الاستثناء التونسي بين الوهم والحقيقة

A Member of the Tunisian House of People's Representatives casts her vote during the election for a new President of the Tunisian Assembly at a plenary session in Tunis,Tunisia, 04 December 2014. The 217-seat parliament convened for the first time after the elections that took place on 26 October, where the secularist Nidaa Tounes party, led by former Prime Minister, Beji Caid Essibsi, won 85 seats, followed by the Islamist Ennahda party with 69 seats.
وكالة الأنباء الأوروبية

محطات فارقة
الوجه الآخر
إكراهات أم قناعات؟

العالم يصفق لتونس، صورة تونس المشرقة تشع على العالم، تونس زهرة في حديقة من الأشواك.. أقوال يرددها قليل من قواعد النهضة وكثير من قيادييها للتعبير عن اعتزازهم بالاستثناء التونسي.

كنت سأفرح لهذه الأقوال لولا العناد الذي يمارسه علي عقلي وإلحاحه علي لإخضاعها لمحكه، راوغته أكثر من مرة استجابة لبعض الأوهام الجميلة التي تسكنني ولكن في كل مرة ينتصب كالمارد ملحا في السؤال ومصرا على التحدي قائلا لماذا تتهرب من القيام بذلك لو كنت متأكدا من صحتها ومتأكدا من صوابها وما يضيرك وضعها في ميزان العقل؟

قبل القيام بهذا العمل المفسد للبهجة، دعنا نستعرض المحطات الأهم التي عرفتها بلادنا في السنوات الأربع الأخيرة.

محطات فارقة

التوافق بذرة تم زرعها مباشرة بعد الرابع عشر من يناير/كانون الثاني ثم نمت وترعرعت واشتد عودها وجاء وعد إثمارها فأثمرت ثمرا اختلف الناس في وصفه، قال البعض وهو لا يكاد يصبر على قضمه، إنه جميل المنظر حلو المذاق وقال آخرون إنه كئيب المنظر مر مذاقه

في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2010، انطلقت شرارة الانتفاضة في مدينة سيدي بوزيد ثم امتدت لتشمل كامل البلاد وتتحول إلى ثورة تطيح برأس السلطة فاتحة الطريق للإطاحة بمنظومة الفساد محليا وليصيب لهيبها هشيم الديكتاتورية في معظم دول المنطقة.

خلافا لمنطق الثورات، سلمت ثورتنا أمانة تطبيق أهدافها لمن ثارت عليهم. حتى القصبة الثانية، لم تخرج عن السياق الذي تم رسمه، فكان منتهى المبتغى أن يحل محل الغنوشي، رئيس الحكومة الأسبق، أحد الثلاثة، الباجي قايد السبسي، أحمد المستيري، مصطفى الفيلالي، فوقع الاختيار على أكثرهم دهاء وحنكة، وهكذا أوصلت الثورة الباجي إلى القصبة وأوصله التوافق الذي اتخذ لبوس الديمقراطية على القياس إلى قصر قرطاج.

التوافق بذرة تم زرعها مباشرة بعد الرابع عشر من يناير/كانون الثاني ثم نمت وترعرعت واشتد عودها وجاء وعد إثمارها فأثمرت ثمرا اختلف الناس في وصفه، قال البعض وهو لا يكاد يصبر على قضمه، إنه جميل المنظر حلو المذاق وقال آخرون إنه كئيب المنظر مر مذاقه.

جاءت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 واستبشر الناس بنتائجها، فقد وضعت ضحايا الاستبداد القديم في المقدمة وسلمت لهم مقاليد الحكم على أمل أن يضعوا قطار الثورة على السكة الصحيحة.

في السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، تسلمت حكومة الترويكا الأولى مقاليد الحكم، وبدأ قطار الإفشال والتفشيل في الاستعداد للانطلاق محدثا مكاء وتصدية جعلت الأعين لا ترى إلا ما شان، ولا تسمع الآذان إلا ما ساء من فعل الحكومة، حتى جاء موعد الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول معلنا نهاية السنة الأولى، واعتبر ذلك خطا أحمر ما كان للترويكا أن تتجاوزه بالرغم من تعهد النهضة والتزامها الأخلاقي بذلك.

