجاج بالمواقع التنظيمية على أنه مؤشر على مدى تعقيد الأزمة، مما يقلل فرص النقاش حول ملامح الفترة المقبلة، والبحث في معوقات الانتقال نحو المؤسسية.

وبالنظر إلى مكونات وخلفيات الأزمة، يتضح أنها تدور بين الفريق أو المجموعات التي أدارت الجماعة لفترة طويلة، سواء كانوا أعضاء في مكتب الإرشاد أو معاونين لهم، وخصوصًا في فترة ما بعد ثورة يناير، وهذه النقطة تثير الجدل حول اندلاع مثل هذه الخلافات، حيث إن المنخرطين فيها، باستثناءات معدودة، ينتمون لمدرسة تنظيمية كانت متطابقة في التوجه التنظيمي، ومتقاربة في التكوين الفكري الذي يميل للطبيعة المحافظة.

وهذه الخلاصة لا يقلل منها ما أثير عن وجود اختلاف في النظر والسياسات تجاه المشكلات الراهنة، ولا يجد ذلك مبرره من الواقع، فعلى مدى فترة ما بين يناير/ كانون الثاني 2011 ويونيو/ حزيران 2013، لم تتضح فروق جوهرية بين المستويات القيادية، على الرغم من انفتاح النظام السياسي بما يكفي للكشف عن تنوع الأفكار والاتجاهات، وهي فترة أتاحت الإمكانية لبلورة آليات وكيانات فاعلة سواء على مستوى الجماعة أو حزب "الحرية والعدالة".

وهذا ما يدعو إلى التريث في قبول الادعاء بأن المسألة الفكرية شكلت واحدة من مفردات الأزمة، حيث غاب التنوع والمبادرات الفكرية والاجتهادات خلال المراحل الانتقالية بعد ثورة يناير، فقد قامت سياسات ومواقف جماعة الإخوان على منظور تجريبي وليس مبدأ النظر الفكري، وكان ذلك واضحًا في مسارات السياسة، وفي مقدمتها دخول انتخابات الرئاسة تحت ضغوط احتمالية بحل مجلس الشعب، ودون وضوح متطلبات هذا المستوى من التنافس السياسي وتداعياته الداخلية والخارجية.

ونتيجة لانحسار مساهمة الاجتهادات النظرية والفكرية، ترسخ الطابع التقليدي في العمل السياسي، حيث زاد الاعتماد على التعبئة والحشد في التعامل مع الوضع والقضايا السياسية، وهو ما يشير إلى هيمنة الطابع البيروقراطي، في وقت كان يسمح بظهور وسائل وأساليب أخرى تعكس القدرات النوعية، ولعل هذه الجزئية تمثل جانبًا كبيرًا من مكونات الأزمة الراهنة، حيث يدور الخلاف بشكل أساسي، حول المسألة التنظيمية باعتبارها مخزن ورصيد حركة "الإخوان المسلمين"، مما يسر كثافة الظهور على وسائل الإعلام لعرض وجهات نظر متباينة لأجل الوصول إلى الجماهير عبر وسائل غير تقليدية.

والمشكلة أنه ليس من الواضح مدى دقة البيانات والتصريحات، ورغم الاحتجاج بمرجعية مجلس الشورى، فإن انخراطه في المسؤوليات التنظيمية هو الوجه الآخر لانخفاض قدرته على حسم الاختلاف حول الروايات أو تحرير محل النزاع، مما يضعف وجود جهة محايدة لم تنخرط في المنازعات الدائرة، وهو جانب آخر يفسر ظهور الخلافات على وسائل الإعلام وانتشار فوضى البيانات.

رغم تطلع الإخوان إلى الانتقال نحو المؤسسية، خلال العقود الماضية، فقد كشفت هذه الأزمة مدى غموض المعايير التي تشكل أساس الانتقال، وخصوصًا ما يتعلق بالتمييز بين النمط الفردي والنمط الجماعي التشاوري في اتخاذ القرار

وكان التنازع حول المتحدث الإعلامي من المظاهر الشديدة الاستقطاب، مما يعكس مشكلتين جديرتين بالنظر، الأولى تتمثل في أن الصراع تجاوز الأعراف التقليدية التي سارت عليها الجماعة فترة طويلة، والثانية ترتبط بغياب الإطار الملائم لاستيعاب الخلافات أو الأزمة، ومن ثم فإن انتقال الأزمة بمفرداتها إلى وسائل الإعلام لا يعبر عن توجهات انفتاحية، بقدر ما يعبر عن قصور المسارات الداخلية في معالجة الخلافات أو التصدي لها.

