الحاجة إلى إسلام سياسي جديد

إعلاميون شنوا هجوم واسع على الإسلام مما اغضب قطاعات عريضة من المواطنين - الصورة خاصة بالجزيرة نت
الجزيرة

رغم أن الأفكار الأولية لهذا المقال قد تشكلت في ذهني منذ مدة غير قصيرة فإنني ترددت كثيرا في نشرها، ليس من موقع التهيب من الإفصاح عن القناعات، ولكن لأن طبيعة المناخات العامة في العالم العربي لا تشجع على النقد البناء وطرح الأسئلة الكبرى.

فالإسلاميون يواجهون في مواقع عدة سياسات أمنية شرسة بموازاة تراجع موجة التغيير في المنطقة وعودة نذر التسلط العسكري مجددا، وفي مثل هذه الأجواء يخشى المرء أن تفهم هذه الدعوة للتجديد والمراجعة وكأنها هروب من تحمل المسؤولية واندراج في موجة التحامل التي انخرطت فيها قوى كثيرة.

وعليه من المهم بمكان التأكيد هنا على أن عملية النقد هذه إنما يراد من ورائها البناء والتطوير المسؤولين، وليس التحامل والتجريح لظاهرة نحن جزء منها، فضلا عن كونها تقدم دليلا على ديناميكية هذا التيار الفكري العريض وقدرته على التطور والنمو.

لا بد من لفت الانتباه أولا وقبل كل شيء إلى أن مصطلح الإسلام السياسي ورغم ما يعتريه من نقائص فإنه يظل مع ذلك الأكثر تعبيرا عن الظاهرة مقارنة بما هو متداول من مصطلحات وتسميات رائجة في الساحتين السياسية والإعلامية

ولعل أهم الأسئلة الكبرى التي تطرح نفسها في هذا الصدد: ما المقصود بإسلام سياسي جديد؟ وما هي خيوط التمييز بين ما هو جديد وما هو قديم في سياق الإسلام السياسي؟ وما الذي يتوجب تجاوزه في هذا الميراث وما الذي يتوجب الاحتفاظ به؟

لا بد من لفت الانتباه أولا وقبل كل شيء إلى أن مصطلح الإسلام السياسي ورغم ما يعتريه من نقائص فإنه يظل مع ذلك الأكثر تعبيرا عن الظاهرة مقارنة بما هو متداول من مصطلحات وتسميات رائجة في الساحتين السياسية والإعلامية.

ثانيا: لابد من تجريد كلمة جديد هنا من القيمة المعيارية، فالحديث عن إسلام سياسي جديد لا يعني بالضرورة أن كل ما هو جديد ومستحدث ممدوح أو أن كل قديم مذموم، ولكن هذا لا يعني أيضا التنكب عن التجديد والتطوير بذريعة أفضلية الماضي وكل ما هو قديم.

لا شك في أن هناك مساهمات فكرية وسياسية مهمة في إطار تيار الإسلام السياسي العريض في أكثر من موقع في العالم الإسلامي، إلا أنها مع ذلك لم تفصح عن نفسها بصورة واضحة ومحددة المعالم والشخوص، وبقيت عبارة عن عناصر متناثرة هنا أو هناك في حاجة إلى من يعطيها روحا ووحدة ناظمة.

ولعل الإضافات الجادة التي قدمتها شخصيات فذة في التاريخ القديم والحديث تعود في قدر كبير منها إلى جمع هؤلاء بين التأمل الثاقب والممارسة العملية، ولك أن تقول التفكير المتبصر في أحوال الاجتماع السياسي، كما هو شأن ابن خلدون ومكيافيلي قديما، وخير الدين التونسي وجفرسون وفكلاف هافل حديثا.

قدم الإسلاميون الأتراك والمغاربة والماليزيون إضافات مهمة لتيار الإسلام السياسي عبر فتح دروب جديدة في مجال العمل الشعبي وإدارة شؤون الحكم، إلا أن هذه التجارب ظل يغلب عليها الطابع العملي البراغماتي، ولم تكن مصحوبة بفكر ونظر، ولعله يحسب للإسلاميين الأتراك واقعيتهم وميلهم للانفتاح على كل جديد ونافع ولكنهم على صعيد الفكر ظلوا مستهلكين ومعتمدين في الأغلب على الترجمة والنقل.

فالطيب أردوغان وعبد الإله بن كيران وأنور إبراهيم على اختلاف خلفياتهم وتجاربهم هم سياسيون ورجال دولة مهرة، وهم معنيون بتحقيق أكثر ما يمكن من النجاعة العملية أكثر مما هم معنيون بالتفكير والكتابة، ولذلك قل وندر أن نجد لهم نصوصا مؤسسة أو مؤطرة لخطهم السياسي العام، وربما يمثل الترابي في السودان والغنوشي في تونس وإلى حد ما داود أوغلو في تركيا وخاتمي في إيران -رغم ما بينهم من اختلاف الموقع والخلفية- استثناء من هذه القاعدة العامة.

