زيارة القدس.. تطبيع أم تحرير؟

الصخرة المشرفة في المسجد الأقصى المبارك.

تثير زيارات وفود وشخصيات عربية وإسلامية متكررة بدعوات من السلطة الفلسطينية لمدينة القدس التي تسيطر عليها إسرائيل منذ شهر يونيو/حزيران 1967، حالة من الجدل الحاد، بين مؤيد ومعارض لها بقوة، ويطالب بوقفها.

ففي حين يرى مؤيدو هذه الزيارات أن من شأنها تقديم دعم سياسي ومالي لمدينة القدس، يرى معارضو هذه الزيارات أنها تؤدي إلى تطبيع العلاقات بين الدول والشعوب العربية والإسلامية وإسرائيل، لأنها تتم بتأشيرات وتصاريح دخول صادرة عن الجيش الإسرائيلي.

وفي هذا السياق، يمكن تفسير ردة فعل المصلين الفلسطينيين يوم الجمعة 22 مايو/أيار الحالي بمنع قاضي القضاة الأردني أحمد هليل من أداء خطبة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك، في حين قبلها بأسبوع خطب وزير الأوقاف التركي محمد غورماز خطبة الجمعة بتاريخ 16 من الشهر نفسه، دون حدوث إشكالات أو تذمر من قبل المصلين، نظرا لأن المواقف التركية باتت ماثلة للعيان بانحيازها إلى جانب الحقوق الفلسطينية.

في حين يرى مؤيدو زيارات القدس أنها تقدم دعما سياسيا وماليا لمدينة القدس، يرى المعارضون أنها تؤدي إلى تطبيع العلاقات بين الدول والشعوب العربية والإسلامية وإسرائيل، لأنها تتم بتأشيرات وتصاريح دخول صادرة عن الجيش الإسرائيلي

وهو الانحياز الذي يتضح من خلال المحاولات التركية التي لم تتوقف لفك الحصار عن غزة، فضلا عن المطالبات بحماية المقدسات الإسلامية في مدينة القدس التي تواجه نشاطا استيطانيا محموما لفرض الواقع التهويدي، في ظل غياب أي دور حقيقي للجامعة العربية لدعم المقدسيين وتثبيتهم.

لم تكن اقتحامات المجموعات اليهودية المتشددة المتكررة لباحات المسجد في الأسابيع الأخيرة بحماية من الجيش الإسرائيلي هي الأولى، ولن تكون الأخيرة، إذ ستسعى حكومة نتنياهو الرابعة -في سباق مع الزمن- إلى تهويد مدينة القدس، مستغلة المشهد العربي الضبابي، وعدم ارتقاء العرب والمسلمين في دعمهم السياسي والمالي للمقدسيين إلى مستوى التحدي الذي يواجهونه.

فبعد قطع شوط كبير من بناء الجدار العازل حول القدس، أصدرت إسرائيل عدة قرارات بغية تهويدها، ومن أخطر تلك القرارات تهويد التعليم العربي، فضلا عن الشروع في تطبيق قانون أملاك الغائبين الذي يشمل الممتلكات المحجوزة من قبل المؤسسات الإسرائيلية في القدس الشرقية المحتلة.

ويمكن القول إن الإصرار الإسرائيلي على تطبيق حزمة قوانين عنصرية في مدينة القدس يندرج في سياق منهجية المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة للإطباق على المدينة وتهويد كل مناحي الحياة فيها، وصولا إلى الإخلال بالتوازن الديموغرافي لصالح اليهود في المدينة، وبالتالي نسف آمال الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.

وسيشهد المتابع استصدار قرارات إسرائيلية وإحياء أخرى لجهة فرض الأمر الإسرائيلي الواقع الاستيطاني على المدينة، -خاصة أن حكومة نتنياهو الرابعة تم نعتها بأنها حكومة استيطان، وسيترافق ذلك مع مزيد من الاقتحامات من قبل مجموعات استيطانية لباحات الأقصى، وكذلك الإخطارات بهدف هدم عشرات المنازل العربية في أحياء القدس.

وفي سياق سياستها لتهويد معالم مدينة القدس، تبنت حكومة نتنياهو السابقة قرارا بالشروع في تطبيق قانون أملاك الغائبين، ليشمل الممتلكات المحجوزة في القدس الشرقية المحتلة. وتم قبل ذلك إصدار قرار لتهويد قطاع التعليم، وإسقاط الجنسية عن المقدسي الذي غادر القدس للدراسة أو العمل في الخارج قبل عدة سنوات، والهدف من تطبيق تلك القرارات جعل العرب المقدسيين أقلية في القدس، لا تتجاوز نسبتهم 12% من سكان المدينة في عام 2020.

تثبيت المقدسيين لن يتم بزيارة وفود رسمية عربية وإسلامية إليها، ولا عبر بيانات التنديد والشجب، بل بخطوات وإجراءات عملية تبدأ بوقف أي خطوة باتجاه التطبيع مع إسرائيل، والعمل على مقاطعة بضائعها التي أصبحت منتشرة في الأسواق العربية

اللافت أن تطبيق قانون أملاك الغائبين على القدس الشرقية المحتلة سيكون مدخلا للإعلان عن أي ممتلكات فلسطينية في القدس الشرقية، ويقطن أصحابها في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو أي بلد عربي بأنها "متروكة"، وبذلك تفتح الطريق أمام مصادرتها وتطويرها للاستخدام الإسرائيلي فقط، من دون دفع أي تعويضات لمالكيها الفلسطينيين؛ وتبعا لذلك ثمة عشرات آلاف من المقدسيين مهددون بسحب هويتهم وطردهم والسيطرة على عقاراتهم وأرضهم في السنوات القليلة القادمة.

