هل يقوى الحزب الحاكم في تركيا بضعف معارضيه؟

Turkish Parliament convene for a debate in Ankara January 20, 2015. Parliament was to vote on Tuesday on whether to commit four former ministers for trial over the corruption allegations. REUTERS/Umit Bektas (TURKEY - Tags: POLITICS CRIME LAW)

انبطاح المعارضة
تفضيلات الناخبين
غياب البديل

رغم التحديات الإقليمية والدولية التي تلقي بظلالها على التحركات والسياسات الخارجية لحزب العدالة التركي، علاوة على المشاكل والصراعات التي ضربت أطنابها في داخله منذ انتخاب أردوغان رئيسا للبلاد، لا يزال الحزب يتطلع إلى الفوز بالانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها يوم 7 يونيو/حزيران الجاري وتشكيل الحكومة منفردا للمرة الرابعة على التوالي.

بل يطمح إلى زيادة حصيلته من المقاعد البرلمانية، مستفيدا من ضعف الموقف التنافسي للأحزاب الأخرى، سواء لجهة تواضع قدرات وطموحات أحزاب المعارضة الرئيسية، أو عجز قرابة 15 حزبا آخر عن تجاوز حاجز 10% من الأصوات كشرط للتمثيل في البرلمان المرتقب.

انبطاح المعارضة
على غير المتوقع وخلافا للمطلوب من الأحزاب السياسية عموما، والمعارضة منها تحديدا، أبت أحزاب المعارضة التركية خلال حملاتها الانتخابية إلا اختزال طموحاتها السياسية والانتخابية في إعلان نيتها الاكتفاء بنيل تمثيل سياسي مشرف عبر رصيد من المقاعد يخولها لعب دور الطرف المعطل أو المثير لإزعاج الحكومة في البرلمان المنتظر، بدلا من التطلع إلى اقتناص نسبة أصوات عالية تتيح لأي منها تشكيل الحكومة منفردا أو حتى قيامها مجتمعة بتشكيل ائتلاف حزبي حكومي محدود أو موسع.

خلافا للمطلوب من الأحزاب السياسية عموما، والمعارضة منها تحديدا، أبت أحزاب المعارضة التركية إلا اختزال طموحاتها السياسية والانتخابية في الاكتفاء بحصد مقاعد برلمانية تخولها لعب دور الطرف المعطل أو المزعج للحكومة 

فمن بين 19 حزبا تقدمت بقوائم مرشحيها إلى المجلس الأعلى للانتخابات يوم 7 أبريل/نيسان الماضي لخوض الانتخابات، لم يتورع أقدم الأحزاب حزب الشعب الجمهوري -وريث الأتاتوركية- الذي يمتلك 125 مقعدا في البرلمان المنتهية ولايته، عن التأكيد أن نيته منحصرة في رفع حصيلة أصواته من نسبة 25% إلى 30% فقط.

ورغم تواضعه، تحول دون بلوغ ذلك المقصد عقبات عديدة، أبرزها: انحسار شعبيته بجريرة التحولات التي اعترت منظومة ثوابته الفكرية والسياسية، بعدما أقدمت قياداته على تطويعها لمواكبة حالة الأسلمة التي طغت على المجتمع التركي منذ العام 2002.

وظنا منه أنه يطمئن جماهيره، لم يتورع رئيس الحزب كمال كليشدار أوغلو عن إبداء ثقته في عدم تجاوز حزب العدالة 330 مقعدا فقط في البرلمان المقبل، وهي النسبة التي تخوله السعي لتعديل الدستور وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي بعد العودة إلى الجماهير لإجراء استفتاء شعبي.

أما حزب الشعوب الديمقراطي الذي يشهد صحوة ملفتة خلال الآونة الأخيرة، فلم يسلم هو الآخر من ذلك الانبطاح، حيث أعلن أن طموحه في الانتخابات المقبلة ينتهي عند تخلي كوادره عن خوض الانتخابات فرادى ومستقلين والدخول للمرة الأولى بقائمة حزبية تضم طيفا واسعا من النساء والمرشحين ذوي المرجعيات السياسية والإثنية المتنوعة، بغية كسر حاجز نسبة 10% من الأصوات وبلوغ نسبة 11%، بما يمكّن الحزب من امتلاك كتلة برلمانية للمرة الأولى في تاريخه.