تعالت الأصوات بالتنديد والوعد والوعيد، وفي غمرة الهلع الذي أحدثته انطلقت رصاصة غادرة فقتلت المناضل المرحوم شكري بالعيد وأصابت الحكومة في مقتل، وأعلن رئيس الحكومة عن مبادرة حكومة التكنوقراط التي أفضت إلى استقالته.

إثر استقالته، تولى علي العريض رئاسة حكومة الترويكا الثانية، تم تحييد وزارات السيادة ودخول العديد من الشخصيات المستقلة، وما كاد الوضع يستقر قليلا لتبدأ الحكومة في معالجة الملفات الأمنية والاجتماعية الحارقة حتى فجعت تونس باغتيال المرحوم محمد البراهمي، النائب بالمجلس الوطني التأسيسي. جاء الاغتيال السياسي الثاني ليقول للنهضة إنها لم تفلح في فك شفرة الاغتيال السياسي الأول وإنها لم تفهم أن المطلوب منها الرحيل وليس التعديل.

في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2013، انطلق الحوار الوطني لينتهي إلى إنجاز المهام التأسيسية واستقالة حكومة علي العريض لتحل محلها حكومة المهدي جمعة التي لا طعم لها ولا رائحة.

يصر بعض قياديي النهضة على القول بأن التنازلات التي أقدمت عليها الحركة هي من صميم منطق التوافق وخدمة لمصلحة البلاد العليا ولا علاقة لها بإكراهات الواقع، ولتبرير ذلك يتم استدعاء ما تناسب من الوقائع التاريخية ومن النصوص المؤيدة

أجريت الانتخابات التشريعية وأعطت نتائجها موقع الصدارة لحركة نداء تونس دون أن تمكنها من الأغلبية المطلقة، وجاءت النهضة في المرتبة الثانية بالرغم من خسارتها لثلث ناخبيها، بينما منحت الانتخابات الرئاسية التي أجريت في دورتين للباجي قايد السبسي استحقاق الجلوس على كرسي الرئاسة.

الوجه الآخر
بإنجاز الدستور وإجراء الانتخابات وإفراز المؤسسات التي أدخلت تونس إلى الجمهورية الثانية، يقول الساسة التونسيون إنهم بذلك استطاعوا أن يبلغوا بتونس بر الأمان مع اختلاف في تحديد معنى الأمان، بعضهم يقول أنقذناها من السيناريو المصري ومن فوضى الجوار ومن تناحر الأشقاء، بل يذهبون أبعد من ذلك ويدعون أنهم بذلك يحققون أهداف الثورة والبعض الآخر يقول أنقذناها من حكم الإسلاميين.

لا يهمنا كثيرا القول الثاني، فقد كان العنوان الكبير الجامع والإستراتيجية التي حكمت فعل المعارضة منذ انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول، ولكن يهمنا القول الأول باعتباره يريد أن يتموقع في أفق الثورة، فهل يعتبر عودة التجمع تحت جبة النداء خدمة لتونس وإنقاذا لها، وهل يعتبر تحقيقا لأهداف الثورة؟ ما الذي حصل بالفعل؟

كانت تونس وبعد الاغتيال السياسي الثاني وقبل انطلاق الحوار الوطني تعيش على وقع الانقلاب "الوحشي" حشدا للشارع وتحفيزا لقوات الأمن والجيش على التمرد ودعوة لاستهداف المقرات السيادية، لم تكن استجابة الشارع في المستوى المأمول، ولم يستجب الجيش للنداء، واختلف الانقلابيون حول جدوى استهداف المقرات السيادية وحل المجلس الوطني التأسيسي.