وبعد الإطلالة على حال القدس الراهنة، والإصرار الإسرائيلي على الاستمرار في النشاط الاستيطاني لتهويد الزمان والمكان في جنبات المدينة، لا بد من وضع خطط عربية وإسلامية للحد من السياسات الإسرائيلية الجارفة في مدينة القدس، بهدف الحفاظ على مدينة القدس وهويتها الحضارية، والحفاظ على طابعها العربي الإسلامي والمسيحي.

تثبيت المقدسيين، لن يتم بزيارة وفود رسمية عربية وإسلامية إليها، ولا عبر بيانات التنديد والشجب، بل بخطوات وإجراءات عملية تبدأ بوقف أي خطوة باتجاه التطبيع مع إسرائيل، والعمل على مقاطعة بضائعها التي أصبحت منتشرة في الأسواق العربية، في الوقت الذي قاطعت فيه العديد من الدول الأوروبية البضائع والمنتجات الإسرائيلية، فضلا عن السعي الحقيقي لتقديم الدعم المالي لمواجهة الخطر الذي تواجهه المدينة، ورموزها الدينية، وفي المقدمة منها الأقصى المبارك.

ومن باب أولى إنشاء صندوق عربي-إسلامي لتحرير القدس، عوضا عن ترتيب زيارات وفود رسمية عربية وإسلامية إليها عبر دعوات رسمية فلسطينية بحجة دعم المقدسيين، في وقت تمنع فيه إسرائيل الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر من زيارة المسجد الأقصى، بالإضافة إلى عدد كبير من المقدسيين الذين يرابطون داخل ساحاته المباركة.

ثمة إمكانات لدعم المقدسيين وتثبيتهم، فبمقدور صناديق التنمية العربية دعم مشاريع عديدة قائمة في القدس، أو دعم إنشاء مشاريع صغيرة بعيدا عن تأثيرات الاحتلال الإسرائيلي.

فبالإضافة إلى ضرورة بذل جهود عربية وإسلامية حقيقية لوضع مخططات لمواجهة الأخطار المحدقة بمدينة القدس، لا بد من بدائل لعملية تطبيع محتملة مع إسرائيل عبر هذه البوابة.

ترتيب زيارات وفود رسمية عربية وإسلامية للقدس بحجة دعم المقدسيين يأتي في وقت تمنع فيه إسرائيل الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر من زيارة الأقصى، بالإضافة إلى عدد كبير من المقدسيين الذين يرابطون داخل ساحاته المباركة

وعوضا عن إصرار بعض الحكومات العربية والإسلامية على إرسال شخصيات رسمية لزيارة القدس والأقصى المبارك، وبالتالي الوقوع في فخ التطبيع مع إسرائيل، والاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي للمدينة؛ يمكن الاتفاق بين مجموعة الدول العربية والإسلامية على تخصيص يوم محدد في الأسبوع، يتم من خلاله تسليط الضوء في جميع وسائل الإعلام المختلفة على المخاطر التي تداهم المقدسيين، وحث الشعوب والمؤسسات على المساهمة المالية لدعم المقدسيين وتثبيتهم.

وثمة إمكانية أيضا لتعميم فكرة مسيرة "الأقصى مسؤوليتي"، وهي المسيرة التي نظمتها الحركة الإسلامية التي يتزعمها الشيخ رائد صلاح قبل عدة أيام، سيرا على الأقدام من مسجد الشيخ عبد الله في قلب حيفا باتجاه المسجد الأقصى، للفت انتباه الأمة -شعوبا ومحكومين- لما يتعرض له الأقصى من مخاطر وتدنيس يومي من قبل الإسرائيليين.

ومن باب أولى أن يتم التخطيط لتلك المسيرات بعناوين وشعارات محددة لدعم القدس وأهلها، بحيث تجوب شوارع المدن العربية والإسلامية -في يوم محدد من الشهر- للفت أنظار العالم إلى ما تقوم به إسرائيل على مدار الساعة من محاولات لتهويد القدس وإبعاد المقدسيين عنها بحجج وذرائع مختلفة.

ويبقى القول إن الشباب العربي الذي استطاع الاجتماع بميادين التحرير، مطالبا بإسقاط الأنظمة الشمولية العربية قبل نحو خمسة أعوام، قادر على شحذ الهمم والطاقات العربية لدعم المقدسيين وتثبيتهم في أرضهم.

وثمة اعتقاد راسخ عند الشعب الفلسطيني، بأنه بعد تحقيق أهداف الربيع العربي -وستتحقق رغم المخاضات العسيرة- سيكون للقضية الفلسطينية، وفي المقدمة منها قضية القدس، شأن ووزن نسبي كبير في الحواضن العربية الشعبية والرسمية على حد سواء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.