وفي تعقيب منه على دعوات رئيس الحزب صلاح الدين ديمرطاش إلى تشكيل منظمة للعصيان المدني إذا ما أخفق حزبه في تجاوز العتبة الانتخابية، أطلق يالتشين أكدوغان نائب رئيس الوزراء تصريحا بالغ الدلالة لإحدى القنوات الفضائية التركية، مفاده أن "تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي حاجز الـ10% من الأصوات يعد مضرا بالديمقراطية في تركيا".

وفي مسعى منه لتشويه صورة الحزب الكردي، كال أكدوغان انتقادات لاذعة لحزب تلاقى مع حركة فتح الله غولن في معارضة بعض بنود عملية التسوية بين الدولة وحزب العمال الكردستاني، متهما إياه بممارسة ضغوط بقوة السلاح في بعض المناطق لإجبار الناخبين على التصويت لمرشحيه في الانتخابات البرلمانية.

وحده إذن بقي حزب العدالة والتنمية الحاكم -الذي يعد أحد أحدث الأحزاب التركية من حيث النشأة إذ تأسس عام 2001- محتفظا بحيويته وطموحاته السياسية العريضة، رغم ما يحيط به من تحديات وما يعتمل بداخله من صراعات وخلافات.

فتواصلا مع تطلعاته السياسية الطموحة التي أبداها منذ تأسيسه، يصر الحزب اليوم -رغم نتائج استطلاعات الرأي المحبطة التي تظهر تراجعا ملحوظا في شعبيته- على الفوز بالانتخابات، مع زيادة حصته من الأصوات من 49.8% في الانتخابات البرلمانية الماضية إلى 55% هذه المرة، والقفز برصيده الحالي من المقاعد البرلمانية من 312 مقعدا، ليناهز 330 مقعدا بما يساعده على طلب تعديل الدستور برمته أو إدخال تعديلات عليه تتيح إقرار النظام الرئاسي بموجب استفتاء جماهيري، أو اقتناص 367 مقعدا تخوله تمرير النظام الرئاسي الذي ينشده من دون الحاجة إلى استجداء الدعم من كتل برلمانية أخرى أو حتى الدعوة إلى استفتاء شعبي.

وكمظهر للتعبير عن الثقة المفرطة، أبدى رئيس الوزراء ورئيس الحزب أحمد داود أوغلو في كلمة له ضمن حملته الانتخابية أمام حشد من أنصار حزبه بولاية أديامان، استعداده لاعتزال العمل السياسي في حال خسارته الانتخابات العامة المقبلة، مطالبا زعماء أحزاب المعارضة الرئيسية مثل زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش، وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجه لي بالقيام بالشيء نفسه حال خسارتهم الانتخابات ذاتها، أسوة بزعماء الأحزاب المعارضة في بريطانيا والذين تقدموا باستقالتهم عقب خسارة أحزابهم في الانتخابات العامة البريطانية التي أجريت قبل أسابيع واكتسحها حزب المحافظين الحاكم.

تفضيلات الناخبين
يبدو أن التطورات الكارثية التي ألمت بالمنطقة خلال السنوات القليلة المنقضية وألقت بظلالها على الداخل التركي، قد أثرت بشكل كبير على تفضيلات كثير من الأتراك ومواقفهم واتجاهاتهم السياسية، ومن ثم على محددات السلوك التصويتي للناخب التركي عموما.

خلافا لباقي أحزاب المعارضة كان برنامج حزب العدالة هو الأكثر واقعية وملامسة لطموحات الجماهير، إذ طرح رؤية متكاملة لتنمية شاملة ومستدامة لتركيا غير مرهونة بفترة بقاء الحزب في السلطة، فعرض مشروعات طموحة يصل مداها إلى عام 2023

فبعيدا عن التشبث بالديمقراطية والرغد الاقتصادي والهواجس من العثمانية الجديدة، أجبرت الاضطرابات الإقليمية المتنامية غالبية الأتراك على توسل الأمن والاستقرار باعتبارهما غاية المراد، مما جعل السلوك التصويتي لكثير منهم في الاستحقاق البرلماني المنتظر مرتهنا برغبة عارمة وملحة في البحث عن الاستقرار وسط شرق أوسط موغل في الارتباك.

