مصر بين ديمقراطيتين

TOPSHOTSAn Egyptian woman tries to stop a military bulldozer from hurting a wounded youth during clashes that broke out as Egyptian security forces moved in to disperse supporters of Egypt's deposed president Mohamed Morsi in a huge protest camp near Rabaa al-Adawiya mosque in eastern Cairo on August 14, 2013. The operation began shortly after dawn when security forces surrounded the sprawling Rabaa al-Adawiya camp in east Cairo and a similar one at Al-Nahda square, in the centre of the capital, launching a long-threatened crackdown that left dozens dead. AFP PHOTO /MOHAMMED ABDEL MONEIM
الفرنسية

كما كانت "ديمقراطية الأنياب" وليدة بيئة الاستبداد المصري حيث "الديمقراطية الأنيابية" بدلا من "النيابية" فإن الاستبداد المصري العريق قد استحدث هذه الأيام ديمقراطية أخرى أخطر بكثير من ديمقراطية الأنياب وهي "ديمقراطية الدم".

تلك الديمقراطية تعبر بوضوح ودون تجمل عن الديمقراطية التي يقوم بتأسيسها الجنرال الجديد، وهو ما لاحظه العالم كله منذ 3 يوليو/تموز، حيث شيوع وانتشار "الدم" في شوارع وميادين بل ومساجد مصر بصورة غير مسبوقة، فضلا عن مقرات الأمن الوطني ومراكز الشرطة والمعتقلات ومراكز تدريب الأمن المركزي التي كانت وما زالت مركزا لإدارة عمليات التعذيب والقتل خارج القانون.

إذا كانت "ديمقراطية الأنياب" قد حكمت مصر منذ كامب ديفد فإن مبارك هو الذي حاز النصيب الأوفر والزمن الأوفى في تطبيق تلك الديمقراطية التي حكمت مصر لمدة ثلاثين عاما قبل أن تنتقل إلى ديمقراطية الدم حيث الاستخدام الأوسع للبلطجية

وإذا كانت "ديمقراطية الأنياب" قد حكمت مصر منذ كامب ديفد حيث بدأ السادات يضيق بالمعارضة ويرفض أي نقد ويلعن كل ناصحيه سواء كانوا من مصر أو العالم العربي أو الإسلامي حتى أعمل أنيابه وأنياب ديمقراطيته في قراره الأخير باعتقال كل رموز وقادة المعارضة والعمل السياسي في مصر في خريف 1981 فإن مبارك هو الذي حاز النصيب الأوفر والزمن الأوفى في تطبيق تلك الديمقراطية التي حكمت مصر لمدة ثلاثين عاما.

ومن حظ بلادنا أن تنتقل بعد ذلك "لديمقراطية الدم" أو ديمقراطية الأنياب والأظافر والسنج والمطاوي والسيوف ومواسير الحديد، حيث الاستخدام الأوسع لجيش البلطجية في تأسيس الديمقراطية الجديدة منذ 3 يوليو/تموز، فضلا عن استخدام الرصاص والدبابات والطائرات التي أصبحت متلازمة مع هذه الديمقراطية، ومن الطريف أن ذلك قد تم أيضا في ظل علاقات متميزة مع الكيان الصهيوني حتى أنك لا تخطئ لو قلت إن "القضية الإسرائيلية" قد أصبحت هي قضية النظام المركزية!

ولما انبرى أحد مدعي الثقافة لتبرير هذه الدموية ومحاولة شرعنتها وربطها بالتحول الديمقراطي كان من الطبيعي أن تتوافق كيمياء الرجل مع كيمياء مصاصي الدماء الجدد، فما كان من رأس النظام إلا أن أكد أنهما يعملان على موجة واحدة وأن هذه الديمقراطية الدموية هي ديمقراطية مصر في الحقبة الأخيرة من حكم العسكر فاختاره وزيرا للثقافة بعد أن نما إلى علمه ما "نم" به (نمنم) في اجتماعه السري الخطير الذي فضحه التسريب.

ورغم أن مصطلح "ديمقراطية الدم" يعد حديثا على قاموس المصطلحات السياسية فإنه في الحقيقة يعبر عن الحالة المصرية بعد 3 يوليو/تموز ومنذ أكثر من عامين، فالجنرالات يعيشون منذ ثورة يناير حالة من الرعب والخوف الشديد من انقراض نظامهم الذي وفر لهم على مدى أكثر من ستين عاما امتيازات لم يكونوا يحلمون بها لدرجة أنه أسس لهم طبقة جديدة أصبحت تحتكر إلى جانب السلطة أهم منابع وموارد الثروة في مصر وجعل مصر كلها إقطاعيات خاصة بهم بعد أن ألغوا الإقطاعيات السابقة عقب 1952.

رغم أن مصطلح "ديمقراطية الدم" يعد حديثا فإنه يعبر عن الحالة المصرية بعد 3 يوليو، فالجنرالات يعيشون منذ ثورة يناير حالة من الرعب والخوف الشديد من انقراض نظامهم الذي وفر لهم على مدى أكثر من ستين عاما امتيازات لم يكونوا يحلمون بها

ولهذا جاء انقلابهم محملا بعنف غير مسبوق ودموية لم تعرفها مصر على طول تاريخها، ولم يكن هناك أي داع لهذه الدموية أو هذا العنف نظرا لطبيعة الشعب المصري الهادئة والمتسامحة إلى أبعد الحدود، فضلا عن القطاعات الواسعة المتواكلة بطبيعتها وطبيعة البيئة المتوحشة التي حاصرها بها الانقلاب، ومع ذلك جاءت هذه الدموية لتكشف مدى انزعاج الجنرالات من الحالة الثورية التي عمت المجتمع، وموجة التحرر التي أصابت الشباب بـ"لوثة لوثت الأجواء السياسية".

ولا يخفى على المحلل للأهداف التي يسعى إليها الانقلاب أن يلاحظ تلك المحاولة الحثيثة لتجديد دماء النظام التي تجمدت، وشرايينه التي تصلبت، وذلك بعد حكم جاوز الستين عاما، ومن ثم وجدنا أنفسنا أمام محاولة تدشين حقبة جديدة للحكم العسكري تحافظ على تماسكه واستمراره، كما تعبر عن حلم عبد الحكيم عامر الذي كان يريد أن يرى مؤسسة الرئاسة وقد أصبحت مجرد إدارة من إدارات القوات المسلحة، وهو ما يحتاج لجهود مضاعفة وعمليات تركيع واسعة.

فالمتابع لطبيعة حكم الجنرالات منذ 1952 يجده لم يواجه أي عقبات مثل التي بدأ يواجهها منذ ثورة يناير، حيث تمت فضيحة النظام وكشفت مؤامراته وفساده على مدى ستين عاما وبدا فشله في كل المجالات، وهو ما أوصل البلاد إلى هذه الوضعية المتدنية في كل شيء سواء على مستوى العدالة الاجتماعية أو الحياة الديمقراطية أو الكرامة الإنسانية، فضلا عن تقزم دور مصر على مستوى الإقليم، إضافة إلى رائحة فسادهم التي زكمت الأنوف.

ولهذا لم يعد أمام النظام للاستمرار بالحكم فضلا عن تدشين حقبة جديدة سوى المواجهة الدموية المفتوحة مع الشعب، ولم يعد يمتلك وقودا لدباباته سوى من هذا السائل الأحمر الذي يسمونه دماء بشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.