جاءت فكرة الحوار الوطني لتنقذ الانقلاب الوحشي من الانسداد الذي وصل إليه، وليصبح انقلابا ناعما. كان الحد الأقصى للحوار الوطني استقالة حكومة السيد علي العريض قبل تحقيق المهام التأسيسية، وحده الأدنى استقالة الحكومة بعد المصادقة على الدستور والمصادقة على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.

استطاعت النهضة أن تدير المفاوضات بدرجة عالية من الاقتدار والحرفية، ونجحت في التوقيع على الدستور قبل استقالة الحكومة. فقالت المعارضة: نجحنا في إسقاط الحكومة وإجبار النهضة على التخلي على الحكم، وقالت النهضة: صادق المجلس الوطني على الدستور وتم بموجبه تحديد موعد للانتخابات التشريعية والرئاسية. في الأثناء تخلت النهضة عن قانون تحصين الثورة وعن تحديد سن قصوى للترشح للرئاسة.

إكراهات أم قناعات؟
يصر بعض قياديي النهضة على القول بأن التنازلات التي أقدمت عليها الحركة هي من صميم منطق التوافق وخدمة لمصلحة البلاد العليا ولا علاقة لها بإكراهات الواقع، ولتبرير ذلك يتم استدعاء ما تناسب من الوقائع التاريخية ومن النصوص المؤيدة.

إن المتأمل في مجريات الأمور يتوصل إلى أن الاستثناء التونسي يكمن في الإبداع في إسقاط ديكتاتورية من أعتى الديكتاتوريات والإبداع في تمكينها من العودة عبر انقلاب ناعم طرفاه صندوق الانتخابات وشجرة التوافق التي استلطف الجميع الجلوس في ظلالها

يبادرون المعترض باستفهام مغالط: ماذا سنفعل بمليونين ونصف من منتسبي حزب التجمع المنحل؟ أنلقي بهذا العدد في السجن؟ ألم يقل النبي عند فتح مكة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؟ ألم يقل: اذهبوا فأنتم الطلقاء؟

تكمن المغالطة في أمرين, أولا ليس هناك من يقول بإقصاء هذا العدد الكبير من منتسبي التجمع، ولكن المقصود هو إبعاد الدائرة الأولى، تلك التي كانت لها مسؤولية سياسية مباشرة عن دوائر القرار، فالمشكلة لا تكمن في ضرورة استيعاب النظام القديم ولكن في عدم تمكينه من صناعة القرار واتخاذه.

استيعاب من هذا النوع استيعاب معطل لتحقيق أهداف الثورة. فكيف يمكن أن نحقق الحد الأدنى من أهداف الثورة بإعادة تمكين منظومة الفساد القديمة من السلطة من جديد؟ سؤال تتهرب النهضة من الإجابة عنه، بل تقول إن تاريخ الرابع عشر من يناير/كانون الثاني مجرد فاصل زمني بين مرحلتين، فكل الفاعلين السياسيين بعد ذلك التاريخ ينتمون لفضاء الثورة. الأمر الثاني أن الطلقاء هم الذين خضعوا للنظام الجديد وليس العكس، بل إن التاريخ يبين أنهم بمجرد تمكنهم من السلطة عادوا إلى نظام الملك العضوض في عهد بني أمية.

إن المتأمل في مجريات الأمور في تونس يتوصل إلى أن الاستثناء التونسي يكمن في الإبداع في إسقاط ديكتاتورية من أعتى الديكتاتوريات والإبداع في تمكينها من العودة عبر انقلاب ناعم طرفاه صندوق الانتخابات وشجرة التوافق التي استلطف الجميع الجلوس في ظلالها.

قدر المبادئ أن تكون على الدوام ضحية التعارض بين منطق المقاومة ومنطق الحكم؟
قالوا إنها موازين القوى، تلك الكلمة التي صارت مفتاحا لكل بلاء. ما ذنب المستبدين إذا، أولئك الذين حكمونا وأذاقونا الأمرين، ألم يحكموا في إطار ذات الموازين؟ نعم من الضروري أن نفهم موازين القوى من أجل تعديلها لا من أجل تثبيتها، من أجل أن نترقى لا من أجل أن نتردى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.