وفي هذا السياق نشرت صحيفة "تورنتو ستار" الكندية تقريرا حول النتائج الأولية للانتخابات المحلية التركية التي أجريت في أبريل/نيسان 2014 أظهر فوز حزب العدالة والتنمية بنسبة 45%، وأكد أن محاولات أردوغان محاصرة حرية التعبير، علاوة على قضايا الفساد التي هزت الحكومة والرئاسة التركيتين خلال الآونة الأخيرة، وكذا الحديث عن تورط أردوغان في دعم تنظيم الدولة الإسلامية والسعي لخوض حرب في سوريا لإسقاط الأسد، لم تكن جميعها لتمنع الناخبين الأتراك من تفضيل الاحتفاظ بالاستقرار بدلا من المقامرة بتغيير غير مضمون العواقب.

وفيما يعد خصما من رصيد حزب الشعوب الديمقراطي، وجهت قوات حماية الشعب -الذراع العسكري لمنظمة "بي.كاكا" الإرهابية رسائل تهديد إلى المواطنين الأكراد بالويل والثبور في حال تصويتهم لحزب العدالة والتنمية أو أي من الأحزاب السياسية الأخرى، وعدم منح أصواتهم للحزب الكردي في الانتخابات البرلمانية المزمعة.

وبينما حاول حزب الشعب الجمهوري استثمار تراجع نمو الاقتصاد التركي خلال السنوات القليلة المنقضية من 9% عامي 2010 و2011، إلى 2.9% عام 2014، وعد رئيس الحزب كمال كليشدار أوغلو -في حال نجاح حزبه في الانتخابات وتشكيل الحكومة- ببناء مدينة اقتصادية ضخمة في الأناضول تفتتح عام 2020 لتعيد الاقتصاد التركي إلى صدارة اقتصادات المنطقة، هبّ أردوغان ينتقد إقدام أحزاب المعارضة على تسويق الأحلام للجماهير من خلال عرض مشاريع ضخمة لدغدغة مشاعر الناخبين وحشد أصواتهم دون امتلاك القدرات أو الآليات اللازمة لتحويلها إلى واقع فعلي.

يخوض حزب العدالة الانتخابات البرلمانية المزمعة وهو في غاية الإنهاك بسبب التحديات الجسام التي تواجهه على الصعيدين الإقليمي والمحلي، ومن أبرزها: إقليميا الأزمة السورية، والأوضاع في العراق، وخطر تنظيم الدولة، والأزمة اليمنية، والأزمة الإيرانية.

أما محليا، فيتعلق الأمر بافتقاده سبعين من أبرز كوادره وقياداته ممن منعهم نص اللائحة الداخلية للحزب من الترشح على قائمته هذه المرة أو استلام حقائب وزارية بعد استنفاد المدد الثلاث، ومن أبرزهم أردوغان وعبد الله غل وغيرهما، علاوة على احتدام صراع الأجنحة والأجيال داخل الحزب على نحو ينذر بانقسامه، إضافة إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي وانحسار الحريات الشخصية، إلى جانب تعثر جهود تسوية المسألة الكردية.

ورغم ذلك فإن قطاعا لا بأس به من الناخبين الأتراك لا يزال يرى في حزب العدالة خيارا أفضل بكثير من غيره للنجاة بالبلاد من الظروف الصعبة التي تحيط بها هذه الأيام من كل اتجاه.