يحتاج ما سميناه هنا تيار الإسلام السياسي الجديد إلى جانبين اثنين متكاملين، أولهما الهدم أو التخلص من الأفكار التي لم يثبت نفعها وجدواها، في إطار ما سماها مالك بالنبي الأفكار الميتة، وثانيهما تأسيس أطروحات جديدة تستجيب لحاجات المرحلة وأوضاع العالم الإسلامي، وسنكتفي هنا في هذه المقالة بذكر ما يجب مراجعته أو هدمه، على أن نبسط القول في مناسبات قادمة ملامح وتوجهات هذا التوجه الجديد الذي ندافع عنه.

يجب التخلي عن الهالة السحرية والعقدية التي أضفيت إلى مقولة الدولة الإسلامية، وتجنب الفهم الشكلاني والقانوني للشريعة، إذ لا توجد دولة إسلامية أو غير إسلامية بل يوجد مجتمع مسلم كحقيقة موضوعية ومسلم بها في مجتمعات ذات أغلبية مسلمة

تشكل تيار الإسلام السياسي التقليدي مع جماعة الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي تحت ضغط موجة العلمنة وتفكك عرى السلطنة العثمانية التي كانت تمثل -رغم علاتها- الحاضنة الأساسية للإسلام السني، وقد أحدث ذلك زلزالا كبيرا في الوعي والوجدان الإسلاميين، وكان من النتائج المباشرة لذلك تشكل مفهوم الجماعة الصفوية أو الطلائعية التي تأخذ على عاتقها إعادة بناء الدولة الإسلامية المفقودة.

كان رشيد رضا أول من نظر لهذه الفكرة في كتابه الشهير المعنون بالخلافة، وقد بدأه إصلاحيا عثمانيا لينتهي به المطاف -بعد إلغاء أتاتورك رسميا نظام الخلافة- إلى بلورة فكرة حزب الإصلاح الذي يأخذ على عاتقه إعادة بناء الخلافة بعد أن سئم من صراعات الملكيات العربية على وراثة الأتراك.

ثم جاء من بعده مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا الذي تسلم منه مباشرة مجلة المنار الإصلاحية ليقنن فكرة جماعة الإصلاح أكثر ممثلة في الإخوان المسلمين، باعتبارهم روحا تسري في جسد الأمة على حد تعبيره، وهم المؤتمنون على حاضر الإسلام ومستقبله في ظل غياب الكيان السياسي الرسمي.

وتمثل الجماعة هنا وفق تصور البنا رابطة عقدية متينة تقوم على الولاء والطاعة في المنشط والمكره، ورغم أن الحركة الإسلامية قد نشأت في أصلها تيارا شعبيا مفتوحا وأقرب إلى التيار الثقافي العام منها إلى الجماعة المغلقة فإن مناخ المواجهات السياسية قد دفعها في ما بعد إلى مزيد التحصن الداخلي والمبالغة في التراتبية التنظيمية الهرمية المفاصلة للمجتمع والدولة على السواء.

طبعا هذا النقد لا ينقص شيئا من بلاء الإسلاميين وصدق سريرتهم في الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية وفي رد المخاطر الخارجية في أكثر من موقع في العالم الإسلامي، والعربي منه على وجه الخصوص، ولا دورهم المقدر في تهذيب الأخلاق العامة وتنمية روح العمل المنظم والمنضبط لدى قطاعات واسعة، خصوصا بين الشباب المثقفين والمتعلمين.

احتلت فكرة الدولة الإسلامية ومعها مقولة الشريعة موقعا مركزيا في خطاب الإسلاميين المحدثين، خصوصا لدى الأب المؤسس حسن البنا، ثم جاء من بعده أبو الأعلى المودودي من شبه القارة الهندية بخلفيته القانونية ليغرق أكثر في تقنين معنى الدولة الإسلامية وتأصيل مفاهيم الحاكمية وأصل الشرعية وغيرها، ثم أعقبه سيد قطب ليزيد في تجذير عقائدية الدولة الإسلامية ونحت مقولات الحاكمية والسيادة والمفاصلة وغيرها.

ورغم أنه من الصعب القول إن التيار الإسلامي قد توقف عند هذه الحقبة فقد قدم جيل جديد من الإسلاميين مساهمات أكثر جدية وعمقا مثل راشد الغنوشي وسليم العوا وفهمي هويدي ومنير شفيق وعبد الوهاب الأفندي إلا أن البصمات التأسيسية الأولى بقيت هي الغالبة.

أصبح شعار الدولة الإسلامية يلهب المشاعر الجماعية في مواطن كثيرة من العالم الإسلامي بالتزامن مع تعمق إخفاقات دولة الاستقلال واغترابها عن المجتمع، فقد خاضت الجبهة الإسلامية للإنقاذ مثلا في الجزائر معركتها الانتخابية في تسعينيات القرن الماضي تحت شعار "دولة، دولة إسلامية" وتمكنت من حشد جمهرة غفيرة من الجزائريين حول هذا المطلب الحماسي، كما حصل شيء من هذا في مصر والباكستان وغيرهما.

