مأساة شارلي إيبدو: وجهة نظر أوروبية

Police officers carry the coffins draped in the French flag of the three Police officers killed in the recent Islamist attacks, on January 13, 2015

أول ما تبادر لذهني فور سماع أخبار الهجوم على مكتب جريدة "شارلي إيبدو" في باريس أن الهجوم "يعني إعلان الحرب". ومع تطور الأحداث، بدا أني لم أكن الوحيد الذي جالت بخاطره هذه الفكرة، فقد ذكر زعيم حزب من أجل الحرية الهولندي غيرت فيلدرز كلمة "الحرب" في تعليقه على الهجوم.

وإذ بي فجأة أجد نفسي وقد وافقت شخصا طالما كنت على خلاف تام مع أفكاره السياسية (أي السيد فيلدرز). ولكن بمجرد عرضه لفكرته التالية، أدركت أنني ما زلت على خلاف معه.

فبالنسبة للسيد فيلدرز "نحن" بالفعل في حرب مع الإسلام منذ أمد طويل. أما بالنسبة لي، فأنا أتابع الأحداث من الخارج، وأرى طرفين يتأهبان لخوض معركة لا يمكن استبعاد أي صورة من صور العنف فيها.

وبحسب ما أرى، فلن تسفر هذه المأساة إلا عن خاسرين. وسوف أشرح أسباب هذا فيما يلي:

فيما أرى؛ كان الهدف الذي حاول المهاجمون تحقيقه هدفا مزدوجا: أولا، هناك افتراض محتمل بأن الهجوم جاء انتقاما من جريدة شارلي إيبدو لنشرها -بشكل منتظم- صورا كارتونية تسخر من النبي محمد ومن الدين الإسلامي بشكل عام.

مرتكبو هذا الهجوم يضيّقون الخناق عمدا على إخوانهم المسلمين، ليعلموهم بوضوح أنه من الأفضل لهم أن يعتنقوا الإسلام الحق، بما لا يمت بصلة إلى القيم الغربية والديمقراطية. وهذا يجعل من مسلمي أوروبا من الخاسرين في هذه المأساة

ولا يمكن إنكار أنهم قد قاموا بالفعل بنشر تلك الصور الساخرة؛ ولعلي أضيف، بصورة غاية في الخفة والإمتاع. فهم كانوا يدفعونني عادة للضحك من القلب.

ولكن -وكما هو واضح- لم يكن هذا الفعل مبعثا للضحك بالنسبة لمنفذي الهجوم. فقد انتقموا لما اعتبروه إهانة غير مقبولة وأودوا بحياة عشرة من أبطال حرية التعبير، من بينهم رئيس تحرير صحيفة شارلي إيبدو. فبدم بارد، أردوهم بالبنادق الآلية.

وكان من بين الضحايا ضابطا شرطة ليس لهما ذنب سوى أنهما كانا يؤديان واجبهما. وكان هؤلاء الضحايا أول الخاسرين في هذه المأساة.

ولعل الهدف الثاني الذي أراده منفذو الهجوم هو إرسال رسالة للمسلمين في أوروبا الذين لا يزالون يشعرون بالراحة بوصفهم مواطنين أوروبيين.

فمرتكبو الهجوم يعلمون أن ردود الفعل من شعوب أوروبا ستأتي -على الأرجح- بلا رحمة، وأن الكثير من الأوروبيين سيحمّلون "المسلمين" المسؤولية عما حدث، وسيدينونهم على ما "نفذوه" من هجوم جبان.

وعلى هذا، فمرتكبو هذا الهجوم يضيّقون الخناق عمدا على إخوانهم المسلمين، ليعلموهم بوضوح أنه من الأفضل لهم أن يعتنقوا الإسلام الحق، بما لا يمت بصلة إلى القيم الغربية والديمقراطية. وهذا يجعل من مسلمي أوروبا المجموعة الثانية الخاسرة في هذه المأساة.

ولكن ماذا عن السياسيين غير الشعبويين؟ هل بإبمكانهم ربما التأثير على الرأي العام من خلال ردود أفعالهم إزاء هذا الهجوم وتفسيراتهم له؟ أليس بمقدورهم إقناع الناس بأن هذا الفعل صنيع قلة قليلة من المتطرفين الذين لا يمثلون على الإطلاق الأغلبية العظمى من المسلمين في أوروبا؟ أخشى أن هذا يفوق ما يمكن أن نطمح إليه.

إلى متى يمكن للسياسيين أن يستمروا في القول -بلا عاطفة وبمنتهى الجدية- إن كل اعتداء من هذه الاعتداءات (بدءا من حادث قطع الرأس في لندن، والهجوم على المتحف اليهودي في بروكسل، والمجزرة بأتاوا، وحتى احتجاز الرهائن بسيدني بأستراليا) كان صنيع شخص مختل أو جماعة مسلحة صغيرة؟ وحتى إن كان هذا صحيحا فإن الأمر يستلزم قوى هائلة لإقناع الناس بهذا.

ما دام السياسيون الأوروبيون الشعبويون منافقين وغير صادقين، فبادعائهم أن كل مسلم هو إرهابي محتمل أصبح كل مسلم في أوروبا الآن -أكثر من أي وقت آخر- في خطر من تسوية حسابات السياسيين الشعبويين

وحتى وإن حالفهم الحظ في هذا، فآثار ذلك يجب ألا تكون إيجابية أيضا. وهذا يجعل من رجال سياستنا العاديين المجموعة الثالثة من الخاسرين.

والاحتمال الأرجح أن يقف السياسيون الشعبويون -من أمثال فيلدرز وزعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية ماري لوبان- في انتظار الاستفادة من هذه المأساة. فمن المؤكد أنها سوف تكسبهم مزيدا من الأصوات في الانتخابات القادمة في كل من هولندا وفرنسا. فها هي تحذيراتهم وتنبؤاتهم قد تحققت.

ولكن في حقيقة الأمر وما داموا منافقين وغير صادقين، فبادعائهم أن كل مسلم هو إرهابي محتمل أصبح كل مسلم في أوروبا الآن -أكثر من أي وقت آخر- في خطر من تسوية حسابات السياسيين الشعبويين. ولكن نظرا لأفعالهم الخادعة طوال هذه الفترة، فلا يمكن لهؤلاء السياسيين الشعبويين أن يكونوا من الفائزين، وهذا ما يجعلهم المجموعة الرابعة من الخاسرين.

وأكبر ضحايا هذه المأساة هم شعوب أوروبا الذين لم يطالبوا يوما بهجرة المسلمين في المقام الأول، وإنما فرضت عليهم عبر حكوماتهم والشركات الكبرى. فهم تروعهم رؤية معركة تتطور أحداثها في شوارعهم وميادينهم لم يطالبوا بخوضها يوما.

ومنذ وقت ليس ببعيد، كنت أتنهد بين الحين والآخر -بل وأشعر أحيانا بأني أضرب رأسي في عرض الحائط- وأنا أتبنى موقفا وسطا، محاولا إقناع الناس بأن الغالبية العظمى من المسلمين إنما يريدون أن يعيشوا حياة شبيهة بحياتي وحياتك. بينما الآن أتساءل إن كان علي أن أبدأ بدلا من ذلك في البحث عن مخابئ المتفجرات. حقا، إنني أخشى التفكير فيما قد تؤول إليه الأحداث بعد ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.