غياب البديل
تكمن فلسفة المعارضة السياسية بالأساس في وجود فاعل سياسي مدني وطني يرفض سياسات السلطة أو برامج الحكومة القائمة لأسباب موضوعية تتصل بكفاءتها وأدائها وإنجازاتها، ويقدم رؤية بديلة تتسم بالتكامل والشمول والقابلية للتطبيق، مع توفر البرامج والكوادر البشرية القادرة على تحويل تلك الرؤية والبرامج إلى خطط ومشاريع وسياسات تحقق آمال المواطنين في حياة أفضل على كافة الأصعدة والمستويات.

أمام عجز المعارضة قد تتولد حالة من الاستياء الجماهيري إثر جنوح الحزب الحاكم للتراخي جراء التعالي والارتكان إلى عدم وجود بديل أو منافس قوي، بما قد يتمخض بدوره عن ميل قطاع من الناخبين إلى التصويت العقابي ضد مرشحي حزب العدالة في الاستحقاق المقبل

ومن جانبه استفاد حزب العدالة والتنمية طيلة نحو عقد ونصف من عدم وجود تلك المعارضة، وغياب بديله المنافس والملائم، ومن ثم تسنى له حصد ملايين الأصوات المتأرجحة وغير المنتمية لأية أحزاب أو اتجاهات سياسية، والتي وجهها أصحابها إلى حزب العدالة بعدما تراءى لهم أن الساحة السياسية التركية عقمت عن إيجاد الحزب البديل الذي يستطيع تلبية رغباتهم وطموحاتهم، فضلا عن كونه الحزب الحاكم صاحب الإنجازات الذي يصوت له غالبية الناخبين في كافة الاستحقاقات والاستفتاءات التي شهدتها البلاد منذ العام 2002.

ففي الوقت الذي اكتفت فيه أحزاب المعارضة بالحديث عن مستقبل أفضل بدون حزب العدالة، أو إطلاق بعضها وعودا براقة خالية من أية خطط وبرامج واقعية لتنفيذها، كان الحزب الحاكم يرفع شعار "غيرنا يتكلم ونحن نعمل"، مخاطبا الشعب التركي بإنجازاته الملموسة.

وعلى عكس باقي أحزاب المعارضة كان برنامج حزب العدالة هو الأكثر واقعية وملامسة لطموحات الجماهير، إذ طرح رؤية متكاملة لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة لتركيا غير مرهونة بفترة بقاء الحزب في السلطة، لذلك عرض مشروعات طموحة يصل مداها إلى عام 2023، موعد الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية.

وتعهد الحزب بتنفيذ برنامج طموح ينشد وضع اقتصاد تركيا ضمن قائمة الاقتصادات العشرة الكبرى عالميا بعد خفض معدل البطالة إلى ما دون 5% ورفع حجم الاقتصاد من 75 مليار دولار إلى تريليوني دولار، ووصول معدل دخل الفرد إلى 25 ألف دولار سنويا. هذا بالإضافة إلى إعداد دستور جديد وتسوية كل المشاكل السياسية وفي مقدمتها قضية الأكراد والعلويين، وتعزيز الدور الإقليمي التركي.

تبقى الإشارة إلى أن استقواء حزب العدالة بضعف معارضيه على النحو المشار إليه آنفا، لا يعني بالضرورة حسم الانتخابات البرلمانية المقبلة بكل أريحية لمصلحته، إذ لا يزال الباب مواربا أمام احتمال انبعاث التداعيات السلبية لاحتكار حزب وحيد للسلطة لفترة من الزمن، فقد تتولد حالة من الاستياء الجماهيري إثر جنوح الحزب الحاكم للتراخي جراء التعالي والارتكان إلى عدم وجود بديل أو منافس قوي بما قد يتمخض بدوره عن ميل قطاع من الناخبين غير المنتمين حزبيا إلى التصويت العقابي ضد مرشحي حزب العدالة في الاستحقاق المقبل.

إن حدث ذلك فسيحرمه من انتزاع أغلبية مريحة تتيح له تمرير تعديلاته الدستورية المنشودة أو حتى تشكيل الحكومة منفردا، توخيا لإيقاظه من سباته وتمهيد السبيل لحراك سياسي حقيقي ينهي حالة القطبية السياسية والحزبية الأحادية المقيتة التي أطبقت على المشهد السياسي التركي منذ العام 2002.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.