وربما تمثل النهضة التونسية (وقبلها الحالة الإسلامية التركية منذ المرحوم أربكان) خروجا عن هذا السياق العام، حيث اختطت لنفسها وجهة مغايرة على صعيد الخطاب على الأقل منذ ثمانينيات القرن الماضي من دون أن تأخذ مسافة واضحة من تيار الإسلام السياسي التقليدي.

الحقيقة أن فكرة الدولة الإسلامية هي مقولة مستحدثة ولا يكاد يعثر المرء على أثر لها في الفكر السياسي الإسلامي القديم الذي كان يركز أكثر على مقولات أخرى من قبيل البيعة وشروط الولاية، والشوكة، وحكم الغلبة وغيرها.

المهمة التاريخية المطروحة على العالم الإسلامي اليوم ليست إقامة الدولة الإسلامية أو العلمانية، بل قيام دولة محايدة وغير تدخلية ولكنها في نفس الوقت تلتزم باحترام المجتمع وثقافته العامة، فليس من مشمولات الدولة تحديد نظام القيم العامة واختيارات الأفراد بقدر ما يقتصر دورها على تنظيم الشأن العام

أما الشريعة فهي لم تعن في التاريخ الإسلامي مدونة قانونية مكتملة ومغلقة على نحو ما يفهمه القانونيون المحدثون بقدر ما كانت تعني المنظومة القيمية والروحية العامة التي يدخل من ضمنها التشريع بمعناه العام حيث لا ينفصل الأخلاقي عن التشريعي، كما أنها كانت بمثابة خطاب عام حال في المجتمع أكثر مما كانت مشروعا للدولة.

ويقدم الباحث الأميركي من أصل فلسطيني وائل حلاق في كتابه "الدولة المستحيلة" وقبل ذلك عمله الضخم حول الشريعة باللغة الإنجليزية تحليلا علميا ضافيا لهذا الموضوع.

وعليه يمكن القول هنا إن مقولتي الدولة الإسلامية وكذا الشريعة هما مقولتان مستحدثتان ولا تخلوان من قدر كبير من الغموض والالتباس، ولو سأل أحدنا ما هي هذه الدولة الإسلامية المنشودة وما هي معالمها وأسسها لا يكاد يظفر بجواب واضح أو قاطع على هذا الصعيد، وربما يقدم هذا الاهتمام المفرط بالدولة وربط الشريعة بهذا الكيان السياسي مظهرا من مظاهر العلمنة الخفية.

من هنا وجب التخلي عن هذه الهالة السحرية والعقدية التي أضفيت إلى مقولة الدولة الإسلامية وتجنب الفهم الشكلاني والقانوني للشريعة، إذ لا توجد دولة إسلامية أو غير إسلامية بل يوجد مجتمع مسلم كحقيقة موضوعية ومسلم بها في مجتمعات ذات أغلبية مسلمة.

المهمة التاريخية المطروحة على العالم الإسلامي اليوم ليست إقامة الدولة الإسلامية أو العلمانية، بل قيام دولة محايدة وغير تدخلية ولكنها في نفس الوقت تلتزم باحترام المجتمع وثقافته العامة، فليس من مشمولات الدولة تحديد نظام القيم العامة واختيارات الأفراد بقدر ما يقتصر دورها على تنظيم الشأن العام.

بينت التجربة العملية أن فرض الأسلمة بصورة فوقية وبأدوات الدولة كما حصل في إيران وأفغانستان أو فرض العلمنة الفوقية بأدوات الدولة كما حصل في تركيا الحديثة وإلى حد ما في إندونيسيا سوكارنو والدول الشيوعية في آسيا الوسطى قد انتهى كله إلى مأزق كبير.

يختزن الإسلام طاقة دفع روحية وأخلاقية هائلة من الممكن أن تمثل معينا مهما لتصويب مسار العصر ومده بالقصد والوجهة الأخلاقية التي يفتقدها اليوم، كما أنه يعطي دافعا مهما للنهوض والتنمية في إطار ما سماها الشيخ الثعالبي روح التحرر، ولكن هذا الإسلام ليس قالبا أيديولوجيا محددا ولا هو نظرية مكتملة في الدولة، وبهذا المعنى نحن في حاجة إلى تجاوز ما سميناها سابقا السرديات الكبرى للعلمنة والأسلمة على السواء.

ضمن هذه الأسس العامة يمكن أن نتحدث عن إسلام سياسي جديد لا يتردد في الأخذ بمكتسبات التيار الإسلامي الحديث ولكنه لا يتردد أيضا في تجاوز معوقاته وهناته الفكرية والسياسية، ولعل القدر الإلهي ينتدب تونس دون غيرها لبلورة معالم وآفاق هذا التيار الجديد والواعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.