ورغم أن الكثير من الجدل يدور حول الاستناد إلى "الشورى" في شرعية الهياكل الإدارية، فقد ظهرت روايات مختلفة حول طبيعة قرارات "فبراير/ شباط 2014" و"مايو/ أيار 2015″، وذلك من حيث مستوى التفويض أو نقل الاختصاصات إلى "اللجنة الإدارية العليا" وتأرجح الموقف بشأنها بين التعيين والانتخاب، وهو ما يمثل جانبًا كبيرًا من مشكلات تعريف دور اللجنة، والآثار المترتبة على القرارات الصادرة في فترة اندلاع الأزمة، سواء فيما يتعلق بالمتحدث الإعلامي أو حل "مكتب الأزمة" وغيرهما من القرارات.

وكان من المتوقع أن يكون اندلاع ثورة يناير حافزًا على البدء في سياسات تتسم بالديناميكية، لعل أهمها مراجعة أفكار التطوير التي توقفت قبل سنوات، لكن المفاجأة كانت في دعم استمرار الهياكل والسياسات التي تشكلت تحت الضغوط الأمنية، ولم يتم الاستفادة من مرحلة الانفتاح السياسي، دون تفسير واضح يبين أسباب توقف الجماعة عند مرحلة انتخابات 2009 بكل الإشكالات التي ثارت حولها، ودون طرح فكرة التأسيس لشرعيات جديدة تتلاقى مع التغيرات السريعة أو تتوافق معها.

فاندلاع الأزمة الحالية هو بمثابة انعكاس لانخفاض إدراك مدى التغيرات الحادثة في البيئة الداخلية والخارجية، وخصوصًا ما يرتبط بالانكشاف الإعلامي وتسارع التواصل وارتفاع الوعي.

ورغم تطلع الإخوان للانتقال نحو المؤسسية، خلال العقود الماضية، فقد كشفت هذه الأزمة مدى غموض المعايير التي تشكل أساس الانتقال، وخصوصًا ما يتعلق بالتمييز بين النمط الفردي والنمط الجماعي التشاوري في اتخاذ القرار، وهذه الإشكالية هي نتاج حالة التردد في الانتهاء من مراجعة اللوائح أو وضع قواعد للإدارة وقت الأزمات، وهنا لا يكفي استيفاء الشروط اللائحية لتشريع ما يحدث، حيث تشكل اللائحة جزءًا مهمًّا من المناقشات لسنوات خلت، بحيث صارت لا تستوعب الكثير من التغيرات الداخلية والخارجية.

فوفقًا للوائح والأعراف الداخلية، تبدو الكثير من الظواهر المرتبطة بمهمة "الشورى" قاصرة، فمن جهة يتراجع دورها أمام حالة الاستقطاب، ومن جهة أخرى تتأثر بالمبادئ العامة المتعلقة بالثقافة التربوية والاقتناعات المؤسسية، والمدركات الجزئية لـ"الإخلاص" و"التجرد" و"الطاعة" والتوسع في التفويض والثقة، وغيرها من القيم المركزية التي حالت دون تطوير المساءلة والمحاسبة. ولذلك ظلت مساهمات الشورى داخل الإخوان قليلة الأثر في تطوير الحركة، وأقل قدرة على ابتكار اتجاهات وأساليب فاعلة تتكافأ مع التغيرات المتسارعة في المجتمع.

ولعل المشكلات الحالية تفرض نوعًا من التحديات، يتمثل في غموض بدائل وصور التغيير القيادي، مما يفسر التردد في الإقدام على معالجات جزئية تخفف من حدة الأزمة، كما يعكس أيضًا جانبًا من انتقائية الاختيارات لفترة طويلة. يتطلب التصدي لهذه الإشكالية الارتكان لفاعلية الأعضاء باعتبارهم الوعاء الحيوي لقوام الجماعة، ويمكن القول إن المسارات الحالية للأزمة تعزز خيارات الانحسار نحو الشؤون الداخلية، وهي حالة أقرب للتكيف السلبي البعيد عن التغيير والتطوير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.